احيانا ينتابني الإحساس بأن ثورة تونس ثارت على صنّاعها فتتهافت عليّ الوساوس واتساءل هل هي زاغت عن مسارها ام اننا عجزنا عن التحكّم فيها وسواء كان هذا او ذاك فإنه واضح ان مردّه غشامتنا الثورية او قلّة تمرّسنا بالحياة الديموقراطية ولا ادلّ على ذلك اكثر من مظاهر الفوضى والتسيّب التي اجتاحت مدننا وقرانا والتي لم نتعوّد عليها ودأبنا عادة ومهما كانت الظروف على الإمتعاض منها واعتبارها شاذّة وخارجة عن المألوف لكنها تكأكأت علينا بعد الثورة واقتحمت حياتنا فبتنا نتحملها على مضض ممنّين النفس بقرب الفرج،وواقع الأمر هو ان الثورة اخذت بدورها وبرغم وهج الحرّية المتدفّق منها تلفحنا بقمع جديد لم نقو على مجابهته ولعلّنا صرنا نتجنّب التحاكك معه إمّا خشية من اذيّته او رياء حتّى لا نوصم ولو ظلما بكوننا خارجين عن الصفّ وهكذا انتشرت على مرأى منّا وفي كنف خرسنا مشاهد القمامة المتناثرة في كلّ الأحياء والشوارع والسيّارات التي يجازف سوّاقها باختراق الأضواء الحمراء والمقاهي المترعة بموظفين متخلّفين عن اعمالهم ومياه الشرب المقطوعة بفعل فاعل والطرقات التي اجتاحتها مجموعات مسلّحة وعطّلت المرور منها والوالي او المحافظ الذي اقتحموا عليه مقامه واطردوه منه وغير ذلك من الإنحرافات التي يتوارى اصحابها خلف الثورة او يتفيّؤون ظلّها فتساءلت بحرقة هل اننا فعلا "هرمنا" ام اننا تحولنا الى شياطين خرس،والتفت لأجد شيخا جليلا كسا الشيب مفرقه فسألته عن حاله فأجابني بمرارة وبلهجة تونسية صميمة:"انشالله مانندموش على راجل امنا الأوّل" فأجبته بفزع:"لا لا يا سيّدي إلاّ بنعلي الفاسد لا نريده ان يعود الينا" وطفقت احدّثه وهو يصغي اليّ بانتباه عمّا يجب علينا ان نتحلّى به من صبر ونكابده من تضحيات في سبيل انجاح الثورة فأنصت اليّ مليّا ثم واصل طريقه وفيما كان يبتعد عن انظاري عاودني التساؤل بخصوص "الثورة" وداهمني الشكّ مجدّدا ولست ادري لماذا قفز بي ذهني آنئذ الى السيّدة "ام كلثوم" فوجدتني بلا وعي اردّد كلمات اغنية "ثورة الشك" ولكنني مالبثت ان تداركت نفسي فنعلت الشيطان ثم دلفت الى منزلي وانا اخاطب نفسي هامسا لها بعزّة وفخار:"كلّها افراطات وقتية ستنقشع بإذن الله وستنجح ثورتنا ما دمنا مؤمنين بها وواثقين فيها".