لم يرقَ رد فعل المجلس العسكري الحاكم في مصر على مجزرة بورسعيد التي راح ضحيتها أكثر من 75 قتيلاً إلى مستوى المسؤولية، ويعكس استمرار حالة التخبط التي يدير بها العسكر شؤون الحكم في مصر منذ توليهم السلطة قبل نحو عام. وقد كانت تصريحات قائد المجلس المشير حسين طنطاوي، بمثابة صب الزيت على النار وذلك حين وجّه رسالة ضمنية إلى الجماهير الغاضبة يحملهم فيها المسؤولية عن وقوع القتلى بسبب عدم تصديهم ل «البلطجية» الذين تسببوا في وقوع المجزرة. وهي رسالة فضلاً عن فجاجتها وافتقارها للحس السياسي والإنساني، فإنها تبدو بمثابة رسالة تحريض وتأليب للشعب على بعضه البعض في ظل تغييب مفزع لدور الدولة ومسؤوليتها عن حماية مواطنيها. رد فعل المشير يبدو كاشفاً لفهم «حرب الشوارع» المتواصلة في محيط وزارة الداخلية بين الشباب الغاضب وبقايا نظام مبارك التي لا تزال تتحكم وتدير أجهزة الوزارة وتسعى لإجهاض الثورة المصرية. وقد تصبح هذه المواجهات بمثابة بروفة «مصغرة» لما قد تنتهي إليه الحال في مصر إذا لم يتم حل الأزمة الراهنة في شكل قانوني وسياسي ينحاز للحق ولدولة القانون. في حين يبدو ما يحدث الآن كما لو كان نسخة مكررة من حوادث أخرى مشابهة وقعت طيلة الشهور العشرة الماضية وسقط فيها عشرات الشهداء ومئات الجرحى من دون أن تتم معاقبة الفاعل الحقيقي. وهو ما يشي بأحد احتمالين: إما أن تكون السلطات الحاكمة على دراية بالفاعل وبأجهزته التي تدير الفوضى في مصر وتسعى لإجهاض الثورة بكل الوسائل، ولكن ثمة مخاوف من الإفصاح عنه حتى لا تسقط «ورقة التوت» عن الجميع، وإما أن يكون أهل الحكم في غيبوبة عما يجرى وهذه كارثة لا تؤهلهم للبقاء في الحكم حتى لا يتكرر سيناريو الفوضى والاستنزاف مرة أخرى. وفي كلا الحالين فإن النتيجة واحدة وهي «عسكرة» الثورة المصرية. والعسكرة هنا لا تعني فقط حمل السلاح دفاعاً عن الحقوق وإنما بالأساس «عسكرة» وتأليب المزاج العام بحيث ينقلب من مؤيد للثورة وحامٍ لمطالبها إلى ناقم عليها ورافض لقواها وشبابها الثوري، وبحيث تصبح أية أزمة سياسية أو اجتماعية مدخلاً لمواجهات أمنية بين جميع الأطراف على نحو ما نشهد حالياً. وللأسف فإن ثمة شعوراً باللامبالاة لدى العسكر بخطورة ما قد يفضي إليه هذا المنحى الكارثي الذي قد يقود البلاد نحو الهاوية. على هذا النحو يمكن القول إن عملية «عسكرة» الثورة المصرية قد مرت بمراحل عدة كان أولها من خلال تأجيج الخلاف بين القوى السياسية المختلفة حول مسائل وقضايا إشكالية عديدة كان أهمها ما عُرف بوثيقة «المبادئ الدستورية» التي قسمت النسيج السياسي المصري بين إسلاميين وعلمانيين ودفعت بالبلاد نحو حالة استقطاب لم تشهدها منذ أوائل القرن العشرين. وكانت النتيجة أن طُمست هذه الوثيقة ولم يعد لها ذكر بعدما حققت هدفها وهو تفتيت النخبة المصرية. ثانياً، سعى المجلس العسكري وبعض وسائل الإعلام المحسوبة على بقايا النظام السابق إلى تفتيت الكتلة الثورية التي حملت مطالب الثورة منذ يومها الأول وناضلت من أجل إزالة وخلع الرئيس مبارك. فقد شن المجلس العسكري حملة توبيخية هدفت إلى تشويه وإساءة سمعة الحركات الثورية مثل حركة «6 أبريل» التي اتهمها العسكر بتلقي أموال وتدريبات أجنبية بهدف زعزعة الاستقرار في مصر من دون أن يقدم دليلاً واحداً يثبت إدانتها. وكذلك حركة «الاشتراكيين الثوريين» التي اتهمها العسكر بالسعي «لتفكيك وتحطيم الدولة المصرية» أيضاً من دون تقديم دليل على مثل هذه الادعاءات. ثالثاً، قامت السلطات المصرية بشن حملة تخوين وترهيب على عشرات المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني واتهمتها بتلقي تمويلات أجنبية بهدف «زعزعة استقرار البلاد وتنظيم احتجاجات ضد الدولة المصرية»، وقد وصل الأمر أخيراً إلى حد تحويل ما يقرب من أربعين شخصية مصرية وعربية وأميركية تعمل في هذه المنظمات إلى محكمة الجنايات المصرية، من بينهم نجل وزير النقل والمواصلات الأميركي سام لحود، وهو ما أدى إلى توتير العلاقات مع واشنطن في شكل لم يحدث طيلة العقود الثلاثة الماضية. في حين يسعى العسكر حالياً لتفكيك آخر البؤر الثورية وهي البؤرة الشعبية المتمثلة في جماهير كرة القدم التي تُعرف بحركة «الالتراس» الكروي. وهي كتلة جماهيرية شاركت في الثورة المصرية منذ بداياتها وقدمت شهداء وجرحى ولولاها لما صمد شباب الثورة في وجه الآلة القمعية لنظام مبارك. الخيط الناظم بين حلقات إجهاض الثورة المصرية هو ارتباطها بحجة واهية لم تعد تنطلي على أحد تتمثل في وجود «مؤامرة كبرى» تستهدف النيل من الدولة المصرية. وهي حجة لم تعد تقنع كثيرين من المصريين بمن فيهم البسطاء الذين باتوا على يقين من فشل العسكر وسعيهم للالتفاف على الثورة المصرية بأي ثمن. وقد فات العسكر أنهم يتعاطون مع جيل مختلف من المصريين لم يتلوث عقله بمثل هذه الترهات التي عاشتها أجيال الخمسينات والستينات والسبعينات. لذا فإن الحل الأخير الذي يجربه العسكر الآن هو دفع العقل الجمعي المصري إلى اليأس والإحباط، ليس فقط من الثورة وإنما من إمكانية عودة الحياة إلى طبيعتها كما كانت أيام الرئيس المخلوع مبارك. بيد أن ما لا يدركه العسكر هو أن تفشي حالة الإحباط واليأس قد يرتد عكسياً وقد يدفعون ثمناً غالياً لها. فمن جهة أولى فإن الفارق الأساسي بين العسكر والثوّار هو أن الجنرالات ليست لديهم قضية يدافعون عنها وإنما يحاولون حماية شبكة مصالح متفشية في بنية الاقتصاد الخفي وتشوب حولها علامات استفهام كثيرة بخاصة في ما يتعلق بارتباطاتها بالنظام السابق. في حين يمتلك «ثوار التحرير» قضية واضحة وإن اختلفت طرق التعبير عنها وهي نيل الحرية والديموقراطية مهما كان الثمن. ومن جهة ثانية فإن محاولة العسكر جرجرة قوى الثورة إلى «مواجهة استنزافية» هي قطعاً ليست في مصلحتهم. فعلى مدار العام الجاري ومع تكرار المواجهات بين قوات الأمن والثوار نجح هؤلاء في تطوير استراتيجيات المواجهة وبمقدورهم أن يظلوا على هذه الحال أياماً وأسابيع بعكس قوات الأمن التي قد يصيبها الإحباط واليأس في مواجهة شباب غاضب وساخط ومصمم على تحقيق مطالبه. وقد بات كثير من الثوار على يقين بأن إسقاط وزارة الداخلية يعني التخلص من إحدى البؤر الفاسدة التي تقود «الثورة المضادة» وذلك على نحو ما كشفته كارثة بورسعيد. ومن جهة ثالثة، وهي الأخطر، فإن حالة اللامبالاة وعدم الاكتراث التي يدير بها العسكر الأزمة الراهنة قد تدفع الثوار إلى نقل بؤرة الصدام من وسط القاهرة ومن أمام وزارة الداخلية إلى محيط وزارة الدفاع، وهو ما لا يتمناه أحد لأن الثمن سيكون حيئنذ باهظاً. بيد أن أسوأ ما في الأزمة الراهنة فيتمثل في الفجوة المتزايدة بين البرلمان المنتخب من جهة وثوار التحرير من جهة أخرى. فقد انحازت الأغلبية البرلمانية التي يمثلها «الإخوان» والسلفيون إلى منطق أهل الحكم واعتبروا «ثوار التحرير» مجرد «بلطجية» يجب اعتقالهم ومحاكمتهم. ولم يخلُ الأمر من طرافة حين دعا أحد النواب السلفيين إلى إقامة حد «الحرابة» على المتظاهرين في حين طالب آخر بالتخلص منهم بأي طريقة ومهما كان الثمن باعتبارهم ممولين من قوى أجنبية تسعى إلى إسقاط الدولة. صدمة المتظاهرين ممّا يفترض أنه «برلمان الثورة» وحامي شبابها من بطش العسكر، يعني أنه لم تعد هناك مؤسسة جديرة بثقة هؤلاء وحاضنة لمطالبهم الثورية، وأن ثمة خديعة تعرض لها أهالي الشهداء والمصابين الذين أعطوا أصواتهم لنواب البرلمان الذين انقلبوا عليهم بمجرد وصولهم إلى السلطة ويطالبون الآن بمحاكمة الثوار. ومكمن الخطورة هنا أن تتحول مسألة «عسكرة» الثورة من مجرد حالة نفسية قائمة على الإحباط واليأس لدى شباب الثورة إلى سلوك فعلي على الأرض قد يهدد السلم الأهلي والاجتماعي في مصر، وحينئذ ستكون نهاية الثورة. نقلا عن صحيفة الحياة