اقتحموا غرفة نومنا، رجّنا الذعر رجاً، أنا وزوجتي، كانوا ستة، أجسامهم ضخمة؛ كأنما تم العثور عليهم أحياءا في مقبرة ضاربة الجذور في عمق التأريخ، أعينهم كالجمر؛ مرعبة جدا، كأن الشرارة التي توقد بها الجحيم تؤخذ منها مباشرة، على وجوههم دمامة الشر، كانوا بشعين، أكثر بشاعة من أولئك الذين كنا في أسرهم، الأشرار الذين أخذونا في حاويات جنود؛ إلى أرض مقفرة؛ موحشة جدا، أوقفونا في صفوف مستقيمة، بحسب الطول، ووقف الجنود في الجهة المقابلة لنا؛ مشهرين أسلحتهم، أيقنّا أننا سنُعدم هناك، كما أعدم إخوان لنا من قبل، كانت أسراب من الغربان تحلق فوقنا، وبعضها قد حط على رؤوسنا بالفعل، في تلك اللحظات تخيلت جثتي تأكلها الغربان، مثل الجيف التي رأيتها من قبل، إنها تبدأ أكل الجيفة من...، فهل يحدث هذا معي أيضا؟، يا للمصير الدامي! هكذا تساءلت، لا شك أن وجوه النساء كانت أكثر فظاعة من جيرنيكا، رسم عليها الخوف من لحظة سيرين فيها الموت يحصد أطفالهن، لوحات قاتلة، كان في حاويتنا رجل تم سلخ جلده قبل يومين لأنه اعترض على لمس جندي له في منطقة لا يرضى رجل أن تمتد إليها يد رجل، سلخوا جلده وجمعونا لنراه، لم يمت الرجل، لكنه في حالة مزرية، بالأمس دحرجوه في كومة من الحصى عند الظهيرة، لقد كاد الذباب أن يكون له جلدا، حتى لسعات الذباب غير موجعة بالنسبة إليه، التصق بحديد الحاوية، كانت رائحته تذكّر بالموت، وكانت معنا امرأة وضعت أثناء دخول جندي دميم إلى زنزانتها، أخذوها هي أيضا؛ بدمائها ومشيمتها، الحبل السري لم يُقطع إلا في الحاوية، قطعته عجوز بأسنانها، هنالك عجوز معمر أصيب بمقص حاد، كان يصرخ من الألم، كان يحاول أن يطوي جسمه كله على بطنه، حتى احدودب ظهره، مات في الطريق، فتاة أصابتها ذكرى اغتصابها من مائة جندي، بالجنون، كانت حالتها مأساوية، قفذت من الحاوية، في حين غفلة من الجنود الذين كانوا يغازلون فتياتنا، أما نحن فنكسنا رؤوسنا، لم يتوقفوا من أجلها، دهستها الحاوية التالية، كانت تقول أثناء طوابير عرضنا السابقة:" أريد أن أغتسل في البحر، الرائحة الكريهة لم تفارق جسدي"، لم تشهد هذا الطابور، ربما دفنتها كائنات أخرى، رأينا الغبار من بعيد، لا أعرف كيف كانت وجوه الرفاق عندما شاهدوا الغبار، ربما ظنوا أن فيلقا عربيا جاء لنجدتنا، ربما كانت وجوههم ملطخة بالفرحة والدهشة، لكنهم عرفوا أنها عاصفة ترابية، حين مرت بالقرب منا، ولا أعرف كيف كان أثر هذه الصدمة على الرفاق، لم نكن ننظر إلى بعضنا، القوانين العسكرية تمنع أن توزع نظراتك سدى عندما تكون في طابور، فقط عليك أن تحدق في وجه القائد، وعليك في ذات الوقت أن تجعل نظراتك في انسجام تام مع كبريائه، مثلما تنسجم إرادتك مع إرادته، كان القائد على منصة عالية، صمت طويلا، وبعد أن مسح شاربه، ونظر إلى كتفيه، ثم إلى حذائه، ثم إلينا، قال: " أنتم أسرى من خاص، نعم، من نوع خاص، ولذلك أتينا بكم إلى هنا، لتبنوا لكم بيوتا في هذا المكان، لتجتمع كل عائلة وتعيش حياة عادية، وهذا الأمر لم يحدث في التأريخ، فأنتم محظوظون، لأنكم وقعتم في أيدي جنود متحضرين مثلنا، نحن لسنا كالبرابرة، الماء قريب من هنا والطين، فاجتهدوا في البناء، وليساعد بعضكم بعضا، والله ولي التوفيق، هالالويا". اجتهدنا كأننا الجن في عهد النبي سليمان، عليه السلام، وأكملنا البناء، ونحن نردد:" هيلا هيلا هيلا بيلا هيلا هيلا هيلا هوبّْا"، ولم ننسَ المرافق العامة ودور العبادة، كلها عرشناها بما هو متاح، وكنا قد حصلنا على العيدان من غابة قريبة، رغم اعتراض بعض منظمات حقوق الشجر، بالذات منظمة حقوق شجرة الجميز، بحث الناس عن معارفهم، وسكنت كل عائلة في بيت واحد، وشعرنا بنوع من الحرية؛ على حوافها أسر مريع، لقد بنينا بيوتنا بكل فرح، البعض كان يخطط للزواج، أسر حددت مواعيد الختان، تقدم شباب لخطبة فتيات، عادت إلينا الروح، ولكن يا للحسرة!، لم نسأل أنفسنا، من قبل، لماذا أعطونا هذه الفرصة؟، وعرفنا بعد فوات الأوان، إن كل ذلك كان ضمن الاستعداد لموقعة هرمجدون الفاصلة، بين اليهود والمسلمين، لتكون مساكننا ساحة للتدرب على استخدام المدفعية الثقيلة والطائرات، واختبار فاعلية الجوع والعطش في الحروب المقدسة، كنت أنا وزوجتي ضمن الملايين القليلة الناجية من المذبحة التدريبية، ولذلك أخذونا إلى قفر آخر، وقبل أن يوقفونا في تشكيلة أشبه بخارطة العالم العربي، وضعوا في المنتصف سارية طويلة عليها علم جامعة الدول العربية، واختاروا موسيقيين من بيننا لتلحين نشيد يكون النشيد الوطني الجامع لكل العرب، واختاروا هم- للسخرية منا- القصيدة التي تقول: ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا قالوا لنا:" ربما هذا النشيد هو رغبتكم الأخيرة الدفينة، نحن نعرف رغباتكم ". وبعد عزف النشيد، أخذوا يتدربون على الرماية، بزوايا مختلفة، كانت زوجتي بالقرب مني، قلت لها:" لابد أن نهرب"، قالت لي:" والقيود؟"، قلت:" إنها ضعيفة للغاية، إنهم يظنون أن أي قيد يكفي لتكبيلنا". كان إطلاق النار كثيفا، ومع ذلك استطعنا أن نهرب، ممسكا بزوجتي من يدها، كانت تسقط حينا فأرفعها، وحينا تقول لي :" اذهب أنت، فأنا أشعر أن روحي تريد أن تفيض"، كنا في غاية الجوع والعطش والتعب، وكانوا يتبعوننا ويطلقون النار علينا، مررنا بكافة التضاريس، دخلنا غابة كثيفة، وأخذنا نركض، هربنا من الوحوش إلى وحوش أقل وحشية لم تركض خلفنا، وخلف الغابة كوخ لعجوز، وجدنا أنفسنا فجأة داخله، نلهث، جف حلقينا، حتى لم نقوَ على الكلام، أعطتنا العجوز قليلا من الماء، وأعطتنا قليلا من الطعام، كنا نلتهمه كالمجانين، بسرعة عجيبة، سالت دموع العجوز، سألتنا عن قصتنا فرويناها، تأسفت لحالنا، ثم أخذت تحدثنا بقصتها: " يالها من ذكرى مؤلمة، هي التي جعلتني أكره البشر، وآتي لأسكن هنا وحيدة قرب الوحوش، الوحوش التي أشعر وأنا قربها كأنني أتمتع بحماية خاصة، كانت قصتي قبل سنوات، لا أعرف ماذا أقول، إنه...، إنه....، إنه أمر من الصعب أن تحكيه امرأة، ولكن...آه، ولكن، آآآ، في تلك الأيام كنت أخاف أن أنام، في الحقيقة، في اليقظة أستطيع أن أفعل شيئاً تجاه أفكاري، لكن النوم لا يتيح لي ذلك، لقد كنت أرهبه لكيلا أراني أرقص فوق مقلاة كبيرة مثبتة على قوائم طويلة تبدو وكأنها مسرح للمهانة، وتحتي تشتعل النار، في جو يبدو وكأنه مشهد من فيلم، حيث رجال عشيرتي بملابسهم العربية القديمة، ونسائها والجواري يغنين، وأنا أرقص عارية تماما، ويُجبر رجال عشيرتي على مشاهدتي، وكل من كان يخفض رأسه، كانوا يطلقون النار على رأسه، هكذا أراد الجنود الذين أسرونا أن يكون المشهد، يالهم من بارعين في فنون التعذيب، ويحدق فيّ جندي بغيض وهو يشرب الخمر، والفرقة العربية التي كونوها تغني: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد وتتجاوب معها أصوات الحيوانات التي جلبوها، حتى الإبل، وبعد أن أكملُ الرقص و...، يأخذني الجندي إلى غرفة من ريش الدجاج، منتنة الرائحة، بها سجادة حين أقترب منها أصاب بالفزع، كأن السجادة هي الفزع في أكثر صوره صخباً، هنالك الأشباح تعبث بي، هذه تهدهدني كي أنام وتلك تهددني كيلا أنام، وأخرى تسهر في خدمتي، هه تسقيني خمرا عجيباً من الزقوم، تسقيني حتى الثمالة، وحين أثمل تغطيني بعباءة من الأشواك وتقوم بدغدغتي كي أضحك، وحين أضحك تضع الأشباح التي تكنّ لي عداءاً أكبر، تضع على رأسي قبعة من مادة مجهولة، فأصرخ صرخة لا تقل غرابة عن تلك اللسعة الغامضة التي تسببها القبعة، وبعد أن يفعل بي الجنود ما يريدون، يأتيني منفذ الإعدامات الفردية، بخطواته الرتيبة مثل صوته يقول: " قومي، سنقوم اليوم بإعدامك، أي ستُزفين إلى تلك العجوز الشمطاء التي تسمى الموت". ثم يتحدث لي عن فوائد الموت بالنسبة إلى أعضاء الجسم، ويوصيني بأن أبلغ رسالته إلى زوجته بمجرد وصولي إلى السماء، ويطلب مني أن أستعجل المسيح، وأن أروي له أخباراً ملفقة عن الأوضاع في الأرض، فينزل في الحين، وأن أقول له إن منفذ الإعدامات الفردية فلان يقول لك:" لاتهتم، ففي الأرض رجال من أمثالي، لن يدعوك تنتظر طويلا"، ويضرب على صدره، ويبتسم ابتسامة غير واضحة الغرض، ويطلب مني أن أسلم المسيح شريط فيديو يبين تأمين مهبطه في دمشق، وصوراً فوتوغرافية لمجلس الأمن في نيويورك، حيث سيلقى خطابه الأول، وصورة للبيت الأبيض حيث يلتقي بالرئيس الأمريكي ووزير خارجيته، وصورة لمبنى الكنيست الإسرائيلي، حيث ستتم مباركته ثم يعود إلى أمريكا يرشح نفسه رئيساً لها، وسيفوز بالطبع بما له من شعبية عريضة، ليس بين أحباب المحبة والسلام وحسب، بل وبين الإرهابيين أيضا، يطلعني على ذلك بإيمان قاطع، ثم يمسك بيدي، تدب الهواجس على صدري كدبيب النمل، لم أره وسط الظلام، ربما علق على رقبة الليل مصباحه، والليل طويل، يخرجني إلى ساحة مرتفعة جداً، هنالك يصعد بي إلى المقصلة، ويضع الحبل الذي يتدلى من الشمس على رقبتي، بعد أن يرش على عيوني سائلاً موسعاً لحدقة العين .. وينقطع رأسي، وأرى بعيوني المفتوحة الفرقة العربية وهي تنقر الدفوف، والجواري يغنين على أنغام العود: (سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد)، وأصحو وأنا مصابة بالاختناق كالذي هوى عليه أضخم جبل في العالم، والعرق يتدفق من جسمي كأن خريفاً ما قد عرف آخر أسرار العطاء". بعد سماع قصة العجوز الحزينة وامتلاء عيوننا بالدموع، تقول لي زوجتي: -" لابد أن نذهب فورا، إنهم الآن يبحثون عنا، لا أريد أن يحدث لي ما حدث لها، الموت أهون من ذلك". تودعنا العجوز، وتخبرنا عن طريق قصيرة توصلنا إلى أقرب مدينة من هنا، وتقف تنظر إلينا حتى نختفي، ونمشي مسافة، فنرى جنودا فنتختفى خلف بعض الأشجار، ونسلك طريقا أخرى، ونركض، نركض حتى نصل مكانا به جمع غفير، جلسنا بينهم، ونحن نلهث، قال لي الرجل الذي بجواري: -" لقد جئتم في الوقت المناسب، قبل الإفتتاح بلحظات، أشكر لكما هذا الولاء لفريقكما، لقد تنازلتما حتى عن الاستحمام من أجله، رائحتكما كريهة، ولكن لا بأس إن كنتما من أنصار فريقي، لو كنتما من الخصم لفضحتكما هه هه هه هاااااااه ". -" نعم، فعلا"، قلت متمتما وأنا مضطرب جدا، نظرت إلى نفسي، وركزت على رائحتي برهة، وخشيت أن يواصل الحديث. كان الملعب مليئا بالماء، في البداية، رقصت الدلافين، ثم جاء الفريقان، إذا هي مباراة في كرة الماء، بدأ اللعب وسط الصفير العجيب، وتواصل في حماسة، وحين شب الحريق في البيوت المجاورة للملعب، كان الفريقان في أوج الحماسة، وتصاعد الدخان، وغطت الملعب سحابة سوداء، أخذ الكل يسعل، وكنا نرى ألسنة اللهب تتصاعد، تتصاعد مثل صيحات الجماهير، وأطلق الحكم صافرته لإنهاء الشوط الأول، وبين الشوطين، أرسل الحكم وفدا برئاسة مساعده، لمعرفة ما حدث خارج الملعب؟، ما الذي جعل الدخان يكاد يحجب الرؤية؟، وأعطى كل واحد منهم تلسكوبا فلكيا من أجل الرؤية الواضحة، وجاؤوا قبل موعد الشوط الثاني بدقيقتين، وكان الناس يحلّلون ما حدث في الشوط الأول، جاء المساعد وقال للحكم: -" إنه حريق ". وأعلنت مكبرات الصوت: -" إنه حريق ". تواصل اللعب، وسط هياج الجماهير، الجماهير التي نسيت تماما ما يحدث في الخارج، وقبل نهاية المباراة بقليل، مات الآلاف اختناقا، والذين هربوا من الملعب، كان عليهم أن يعبروا صحراء من الرماد، من أجل الوصول إلى بيوتهم، هنالك يمكنهم أن يلعنوا الذين أشعلوا الحريق وحرموهم متعة مشاهدة المباراة.