عندما تراجع دورُ الكتاب في عالمنا العربي، وبدا أن الأمرَ الطبيعيَّ هو صحيفة ومجلة ونشرة وفصلية ودورية، كان ذلك مُقدّمة للدخول في عالم أكثر سهولة ويُسْر للذين يريدون الحصولَ على المعلومة، مختصَرة ومقتضبة، ولكن يظل وجودُهم في دائرة الثقافة العامة. لم يصمدوا طويلا، وتراجع تأثير " إبداع" و"القاهرة" وسطور" و"الفكر المعاصر"و" عالم الفكر"، ثم انتقلوا إلىَ الملاحق في الأعداد الأسبوعية للصحف الكبرى. وجاء الفيسبوك لينقذهم ويجعل المعلومة والأخبارَ والمقال مختصرة ، ويُنهي عصر المقال المطوَّل الذي يُجهد الكاتبُ نفسَه فيه ويحاول الإلمامً بكل جوانب الموضوع المطروح على البحث. ثم تقدَّم التويتر ليختصر دنيا المعلومات في سطرين، والموسوعة في ثلاثة أسطر، والأحداث الجسام في أربعة أسطر. وانتصر السطريون انتصارا باهراً فلم يكن يخطر على بال أيِّ منهم أن يتساوى الجميع تحت سقف واحد، فجملة قصيرة لا يستطيع القاريء أن يعرف إنْ كانت صادرةً عن مثقفٍ أو عن جاهل، ومن لم يفتح كتابا في عشر سنوات يكتب سطرين يتساويان مع من قضىَ نصفَ عُمره دودة كتب و.. حُوتَ موسوعات. مع احتلال التويتر والفيسبوك الشاشة الصغيرة التي يجول ويصول ويجوس الجميع خلالها في كل ركن من أركان الدنيا تراجع الكتابُ إلى الصف الخلفي، والمقالُ إلى منتصف الصالة، وبقيت الكلمة الفصْل للسطريين الذين يسقط أكثرهم إعياءً إذا قرأوا نصف صفحة، ويصيبهم المَلَلُ بعد السطر الخامس، وأحيانا تتحول معلوماتهُم الثقافية والفكرية إلىَ حفنة من العناوين المتراصة . السطريون لن يقرأوا لك مقالا بحثيا أرهقتك كتابتُه طوال الليل، ويعتبرون أنَّ وقتهم الثمين يضيع في الثقافة الدسمة، وأنهم لا يطيقون الإمساكَ بكتابٍ أو بحث أو .. تقرير. السطريون يسيطرون على ساحة المعلوماتية ، والغريب أنهم يقرأون لكَ ثلاثة أسطر من مقال مُطول ويردُّون عليك في نصف صفحة، ولا مانع من قصّ ولصقِ نصوص منثورة في كُتب إلكترونية لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بموضوع حوارك أو رؤيتك أو طروحاتك. السطريون تخلصوا من الكتب، ومعرض الكتاب الدولي مكان كئيب لهم، والمكتبة المنزلية حلت محلها أطباقٌ وأكوابٌ وبعضُ الهدايا التذكارية وكتاب مقدس، قرآن أو إنجيل، مفتوحة صفحاته ليزيد الدار بركة! أستطيع أن آتي لك بجملتين على التويتر، الأولى لنصف أميٍّ يقرأ اسمه بشق الأنفس، والثانية مقتطفة من كتاب لجمال حمدان أو عبد الوهاب المسيري أو لويس عوض أو طه حسين، وأغلب الظن أن القاريء، العادي، السريع والخاطف والفيسبوكي والتويتري والديجيتالي لن يميّز بين الجُملتين! الكتابُ العربي يحتضر، ويلفظ أنفاسَه الأخيرة، وسيشيّع جنازتَه ثُلَّةٌ من الأوفياء للحرف، والمؤمنين بأنه خيرُ جليسٍ في الزمان، وربما يتغامز السطريون على المشيّعين المُتعلقين بأوهام الثقافة و.. المعرفة. في الفترة الأخيرة تحوَّل السطريون إلىَ شخصيين، أي أنَّ كتاباتهم تقتصر علىَ تأييد شخص، ودعم قائد، والاحتفاء بمرشد، والمدح في زعيم، وطاعة فقيه، ونقل نصوص عن مَوّتىَ، والتظاهر من أجل أمير، والفداء بالدم والروح من أجل اسم مجهولٍ ينطقونه بصعوبة. السطريون يسيطرون علىَ عالم المعرفة، وبكاء ونواح الكتب يتناهى إلى الأسماع كأني أتبيَّن من خلالها امرأ القيس والمتنبي وابن رشد وباسترناك وابن خلدون وشكسبير ومحمد عبده وسارتر والأفغاني وجراهام جرين والكواكبي وجان زيجلر والعقاد وألبرت ماركوز والرافعي وموليير ومالك بن نبي وفيكتور هيجو وبن باديس وجارودي والمسيري وجمال حمدان ومئات ، وآلاف غيرهم. السطريون يتقدمون، لكنني لا أرى شعلة المعرفة في أيديهم، إلا قليلا منهم ، أوفياء للاثنين معا، السطر المقتضب و.. الكتاب! رئيس تحريرجريدة طائر الشمال