كان ثمة اعتقاد لدى المصريين الذين قاموا بالثورة أو شاركوا فيها أو أيدوها أن التباطؤ فى اتخاذ القرارات المحققة لأهداف الثورة يرجع إلى نقص الخبرة السياسية لدى الممسكين بزمام الأمور أو أنه نوع من الحذر فى الحركة خصوصا فى ظروف ساخنة كالتى نعيشها بعد الثورة، ولكن شيئا فشيئا بدأ هذا الاعتقاد يتغير كى يظهر احتمال التواطؤ، وبدأ ذلك الاحتمال يقوى شيئا فشيئا مع الوقت حتى تأكد لدى البعض حين وجدوا أن الأمور تتجه إلى وضع الثورة وأهدافها فى الثلاجة، وبالتوازى مع تلك السياسة يتم ضخ الدماء فى النظام القديم وتقوية عناصره وإعادة تنظيم صفوفه بما يشكل خطرا حقيقيا على الثورة. ومنذ عدة أشهر كان الثوار يستخدمون تعبير «فلول النظام السابق»، والآن أصبحوا يخشون أن ينطلق تعبير «فلول الثوار»، إذ إن السياسة الرسمية الحالية تتجه نحو خصم متدرج من رصيد الثورة والثوار بما ينذر بالتلاشى التدريجى للثورة ومنجزاتها، ولا يوقف هذه العملية غير الضغط الثورى المتكرر من خلال المليونيات فى ميدان التحرير وما يعقب بعضها من اعتصامات تحدث ضغطا لتحريك بعض الأمور أو إحداث بعض التغييرات. وقد أصبح مؤكدا أن السلطة الحالية ليست ثورية بطبيعتها وتكوينها، وأن لقاءها بالثورة جاء صدفة، ومن هنا لا نتوقع منها قرارات ثورية أو تغييرات جذرية لا تتفق مع طبيعتها وتوجهاتها ومصالحها، وفى نفس الوقت نجد أن الثوار أخطؤوا خطأ فادحا حين لم يتفقوا على قيادة موحدة لهم تمثلهم فى منظومة السلطة الانتقالية، لذلك وجدوا أنفسهم خارج نطاق اللعبة السياسية. وكانت النتيجة هى حالة إحباط أصابت الثوار ومن شاركهم فى الثورة، وأيضا حالة إحباط لدى جموع المصريين الذين لم يروا إنجازات سريعة للثورة كانوا يتوقعونها، ليس هذا فقط بل رأوا انفلاتا أمنيا متعمدا ومتآمرا، وصعوبات اقتصادية مبالغا فى تصويرها، واضطرابا سياسيا مقصودا، وغموضا فى القرارات والبيانات، وتشويشا فى المعلومات، ووجوها قديمة ما زالت تدير منظومات الحياة فى البلاد.. والسؤال الآن: ما المسارات المحتملة لحالة الإحباط السائدة الآن؟ هناك مساران رئيسان للإحباط: المسار الأول هو الغضب، والمسار الثانى هو اليأس والاستسلام. وإذا نظرنا إلى الواقع المصرى نرى المسارين متحققين بنسب مختلفة لدى الطوائف المختلفة، فمثلا هناك حالة من الغضب تتمثل بشكل خاص لدى شباب الثورة والذين يعبرون عن غضبهم حتى الآن فى صورة مليونيات واعتصامات متكررة، وربما احتكاكات مع رموز السلطة الحالية. وقد ازداد هذا الغضب وضوحا حين اعتدت إسرائيل على أرض سيناء وقتلت خمسة من الجنود المصريين غدرا، ولم تبد السلطة الحالية ردا مناسبا يعبّر عن روح الثورة المصرية، بل كان الرد يحمل نفس خنوع وخضوع وانبطاح مبارك ونظامه أمام الغطرسة الإسرائيلية والتعالى الأمريكى، وتوجه الشباب الغاضب نحو السفارة الإسرائيلية واعتصموا هناك وصعد أحدهم لينزع العلم الإسرائيلى ويضع مكانه العلم المصرى، وبدلا من أن تقوم السلطة الرسمية باتخاذ إجراء يحفظ للمصريين كرامتهم قامت ببناء جدار عازل يحمى الإسرائيليين داخل سفارتهم، وكان هذا أمرا شديد الاستفزاز للمشاعر الوطنية، خصوصا أن هذا الجدار العازل يعيد إلى الأذهان الجدار العنصرى العازل داخل فلسطين، والجدار الفولاذى العازل الذى بدأه مبارك ليعزل قطاع غزة عن مصر ويحكم الحصار أكثر على الفلسطينيين ويحمى أمن ومصالح الإسرائيليين. لذلك هب المصريون لهدم ذلك الجدار البغيض الذى يمثل امتهانا لكرامتهم، وفعلا نجحوا فى ذلك، وقام بعضهم بتسلق العمارة ونزعوا العلم الإسرائيلى مرة ثانية، وجرت احتكاكات عنيفة مع قوى الأمن الموجودة فى المكان، وكادت تحدث كوارث، وفى نهاية هذا اليوم تغلبت إرادة المصريين الثائرين وغادر السفير الإسرائيلى أرض مصر، وتيقن الإسرائيليون أنهم يواجهون جيلا مختلفا من الشباب المصرى لم ينس -رغم سنوات القهر والتشويه والخداع التى مارسها مبارك- أن إسرائيل هى عدوه الرئيسى، ولن يقبل إهانة من أحد بعد اليوم. أما المسار الثانى، وهو اليأس والاستسلام، فهو موجود لدى فئات من الناس ترى أنه لا فائدة من الثورة، وأنهم كُتب عليهم الذلة والمسكنة فى عهد مبارك وفى ما بعد مبارك، وهم يشعرون أن لا فائدة تُرجى فى أى شىء، وكل همهم أن يجدوا لقمة عيش تسد رمقهم وأن يشعروا بالأمان الذى افتقدوه. وقوى الثورة المضادة تلعب على هذه الفئات وتحاول أن ترسخ حالة اليأس والقنوط لدى أعداد أكبر من المصريين على أمل أن يكفروا بالثورة ومبادئها وينقضّوا على الثوار ويعتبروهم مثيرى شغب وأنهم قطعوا أرزاقهم وروعوهم بلا فائدة. ومن هنا نفهم تآمر بعض عناصر وزارة الداخلية فى تقاعسهم المتعمد عن أداء دورهم، وفى تشجيعهم بشكل مباشر أو غير مباشر ظاهرة تفشى البلطجة، وفى نشرهم حالة الانفلات الأمنى المرعبة للناس، وكلها تصب فى مسار اليأس والاستسلام الذى يهيئ الأجواء لمحو آثار الثورة وعودة النظام القديم (أو بالأصح استمراره)، مع بعض الإصلاحات الجزئية البسيطة والتغييرات فى الأسماء. والنتيجة النهائية تتوقف على غلبة أحد المسارين على الآخر، وعلى نجاح أحد الطرفين مقابل الطرف الآخر، لهذا فإن الصراع الثورى ما زال مستمرا، وما زال أمام الثوار مهمة كبيرة فى إحياء الأمل فى نفوس الناس، وتحويل طاقة الغضب الناتجة عن الإحباط إلى مسارات بنّاءة تظهر ثمارها فى حياة الناس اليومية، وأن ينتزعوا الناس من دوامة اليأس التى يسعى المناهضون للثورة إلى إغراقهم فيها.