في خِضَمّ الأزمة الحالكة التي تمرّ بها الأمة العربية والمتمثلة في حالة العجز وفقدان التوازن إزاء مواجهة مختلف المتغيرات الناتجة عن تلك التراكمات السلبية التي أفرزتها سلسلة متصلة من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في خِضَمّ ذلك، لا يجب أن ندّخر جهدًا في البحث عن مخرج من هذه الأزمة ولا ينبغي أيضًا أن نستمر في دفن رؤسنا في التراب لنغض الطرف عن حقيقة وضعنا الكارثي، بل يجب أن نبدأ مرحلة جديدة من البحث والإستقراء في التاريخ والواقع بهدف تحديد أسباب العجز والقصور و مواطِن التقصير علّنا نضع أيدينا على مفاتيح النجاة. أرى أن أحد أهم معالم تلك الأزمة هو القصور الفكري والعجز عن تجاوز الخلافات الأيدلوجيّة المستعصية على الحل والتي تعدّ مصدرًا عميقًا وعنصرًا فاعلًا في إحداث الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولعل هذا القصور لم يكن إلا نتيجةً مباشرةً لاضطراب مصادر الفكر واختلال طرائقه ومناهجه فى غياب الرؤية الواضحة والافتقار إلى الثقة، وضبابية المفاهيم وعدم اتضاح الأهداف . لعل أحد أبرز التساؤلات التي تطرحها المرحلة بواقعها المرير هو أين الخلل في نظام الفكر العربي المعاصر ؟؟؟ الفكر كما قدم له ابن خلدون لا يخرج عن صنفان، الأول هو ذلك الفكر الذي يعالج القضايا البشرية الأرضية كالعلوم الانسانية والتطبيقية والإدارية ، اما الثاني فهو الفكر الذي يتناول الأمور الغيبية، والحقيقة أن كلا الجانبان يحتاج إلى نوعٍ من إعمال العقل بالتفكير واتباع فلسفة علمية واضحة للوصول إلى تصوّر واضح وملائم لمقتضيات الواقع، وهو ما يوافق ما قدمه الدكتور طارق سويدان من تعريف الفكر بأنه: "إعمال العقل في أمرٍ ما للوصول إلى رأيٍ جديدٍ فيه" واشترط الدكتور سويدان أن يكون التفكير خلّاقًا لكي ينتج عنه فكرًا . وهنا في رأيي مكمن الأزمة حيث تعاني أمتنا من أزمة في الهوية و انعدام للثقة في الذات، مما أفقدها شرط الإبداع والتجديد في نتاج عمليات التفكير، وكنتيجة لذلك صرنا امة تابعة لا متّبَعة . في الواقع أن ذلك الوضع المزري والذي نعيش خلاله على فُتات ما تخلفه الأمم وما تنتجه من علوم ونظريات في مختلف الميادين والمجالات، يعد مخالفةً صارخةً لطبيعة وفلسفة ديننا الإسلامي الحنيف والذي جاء ليعمق فينا أهمية التفكير للوصول دائمًا من خلال الإبداع إلى فكر عملي متجدد يوافق الظروف ويتناسق مع العقل والمنطق والفطرة السليمة وقد أصّل القرآن الكريم لهذا المبدأ في دعوته إلى كل أصل من أصول الدين، من خلال إحالة الناس إلى التدبر والتفكر في الأدلة الكونية، حيث غالبًا ما تُختم الآيات المتعلقة بالتوحيد والمعاد والأخلاق بِجُمَل: أفلا تعقلون؟ أفلا تذكّرون؟. و لعل الجدل الدائر بين أصالة الفكر والإقتباس هي أحد أهم معالم تلك الأزمة ، حيث افترق المفكرون بين هذا وذاك وتطرّف كلٌ إلى رأيه مما أخرجنا من دائرة التفكير المنطقي السليم ، إلى دوامة الصراع في الحلقات المفرغة، فتشتت قُوانا واستُنزِفت طاقاتُنا واستحال على أيٍّ من أطراف ذاك النزاع أن يثبت صحة رؤيته . ولكي نخرج من تلك الدوامة ينبغي أن نعلم يقينًا أن صيانة الفكر هي الطريق الوحيد ، لفهم قضايا الحياة وإدراك مشكلاتها ووعي متناقضاتها في ظل الزخم الثقافي المتناثر، تلك الصيانة ينبغي أن تشمل الفكر العربي على المستوىين الرأسي والأفقي، بحيث تضع له مكانة بين السلم الفكري لبقية الأمم، وفي ذات الوقت تصل به إلى ملائمة الواقع والثقافة العربية ، وأول ما ينبغي صيانته في الفكر العربي هو الوصول إلى التجرّد والحيادية من العصبيات الأيدلوجية والتنظيمية المختلفة، والتي تشكل أحد أهم العوائق أمام الإنطلاق وحرية النقد وتوجيه الرأي بما يتلائم والحقائق المطروحة على أرض الواقع . أحد أهم مصادر تلك الأزمة هي تلك الحواجز التي أُريد لها أن تبقى منيعةً بيننا، تحجبنا عن بعضنا البعض، حتى أصبحنا ننظر لمن يخالفنا على أنه وحشُ كاسر ولا ينبغي لنا أن نناقشه أو نجادله بغرض فهم وجهة نظره، مما أصّلَ للعنصرية بين مختلف الثقافات والأيدلوجيات وامتد الخلاف ليصبح متشعبًا فكثرت مرجعياته وجذوره وتكاثرت مشاكله . وكمثال على ذلك يمكننا أن نتناول الجدل السياسي الدائر في مصر بين القوى الراديكالية والقوى العلمانية، وكذلك التشعب التباعدي الذي نتج في ليبيا إثر الثورة لتصبح العصبيات بدلا من كونها قبلية وبدلًا من حلها والقضاء عليها نتج لدينا عصبيات جديدة ،سياسية وأيدلوجية وإقليمية إضافة إلى تلك القبلية الموجودة من قبل. و من أهم مظاهر تلك الأزمات التي تعصف بالفكر العربي هي الركون إلى عالم اللاوقاع فيقول الدكتور عبدالكريم بكار في كتابه التفكير الموضوعي : "وأخطر ما في الانغلاق هو تشكيل العقل الخيالي الذي يحمل الأفكار المخلوطة عن الواقع المعاش وعن الأفكار العالمية ، مما يجعله ينهار عند الاحتكاكات الجادة ، مع من يعيشون خارج دائرته وما ذلك إلا لأن الأحادية تصبح السمة المميزة لكل ما يتعلق بالمنغلقين ، وتنعكس سلبياتها على طرق تفكيرهم انعكاساً مكبراً ، مما يحرمها من التنوع والثراء ورؤية الكون على ما هو عليه". من المؤسف أن تبقى بعض القناعات السلبية والجهل بمقتضيات الواقع و التمسك بثقافة التقليد سدوداً منيعة ، أمام حرية التفكير وطلاقة الفكر، والأكثر أسفًا أن نبقى متمسكين بها دون حجةً واضحة، لنصبح مثلنا كمثل قوم سيدنا إبراهيم عليه السلام حين جادلهم فيما يعبدون من أصنام فلم تكن إجابتهم إلا أن " قالوا بل وجدنا أباءنا كذلك يفعلون " وكذلك ثقافة التقديس والإتباع المطلق للأشخاص والجماعات والمذاهب، وقد قال الإمام أحمد – رحمه الله – ونعم ما قال (لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا). كذلك من أهم دلالات أزمة الفكر في عالمنا العربي الخضوع الدائم لنظرية المؤامرة مما أفرغ مجتمعنا من فقه المحاسبة الذاتية والتقويم ، فاستمرأنا تعليق أخطاءنا على شماعة المؤامرة، ففقدنا الدافعية للإصلاح . إن أحد أهم مصادر الأزمة الفكرية في عالمنا العربي هو الإعلام ودوره السلبي في توجيه ثقافة المواطن نحو أهداف تخدم مصالح أصحاب تلك القنوات من خلال مختلف الأعمال الإعلامية ، ومن خلال نظرة مبسطة على نوعية القنوات الفضائية التي تبث باللغة العربية وتخاطب العقول العربية وتساهم بشكل أو بآخر في تكوين الخلفية الثقافية للمواطن العربي نجد أن نوعية القنوات الأكثر انتشارًا هي قنوات الأفلام السينمائية والأعمال الدرامية والأغاني والرقص ومن أقل انواع القنوات انتشارًا هي تلك الثقافية من قنوات تعليمية ووثائقية وغيرها ... فالواقع الفضائي أصبح كارثيًا من ناحيتين، الأولى أنه يساهم في نشر الهشاشة الفكرية من خلال استهلاك الوقت والعواطف في أمور غير هادفة بل وأحيانًا سلبية الأهداف، الثانية أن هذا الكم الهائل من القنوات الهدامة يدل على كم الإقبال الضخم عيها . لا يمكن أن يصلح حال الفكر في أمتنا المكلومة في ثقافتها إلا إذا حققنا منهجية واضحة لإصلاح الفكر. تلك الأزمة الفكرية هي في الواقع جدليةً بين التفكير واللاتفكير تحتاج إلى الخروج من السطحية والخروج من التقيد بظواهر الأشياء ، واستيعاب غاياتها وأبعادها وجذورها، والتخلص من ضيق الأفق حيث لم يعد يتجاوز تفكير الإنسان مكانه ودائرته، ولا يستطيع إدراك ما يقع خارج زاوية رؤياه . ولكي يكون الخروج من ذلك الضيق أكثر ملائمةً للواقع ومقتضياته ينبغي أن يتم توجيه الإنسان في عالمنا العربي إلى أنماط التفكير السليمة وطرقه وقواعده وأساليب تعظيم عوائده والتعريف بأهمية تحديد الأهداف والغايات وكيفية انتقاء السبل الفاعلة لتحقيق تلك الأهداف بما يتوافق والإمكانات المتاحة . والسؤال هنا كيف يمكننا إصلاح ذلك الخلل ؟؟؟ يعد الإعلام والتعليم أهم الموجهات الفكرية على الإطلاق ولذلك فبدون إصلاح فعلي لمنظومة الإعلام المرئي والرقمي علاوة على إصلاح منظومة التعليم في العالم العربي ليصبح هدفها إخراج الإنسان الفاعل في المجتمع من خلال تنمية الإتجاهات السليمة في التفكير جنبًا إلى جنب مع المهارات المعرفية والعلمية . من خلال هذا الإصلاح يمكننا أن نصلح ثقافة المجتمع وأن نحصل على تعديل السلوك والوصول إلى الفهم الواعي لمختلف جوانب الحياة البشرية . ولكي نخرج من هذه الأزمة أيضًا ينبغي أن نتحلى بأخلاق الإسلام التي تدعو للتعاضد والتكامل لا إلى افتعال الخصومات، وشخصنة الخلافات، وتأجيج النعرات ، بل الواجب التضامن والتآزر والإلتفات بما تقاطع من مصالح وأهداف عن سلبيات التشاحن والإختلاف، والتقديم للنفس من خلال مسوغات مقبولة تتحقق من خلال التناظرية بعيدًا عن الإستعلاء والنظرة الدونية للآخر ، حيث يقول المؤرخ الفرنسي آرنست رينان: ( لم يدَّعِ محمّدٌ أبداً القدرة على إحياء الموتى ولم يصلب نفسه بين السماء والأرض ثم يحيا بعد موته، بل جعل معجزته هذا القرآن ذاته الذي لم يستطع أي بشر حتى الآن أن يأتي بمثله فعلاً. إن كل عظمة ذلك الشخص الكبير هي أنه كان يقول ويكرر: "إنما أنا بشر مثلكم") هذا الخروج من دائرة الفكر العليل إلى دائرة الإيجابية إنما هو سبيل للنجاة من الوقوع في أتون الفساد عن جهلٍ بالحقيقة وعلّة في الفهم والتفكير يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: ( ما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة ). ولعل من أهم أسباب النجاة من هذا الأزمة نشر ثقافة التفاعل بين مختلف التيارت مما يسهّل عملية التقريب وفهم الآخر ، ومن أهم ما يجب أن يدركه الإنسان خلال إختلاطه بالآخرين أن اجتماع الكمال والفضل في أشخاص من نوادر الحياة ، إذ قلما وجدت شخصًا يكمل في عينيك، وقد قال ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر (ويندر من الخلق من يلهمه الله الكمال وطلب الأفضل والجمع بين العلوم والأعمال ومعاملات القلوب وتتفاوت أرباب هذا الحال) ، وهذا يحثنا على التجاوز عن زلات الآخرين وعدم الإستكبار عليهم . ويبقى لنا ان ندرك أنه إن لم يكن لدينا التصور الصحيح لإصلاح الفكر والرغبة الملحة لذلك فلن ننجو لأنه ليس من المنطقي أن ننتظر خروجًا آمنًا من هذه الأزمة ، فهل سيأتي اليوم الذي ننأى فيه بأنفسنا عن تلك المهزلة الفكرية التي تحياها الامّة ؟؟؟؟ عصام الكحلوت