أمي .. انقطعت عن مشاهدة التلفاز إنقطاعاً تاماً.. و باتاً.. و أبديّاً؛ لا لضعف البصر الناتج عن طول العمر، ولا لأن النظر إلى التلفزيون عورة وبدعة ؛ ولكنها عقدة .. عقدة نفسية تولدت مع ولادة ثورة يناير المصرية، وسقوط أول شهدائها من الثوار الأبرار. وكبرت العقدة في كل يوم وساعة و لحظة من عمر الثورة الشعبية السلمية ؛ التي جوبهت من رأس النظام، وخَدَمه، أعوان فرعون؛ بأبشع ما يمكن أن تُجابه به حتى أعنف الثورات العسكرية المسلحة ! شريف يا ابني : الله يخليك يا ولدي، إبعد عن الناس دي .. دولا كلهم ناس مفترية .. ومفيش عندهم لا خشا ولا وقار.. احنا يا ابني مالناش لا في الثورة ولا في غيرها .. احنا ناس في حالنا .. ودولا حكومة وظباط وسجون وضرب نار والشباب يا عيني زي منتا شايف بينضربوا و يندهسوا وينسحلوا وينسجنوا و دمهم مطرطش في كل مكان يا حول الله .. بلاش ياابني الله يخليك .. إوعى تروح معاهم الميدان يا ولدي .. أو تعمل زيِّهم .. خلينا دايما كده مساكين، و هاديين و منكسرين، وماشيين جنب الحيط.. خلينا دايماً زيّ مااحنا يا ولدي غلابة و طيبين و ف حالنا .. ومالناش دعوة بالسياسة .... !! ( : ....... ) لكن؛ من حق يا واد يا شريف : أنا سمعتهم بيقولوا : حسني مبارك عايز الشبان المتظاهرين يمهلوه كم شهر كده قبلما يسلم لهم الحكم ... (: .........) شريف يابني : اوعى يا ضنايا يكون الشباب بتوع الميدان رح يصدقوا كلامه ويتركوه في الحكم كل المهلة دي اللي هوّه طلبها .. الراجل ده وجماعته ياابني مش مضمونين خالص، ولا مأمونين ! دول ناس خونة ياابني .. ! ( : ........ ) شريف يا ولدي : إوعى .. ولا حتى يوم واحد يبقى الراجل ده وعصابته في الحكم، بعد انصراف الشبان من الميدان ، دولا ياابني ناس أنيابها زارقة، وحِيَلهم ومقالبهم كثيرة ، وعمرها ما بتخلص ... يا ابني : دولا لو تركتوهم دقيقة واحدة بعد كده ؛ ممكن يسرقوا البلد كلها ويفككوها ويهربوها على برة، وما يسيبوهلناش غير خِربة ... ! ( : ........ ) يا ابني ياحبيبي : دولا مش ناس ، دول عصابة مجرمين .. كل يوم قايمين .. نايمين .. نازلين تقتيل في العيال ياعيني في التحرير وف السويس واسكندرية، و في كل مكان فيه شباب متظاهرين .. (: ......... ) يا ابني : الله يخليك .. هي خلاص يعني .. رح تفضل كده و مش رح يبان لها حل؟إ يعني رح تسيبوا المجرمين دولا يقتلوا في العيال المساكين يا حبة عيني واحد ورا الثاني وانتم واقفين تتفرجوا، ومش قادرين تعملولهم حاجة؟! يعني ياابني هُمّا كانوا عملوا إيه يعني العيال دولا علشان يضربوهم ويسجنوهم ويقمعوهم بالشكل ده؟! همّا مش شبان متعلمين ومثقفين وقايمين يدوروا لنفسهم على شغل ، ولقمة عيش شريفة، و حرية ؟!! إلحق يابني دولا بيقولوا رح يهجموا النهارده بالطيارات، و يصفوا كل اللي في الميدان الليلة ..!! إلحق ياابني يا شريف .. إعمل حاجة .. إلحق ياابني ... (يا أمي : انتي عارفاني .. طالعلك تماما .. طول عمري مسكين و هادي و منكسر، وماشي جنب الحيط ،.. أنا يا أمي طول عمري زيك ً كده ، غلبان و طيب، وف حالي و ماليش دعوة بالسياسة .....) !! *** أخي الأكبر .. يخطف شريحة حلوى الملبن اللدنة اللذيذة، رغم أني أنا مَن طلبتها من أمي بعد أن بقيت من حشو كعك العيد . شريحة كبييييرة حقاً تراءت أمامي كما لو كانت أكثر طولا من العلبة نفسها التي كانت تحويها .. لا شك أنها ستشبعني أنا وأخي شبعا يكفينا حتى أوان ملبن العيد التالي .. ! ولكن على شرط أن يقتسمها أخي الأكبر بالعدل .. والعدل هنا هو الإنصاف لا غيره (فيفتي .. فيفتي) قلتها بقوة وحزم وجديّة.. يسارع أخي في لهفة بقسمة الشريحة ، ولكن .. إن هي إلا قسمة ضيزى ! سرعان ما رفضتها صارخاً في وجهه أن يعيد القسمة عادلة منصفة .. يسارع أخي بقضم الشريحة الأكبر قضمة تتحول في ثوان إلى شريحة أصغر وهكذا .. كلما اعترضت على أنّ إحدى القطع أكبر من الأخرى ؛ يسارع أخي بالتهام قضمة من الكبرى فتصبح أصغر، ثم يعاود معالجة ثورتي واحتجاجي بقضم الأخرى الكبرى فتعاود بالتالي تصبح صغرى، فأصغر وهكذا قضمة فقضمة تلو قضمة؛ حتى أوشكت الشريحة بقطعتيها على الاختفاء من أمام عيني إلى جوف أخي ... ! كان أخي الأكبر مع كل قضمة يبتسم ابتسامة عميقة، خبيثة ؛ سعيداً، مزهواً بأنه هو الأكبر والأكثر فهماً وحذقاً و ذكاوة؛ و ما أنا سوى فتى صغير، غافل، غرِّير، عصبي ، ثرثار لا يجيد سوى الكلام والصريخ، والصويت ، يتشدق بالعدالة وهو لا يعي معنى العدالة! ويطالب بالحقوق وهولا يعرف أن ليس له لدينا حقوق !! أنا لم أكن طفلا غافلا ولا غريراً، ثرثاراً، جاهلا بحقوقه .. أنا كنت أعرف أن طول شريحة حلوى الملبن اللذيذ هو نفس طول علبة الحلوى الكرتونية الفارغة، الثاوية أمامنا على الطاولة طوال الوقت .. أنا كنت أعرف أن حقي في شريحة الملبن يعادل نصف طول علبة الحلوى .. وكنت أعرف أن طول نصف علبة الحلوى هو ناتج عملية ثني علبة الحلوى الكرتونية الفارغة بعد تطبيقها .. أنا كنت أعرف كل ذلك .. كنت أعرف أكثر من ذلك .. ولكنه أخي الأكبر .. أخي الأقوى ..!! أخي الوليّ .. أخي الوصيّ .. !! وأنا .. لستُ سوى مجرد فتى غافل، غرير، عصبي، ثرثار لا يجيد سوى الكلام والصريخ والصويت ، يتشدق بالعدالة وهو لا يوفر لها شروط ! ويطالب بالحقوق وهولا يقوى على حماية الحقوق !! ***