... ومولانا الذى تحمل هذه الرواية اسمه هو فاروق الأول (1920-1965) ملك مصر والسودان. أرسله أبوه الملك فؤاد الأول إلى إنجلترا لإتمام دراسته ولكنه اضطر إلى العودة بعد عام عقب وفاة أبيه. عُين ابن عمه الأمير محمد على وصيا على العرش حتى بلغ فاروق سن الرشد فى 1937. تزوج من صافيناز ذو الفقار (فريدة) ثم طلقها وتزوج ناريمان صادق. أجبره الجيش على التخلى عن العرش لإبنه الأمير أحمد فؤاد ومغادرة مصر فى 26 يوليو 1952 حيث سافر إلى إيطاليا وأقام فى جزيرة كابرى. ألغت مصر الملكية وأقامت أول جمهورية برئاسة محمد نجيب ثم جمال عبد الناصر. توفى فى روما عن خمسة وأربعين عاما. هذه هى الحقائق المجردة التى بنى محمد العون حولها دراما إنسانية يختلط فيها الخير بالشر، والقوة بالضعف، والشفقة بالشماتة. لم تعوز فاروقا العظات – كما كتب عنه العقاد بعد سقوطه – فقد رأى حوله من مصارع الملوك والرؤساء والأمراء ما كان خليقا أن يرده إلى جادة الصواب، لكن ضعفه الطبيعى أمام المغريات – والسلطة، بكل أشكالها، مفسدة – إلى جانب الحاشية الفاسدة التى مدت له فى حبال الغى واللهو والطغيان، وغياب القدوة الصالحة فى محيطه الأُسرى الأقرب، كلها دفعت به إلى هاوية السقوط. وكما أوحت سيرة فاروق للدكتور هانى مطاوع بمسرحيته "آخر همسة" أوحت إلى محمد العون بهذه الرواية التى تستخدم تقنية أقرب إلى المونتاج السينمائى، بما يحويه من نقلات فى المكان والزمان: إننا نرى هنا فاروقا فى سياقات مختلفة، وأماكن متعددة، ولحظات زمنية متباينة، تكشف عن نقاط القوة والضعف على السواء فى شخصيته: نراه فى سنوات دراسته فى إنجلترا يسيم سرح اللهو مع زملائه من الطلاب الإنجليز، وفى سهراته الرمضانية وأدائه صلاة الجمعة فى المسجد حتى لقب بالملك الصالح، ساكن القلوب، نصير الدين الحنيف، حبيب العرب والشرق، ربان السفينة، صاحب الإرشاد، إلخ.. ونراه على موائد القمار ومجالسة الغوانى، وفى حادث السيارة الذى كاد يودى بحياته، وإلمامه بالمقاهى الشعبية يدخن الشيشة ويشرب القهوة مع أبناء شعبه، وفى زيارته لغزة متفقدا ميدان القتال وحال جنوده وضباطه إبان حرب فلسطين وكارثة الأسلحة الفاسدة، وفى قصر رأس التين، وفضائحه مع النساء داخل السيارات على طريق السويس الزراعى؛ وأخيرا وهو يودع المُلك باكيا ويستقل اليخت الملكى "المحروسة" إلى منفاه بين بكاء الأوفياء له من خدمه ورجاله ونسائه وصراخهم. وفى خلفية الصورة تبرز شخصيات من العهد البائد لعبت دورا ما فى مأساة هذا الملك: ابن عمه الوصى على العرش، أحمد حسنين (الذى ضبطه فاروق يعاشر أمه فى ملابسه الداخلية)، عزيز المصرى، مصطفى النحاس الذى أثار حفيظة الملك الشاب حين قال له يوما بحسن نية: "أرجو من جلالتك أن تعتبرنى بمثابة والدك"، الشماشرجى الذى أصبح مركز قوة لا يتمكن أحد من الاتصال بالملك المعظم إلا من طريقه، وهناك – على الجانب المقابل – رجال الثورة الذين نرى لمحات خاطفة – ولكنها معبرة – منهم: محمد نجيب، جمال عبد الناصر، عبد الحكيم عامر، أنور السادات. ويحرص الكاتب على أن يضع الأحداث المعاصرة (أجواء الحرب العالمية الثانية، حريق القاهرة، ثورة 23 يوليو 1952، إلخ..) فى منظورها التاريخى فيعود بنا – بتقنية الارتداد إلى الخلف (فلاش باك) – إلى أيام محمد على الكبير، الجد الأكبر للملك، والخديوى إسماعيل جده الأصغر، وأمراء المماليك كمحمد بك الألفى لنرى كيف تسلسلت مظاهر الفساد والاستبداد فى الأسرة العلوية حتى أثارت السخط العام وجعلت سمعة مصر فى الخارج مضغة فى الأفواه ومهدت لحركة الضباط الأحرار. كما يحرص الكاتب – بموضوعية محمودة – على أن يتفهم العوامل النفسية والبيئية التى صنعت من فاروق ما هو عليه، وفى طليعتها أبوه الجهم المستبد، وفضائح أمه نازلى وشراهتها للسلطة والمال والرجال (الفرخة المدبوحة من قبل الفرح، والعطفة المفتوحة من قبل النظام – فى زجل بيرم المُصْمِى الذى دمغها بعار لا يُمحى) وصراعات السياسة ما بين الإنجليز والقصر والوفد (ولنا أن نضيف إليها – وإن كانت لا ترد هنا – أصولية الإخوان المسلمين الدينية وبزوغ اليسار الشيوعى فى أوساط متفرقة). لقد نحت محمد العون لنفسه ركنا متميزا فى عالم الأقصوصة بمجموعتيه القصصيتين "الملك ينزل المدينة" (2006), "خيانة الجسد" (2008) ثم فى عالم الرواية بروايته الأولى "مصير بيكاسو" (2009). وها هو ذا الآن يؤكد مكانته فى المشهد الأدبى المعاصر بهذه الرواية الجامعة بين الإمتاع والعبرة، حيث الجدائل الأخلاقية لا تنفصل عن الاعتبارات الجمالية وحيث تستحيل الحقائق التاريخية الجافة فنا عذبا ينبض بالحياة ويدعونا إلى التأمل فى مصائر الأحياء.