بقيت وزارة الإعلام في التعديل الوزاري الأخير, وبقي معها وزيرها الذي أثار جدلا لايتعلق بأدائه الوزاري, ولكن بزلة لسان تناقلتها وسائل الإعلام وأطالت الوقوف أمامها. وأمام جدل بقاء وزير الإعلام في منصبه تراجع حوار كان الأولي بالاهتمام وهو بقاء وزارة الإعلام ذاتها. فقد مضي علي الدستور الذي استبدلها بهيئات أخري تتولي مسؤولية إعادة تنظيم صناعة الإعلام في مصر قرابة الخمسة أشهر. ويبدو أن أشهرا عديدة سوف تمر قبل أن تري تلك الهيئات الجديدة النور. ربما كان تربص الجميع وترقبهم لما سوف تكون عليه تلك الهيئات أحد الأسباب وراء تأخر ظهورها. فالصحافة- وأعني بها الصحافة الإخبارية سواء مارستها الصحف المطبوعة أو الإذاعة أو التليفزيون أو المواقع الإلكترونية صناعة تقع بين وهمين شائعين. أحدهما لدي الحكومة والآخر لدي كثير من الصحفيين أنفسهم. الوهم الحكومي موروث منذ ظهور الصحافة في مصر وهو أن مصلحة الحكومة, وبالتالي الشعب في لجم هذا الحصان الجامح. فالحكومات التي تعاقبت تنظر للصحافة الإخبارية من زاوية المخاوف, وليس من زاوية المنافع. وهي رؤية تنبع من الطبيعة السلطوية للحكم في مصر. ولذلك ظلت العلاقة بين السلطة والصحافة تتراوح بين الولاء والعداء طوال التاريخ المصري الحديث. وفي أكثر الأوقات قربا من الديمقراطية سمحت الحكومات للصحافة بشيء من الحرية ولكنها لم تسقط أبدا احتياطاتها من القيود التي يمكن أن تستخدمها وقت اللزوم. ولم تهنأ الحكومات بعلاقات جيدة مع الصحافة إلا حينما تمكنت من ولائها جميعا. في هذا العصر أصبح الولاء الجمعي للحكومة من جانب الصحافة من المستحيلات وهي حقيقة لاتريد السلطة المصرية الاعتراف بها. وإذا كانت التطورات السياسية والاجتماعية والتكنولوجية سوف تدفع الحكومة للرضوخ أمام حرية الصحافة مثلما رضخت تاريخيا حكومات كثيرة في مناطق متعددة من العالم, إلا أن وقتا طويلا يضيع قبل أن نصل إلي ذلك. منذ أكثر من مائتي عام نقل عن إبراهام لنكولن قوله إن أي حكومة تقيد الحرية بدواعي الأمن هي حكومة لاتستحق الحرية ولاتستحق الأمن. إلا أن الوجدان المصري الآن يري أن الحرية المتاحة قد أفقدته الأمن علي كل المستويات. وأصبح كثير من المصريين ينظرون للحرية نظرة سلبية برغم طول الصراع من أجلها. فالحرية كما نعرفها الآن أقرب إلي الفوضي التي تمكن أي شخص أن يفعل ما يشاء فيمن يريد. هذا المفهوم المغلوط للحرية في الشارع المصري ليس بعيدا عن ممارسات كثيرين ممن يعملون في الصحافة بأشكالها المطبوعة والإذاعية والتليفزيونية والإلكترونية بسبب الوهم الشائع بينهم. كثير من الصحفيين خاصة حديثي الخبرة يرون أنفسهم قبل أن يتمكنوا من أدواتهم المهنية شخصيات مقدسة لايجوز المساس بهم أو مساءلتهم عما يكتبون, وأن لهم وحدهم حق محاسبة الجميع دون أن يتعرض لهم أي شخص بالمساءلة. هذا النوع من ممارسي الصحافة تزايد عددهم كثيرا في السنوات الأخيرة بسبب التوسع الهائل في عدد وسائل الإعلام وضعف إمكاناتها الاقتصادية غير القادرة علي جذب عناصر مؤهلة جيدا لممارسة الصحافة. في عصر الإذاعة المصرية كان عدد المتقدمين مثلا لشغل وظيفة مذيع محرر مترجم يزيد أحيانا علي ثلاثة آلاف لايتجاوز عدد المختارين منهم علي عشرة أشخاص كان الذي يقع منهم في خطأ لغوي أثناء قراءة النشرة يتواري عن زملائه أياما. ولذلك حافظت الإذاعة المصرية علي مستويات أداء رفيعة قل أن تقوم به مؤسسة إعلامية أخري. نفس الشيء كان يتكرر مع الصحف القومية. الذي لايعلمه بعض من ممارسي الصحافة الآن هو أن العالم كله ينظر إلي هذه المهنة نظرة توقير وتبجيل لأنها من أهم مؤسسات صناعة الضمير. وأنها بذاتها خاضعة لقيود مهنية تضمن الأداء الذي يحقق النفع الكثير لكل طوائف المجتمع. وأي صحفي ينتمي لتلك المؤسسة جدير بهذا التبجيل والتوقير طالما كان ملتزما بمهنيتها وأخلاقياتها. أما إذا خرج عليها فإنه يصبح عرضة للمساءلة بل والعقاب. ففي الولاياتالمتحدة نفسها قضي صحفيون شهورا طويلة في السجون لجرائم مثل التلاعب في تغطية أخبار البورصة لتحقيق مكاسب لبعض مكاتب السمسرة. تماما مثلما هو الحال في مؤسسة القضاء موقرة ومبجلة يتمتع قضاتها بنفس الدرجة من الاحترام طالما كانوا ملتزمين بمهنيتها ونزاهتها. أما إذا خرجوا عليها فلن يعفيهم أنهم قضاة من أن يوضعوا في السجون مثل غيرهم. المشهد الإعلامي الراهن يؤكد أن لدينا حرية أكثر مما لدينا مهنية حقيقية تكفل أداء إعلاميا متميزا. يحمل الأثير في كل أسبوع قناة فضائية جديدة وصحيفة علي الأقل وعشرات من المواقع الإلكترونية. ولسنا ندري من أين تأتي هذه الوسائل بمن يتولي تشغيلها من الصحفيين ولانعرف أين تم تدريبهم ولاكيف كان ذلك. بعد أسبوع واحد فقط من الممارسة الارتجالية للعمل الصحفي في صحيفة أو قناة تليفزيونية تجد من أسبغ علي نفسه الحماية المقررة لمؤسسة الصحافة برغم عشرات الأخطاء التي يرتكبها في حق الصحافة وجمهورها. مهمة مجالس الصحافة في العالم هي إزالة تلك الأوهام لدي الحكومة والصحفيين علي السواء. مهمة تلك المجالس أن تحافظ علي حرية الصحافة وتدعمها حماية للتنوع في الآراء والأفكار التي تثري الحياة في المجتمع, وتضمن في الوقت ذاته أن تؤدي الصحافة دورها بأعلي مستوي من الكفاءة والمهنية. وتجارب مجالس الصحافة في العالم من حولنا مليئة بآليات الحفاظ علي الحرية والتنوع وأدوات الردع لكل وسيلة إعلامية تخرج عن المهنية الصحفية الرفيعة دون أن تضع الصحفيين خلف قضبان السجون. نحن لانخترع بمجالس الصحافة العجلة, ولكن بقي أن نتفق علي كيفية استخدام تلك العجلة.