أنظر حولي .... أتفرس وجوه السجناء ....أتأمل محبسي .......أحاول أن ألملم جسدي النحيل و أتجه به إلى أحد الأركان ..... أحدهم يفسح لي شبراً فأكيف جسدي مع المساحة المسموح بها..... أحاصر رأسي المنهكة من التفكير بذراعيَ و ركبتيَ ، ثم أغمض عينيَ لأهرب من واقع تعس ... أغوص بأفكاري إلى أعماق أعماقي ، لكن أحزاني تطاردني .... تغوص خلفي ، تحتشد و همومي ، تتكوم تلالاً ، تتجمع طوداً يجثم فوق صدري .... يكتم أنفاسي ..... يخنقني. من بين ثنايا الماضي ينبعث صوت أبي يسألني بفطرة و عفوية من لم ينل حظاً من التعليم : انت بتشتغل إيه يا بني ؟ معلماً يا أبي . بس يا بني الشغلانة دي معديتش زي الأول !! إيه رأيك تسيبها و تشتغل دكتور أو ضابط أو وكيل نيابة . قالها و هو يزم شفتيه ... يومها ضحكت على جملتك الأخيرة يا أبي .... ضحكت و أنا أرد عليك : مينفعش ، و ياليتني ما ضحكت فلو علمتُ الغيب ما ضحكت و لبحثت عن مهنة أخرى. أفيق من أفكاري على عيون الوحوش تحملق فيَ .... تحاول أن تفرض علىً قانون الغابة الذي يسود المكان.... أحاول أن أحمي رأسي من بضع لكمات ، لكن أسمع أحدهم يصيح بصوت جهوري : كل واحد في مكانه يا ولاد ال ..... ، انه في حمايتي . أرفع رأسي فأرى الوحوش قد هدأت و استكانت ، فملك الغابة أصدر فرماناً . رغماً عني تعاودني أفكاري ..... تلوح أمامي صورة الأستاذ محمود معلمي في الثانوية ، آآآآآآآآآآآآآآآآآآآه يا أستاذ محمود ، أنت السبب في كل ما أنا فيه الآن . كنت معجباً بك و بشخصيتك و كم تمنيت أن أكون مثلك .... كنا نراك قادماً من بعيد فنركض بعداً حتى لا تقع عيناك علينا ... كنا نجلس أمامك بالصف ، نستمع إلى شرحك بشغف و نهم كأن الفصل خلا من طلابه ، و لو أن شعرة سقطت من رأس أحدهم ، لسمعت صوت ارتطامها بالأرض ... تمنيت أن أكون مثلك معلماً مهاباً ... و صرت معلماً .... لكن أبداً ، لم يعد المعلم مهاباً ...... كنت أسمعك و أنت تعاقب المسئ و تقوم سلوكه و أنت تردد : من أمن العقاب أساء الأدب قلتها له يا أستاذ محمود.... قلتها له و كأنني أنا المخطئ و المسئ .... قلت له يا حضرة الناظر ، الطالب أثار الشغب ... اعتدى على زملائه .... تطاول علىَ حين منعته ... كلمني بوقاحة ... هددني أمام زملائه بعواقب وخيمة . و يا ليته اقتنع ، قال لي : شوف يا أستاذ ، انت رجل تربوي ، يعني أكيد عارف إن العقاب البدني ممنوع ، و إن الطالب مهما فعل يجب أن تتحمله لأنه في النهاية طالب و أنت رجل تربوي ، يعني المفروض متوصلش الطالب للمرحلة دي. آآآآآآآآآآآه لو رأيت الطالب يا أستاذ محمود و هو يجلس مع والده أمام ضابط المخفر و قد وضع إحدى ذراعيه و إحدى ساقيه في الجبس ، لا أدري ....أصفعة على الوجه تفعل به كل هذا...؟!!!! ينظر إلىَ خلسة ... يبتسم في خبث و دهاء و هو يراني أقف أمام الضابط كأي مجرم .... أبوه يصيح و يملأ المكان صراخاً مطالباً بحق ابنه في القصاص العادل من هذا الذي نُزعت من قلبه كل معان الرحمة و هو يقدم تقريراً طبياً لا أدري من أين أتى به ، لكنه يكفي لإعدامي ..... لكن يبق السؤال يتردد في رأسي : أصفعة على الوجه تفعل به كل هذا ؟!!!! أفيق من أفكاري على صوت المساجين ، لكني أشعر بالأرض تميد من تحتي ، و أركان الزنزانة تدور بسرعة تزداد شيئاً فشيئاً ... الدماء ترتفع إلى رأسي كأنها طلقات صُوبت لأعلى .... الصور تتلاشى شيئاً فشيئاً .... أحاول أن أتمالك نفسي .. أن أقف على قدماي ، لكنهما تخوناني ... قوايَ تتلاشى .... أسمع ارتطام جسدي بالأرض ....أسمع صوت من بعيد "الحقوا الأفندي باينه هيموت".