حين يكون رد رافضي أخونة الدولة في مصر هو عسكرة العقل، نكون أمام نكوص وخسارة في الأمل. ليس لان الأخونة تحمل طابعا انغلاقيا فقط، بل لأنها تحمل الأسلوب الإقصائي المشابه لمجموعة عسكرة العقل. وإعلام العسكر الحكومي والخاص يقدم نموذجا بليدا عن نوع الأداء الإعلامي المتاح في زمن إلباس العقل والحلم الثوب الخاكي. كلاهما، الاخونة والعسكرة يرمزان لمستوى ضعف القوى السياسية البديلة في مصر وفقدان الجماهير لبوصلتها نحو المستقبل، وقبل ذلك يكشف الأمر عن أزمة في الفكر والتفكير وضبابية في الخيارات. لم تحدث في مصر لا ثورة أولى ولا ثانية لذا لا يوجد شرعية ثورية. لان الشرعية الثورية لا تسمح لرجال الأعمال وجنرالات الفساد من الاستحواذ على وطن وسرقة غضب الجماهير. الثورة ليست احتجاجات تنتهي بتسليم الحكم للعسكر أو لطبقة سياسية منفصلة عن مضمون الثورة. وهي بالتأكيد تتطلب وجود الثوار في قيادتها. التاريخ في صوته القوي لا يشبه الحلم، لأنه لا يملك حرية الحقيقة، وفي ضوء ذلك تُجر مصر لتطفئ غضبها الثوري بعد ان فشل هذا الغضب في التحول إلى فعل ثوري. العسكرة في مصر ستقود لإقطاعية بثوب رأسمالي وهو نموذج مشوه ومصغر لعسكرة العقل الأمريكي التي تملك مساحة أوسع لكنها تحمل نفس الاستخفاف بحقوق الإنسان وصلت لدرجة اصدر فيها القضاء الأمريكي حكما ضد من عذبتهم قوات الاحتلال الأمريكي في العراق عن طريق شركة تورد المرتزقة لها. عسكرة لا تلغي العقل فقط، بل تعلن عن إعادة أنتاج نظاما يضمن هذه المزاوجة الاستبدادية بين العسكر ورجال الأعمال مع دعما رجعيا إقليميا في مشهد مرعب، وبالتأكيد هو لا يقل رعبا عن اخونة الدولة مع فارق ان الرئيس محمد مرسي كان أكثر حرية وبلا دموية تشابه ما ينتجه العسكر. القوى السياسية التي اصطفت مع عسكرة العقل كانت تريد أن تجد لها مكانا في مشهد سياسي، ومنهم القوى الناصرية التي دفنت الآن تجربة عبد الناصر ذلك العسكري الذي انحاز للفقراء وساهم في صناعة عدم الانحياز وقاوم الامبريالية وهو ما لا يتوفر في عسكر كامب ديفيد. عسكرة العقل ظاهرة عربية بامتياز، سواء تم الاعتراف بها أو لا. في العراق مثلا تقوم الحكومة الطائفية التي نصبها الاحتلال الأمريكي على رأس الحكم في العراق بالتوافق مع إيران على عسكرة العقل الطائفي الشيعي. وهي حالة فعلها الحكم السوري، ويمارسها فعلا الحكم الأردني، وهكذا الدول العربية. فيما عدا بعض دول الخليج العربي حيث تم تسطيح العقل لدرجة لا يحتاج فيها لعسكرة او اخونة. والعسكرة رافقت النهوض العربي لكنها لم تكن خيارا يتم سحق الديمقراطية من اجلها كما يحدث في مصر حاليا. والعسكرة تتم دوما من خلال تقديم حلول كلها تنصب على قيادة عسكرية للبلاد، او من خلال تصوير العسكر باعتبارهم القوى الشريفة الوحيدة في البلاد وكونهم الخلاص، وكأن من يملك الفكر والرأي السياسي لا يستحق أن ينال الشرف على طريقة السيسي أو الإخوان معا. وفي حين لا يوجد رؤية محددة لما تعني الاسلمة قياسا لتاريخها ولا حتى للسلفية طبقا لمضمونها، فان العسكرة يمكن تكوين وصف لها لأنها لا تتعلق بالمبادئ بل بالمصالح. وبشكل سريع تنهض الكمالية في مصر (نسبة إلى أتاتورك في تركيا) لتكون بديلا عن العقل، وتحتشد القوى السياسية التي ليس لها رصيد شعبي ضمن معسكر عسكرة العقل لأنها في حاجة لمن ينتبه لها حتى ولو كان ذلك من خلال مواجهة مع التيار الرجعي الأكثر تنظيما. عسكرة العقل هو الذي يجعل قوى الكمالية والعسكرة حالة واحدة، وهو الذي يجعل السيسي مرشحا لرئاسة مصر وكأن مصر في حالة جفاف حتى لا تستطيع إنتاج زعيما لها من خارج عسكر مبارك. ومع انه كان من الضروري التصدي ديمقراطيا لاخونة الدولة لأنه حلا لن يسمح أيضا بعسكرة العقل ، وما يجري الآن هو عودة مصر لحالة النكوص التي بدأت مع حكم أنور السادات . الجماهير المخدوعة في مصر منقسمة أيضا بين عسكرة العقل واسلمة الدولة، لهذا لا يظهر اي تطابق بين الخطوات والمستقبل الذي يحلم به الجميع. الانخراط في ديمقراطية قادت لحكم الإخوان من حيث حساب المستقبل أفضل من حياة سياسية تعسكر العقل، لان الأمل كان من خلال الاحتكام لصندوق انتخابي وليس لمزاج ومصالح العسكر التي ترتبط مع شركات ورجال أعمال وإقطاعيات.