ما هو الموت؟ أهو نقيض الحياة الأزلي؟ يُدرجونه في قواميس اللغة للكلمات المتضادة كمثال عابر سهل الاستيعاب! و لكن أليس بين الحياة و الموت -صديقي- ألف حياة، و ألف ألف موتة بعد؟ و من يدري؟ يقولون في كتب الفلسفة أن من يموتون إنما يحاولون أن يمنحوا الآخرين حياة جديدة، و متسعاً أكبر لافتراش المدى و التمرُّن على تلك التراجيديا التي لم تكن أبداً غير ذلك! أما الطب، و أهله الذين يتخمون من أوجاع المساكين، فيُعرّفون الموت -أو الوفاة- بانقطاع الأنفاس و اختناق النبضات و مفارقة المُر و الحلو من اللحظات... و لديهم دائماً لتفسير ذلك آلاف بل ملايين العوامل أو الأسباب- أو الأمراض! و ماذا يعرف الأطفال بسذاجتهم عن هذا الزائر الغريب؟ و هل أعرف أنا أكثر منهم- أو أقل حتى؟ قد نؤمن بالقضاء و القدر...بانقضاء الأجل... و ربما نود أن نعتقد بأن الموت ليس أكثر من رحيل أحبتنا أو أقاربنا و لو كان رحيلاً بلا رجعة... و من هذه الزاوية أصبحنا نكذب على الأطفال فنخبرهم بأن أباهم -مثلاً- قد رحل إلى حين، أو أن الجد الغالي سيعود ومعه هدية جميلة إن بقوا (مطيعين)! و إذا كان الأهل ممن لا يثقون بفكرة تخليص الطفل من خوفه و حيرته بابتداع القصص التي تأخذ قريبه المفقود إلى مكان لم يكن يحلم بالسفر إليه طوال حياته، إذا كانوا كذلك، فإنهم يحكمون لصالح قريبهم المتوفى فيرفعونه درجات ليدخلوه الجنة مواساة لعزيزهم المغفل الصغير، فالمتوفى سيعيش (الحياة الفضلى) عندئذ و برغبة من ذويه! يصدق الصغار هذا و ذاك، و نرغب نحن بتصديقه أيضاً علّه يخفف ألمنا أو يُنسيناه إلى أن نرتطم بحقيقة أخرى قاسية مما تضمره لنا الحياة الحنون! أما أنا... فالموت بالنسبة لي يحتوي شيئاً آخر، أو يحتويه شيء آخر... احتقان الحياة و امتزاج ما نحب بما نكره- أو نخشى؛ أجنحة غريبة من عالم آخر لا أدركه بعد... و أعجب كيف يكون رغبة ننطق بها ساعة الحزن و الضيق و اليأس -و ما أثقلها- ليصبح نقيضُه فجأة أعز ما نملك في عالمنا الفسيح الجميل بما فيه أغلى الأقرباء و الأحباب، و أثمن الأشياء! هل يغدو موت إنسان نبغضه من سبعين عاماً شماتة به أم هل تُلبَس الشماتة اسم الشفقة لا أكثر! ما أقساه من اعتبار... و ليس أشد قسوة منه سوى وقع تلك الصدمة التي كلما سرَت في الذاكرة أيقظت الألم و استدعت الآهات التي تتمنى أن تُنسى... و لا تنسى... و هل إذا دنا الظل الأسود من حجرتي المظلمة سأذكر دفاتري الهزيلة؟ هل سأتمكن من الاحتفاظ بأقلامي الهشة؟ و هل سيبقى رسم اسم ما في صفحات لا تمحى (كما في أحلام يقظتي) أبداً مهما لطخها الزمن و أينما سافرْت!؟ هل سيرجوني أحدهم أن أبقى قليلاً بعد؟ أم أن رحيلي سيكون أمنية من أدري و لا أدري؟ و هل سينتهي "موسم الخيبات" الذي طال أكثر من بضع و عشرين عام؟ هل ستحرق الحياة أناملي بلا سؤال: سترجعين؟ هل سترجع الألوان الزرقاء التي تغرق فيها الأحاسيس المبهَمة، و النهايات المبهَمة!... مقطوعات الموسيقى المؤلمة المتألمة و التي لم تشْكُ أبداً وجعاً أو خوفاً... لم تعرف سوى الدمع الملون، و لم تعرف سوى الدمع! ما الذي يجري هنالك بين أعقاب السجائر؟ كيف أدري... ماذا أقول لمن تُحدّق في التواءات الحلمْ؟؟ ماذا أقول إذا كتبتُ و إن رسمتُ أو انتفضتُ... لست أدري... لست أدري!! قد تنكر الأقلامُ ما يوحى إليها، قد ترسم البسماتِ أصداءً لديها... لكن أنا -و خيبتي- ماذا نقول لترتضي؟! هل نرتضي، بتفاهة الكلمات حين ترصدها العيونْ، بسذاجة التعبير، أو قِدَم الدفاترْ... ماذا أقولُ، ماذا أغنّي... لست أدري!!! فلقد تضاحكت النجوم صباح أمسِ... و مساء أمسٍ قد ماتت نجومْ و أنا تُركتُ وحيدةً كما بدأتُ و هل بدأتُ... لأنتهي؟ ما الذي يجري هنالك بين أحلامٍ مريضه... و من سيعرف كيف تحلمْ كيف تحيا كيف من أشواك ماضيها تتخبأ... تتعامى تتألم ما الذي يجري هنالك... حين يلد المرضُ الخوفَ و يلد الخوفُ المرضْ؟ ما الذي يجري... و صدّقني لست أدري لست أفهم... ما الذي يجري هنالك؛ إن لون الشمس حالكْ و مهشّمْ.