من القصائد الحماسية، التي عودنا عليها عنترة، وهي مزيج بين العتاب، والفخر، والإكتفاء بالذات، والإعتداد بالنفس، والاعتماد عليها. إذا فاضَ دمعي واستهلّ على خدِّي * وجاذبني شوقي إلى العلمِ السّعدي أُذَكّرُ قومي ظُلمَهُم لي وَبغيَهُم * وقلة َ إنصافي على القُربِ والبُعدِ بَنَيْتُ لهمْ بالسَّيفِ مجْداً مُشيّداً * فلّما تَنَاهَى مجدَهُمْ هَدَّمُوا مجدي يعيبونَ لوني بالسواد وإنما * فِعَالُهُم بالخُبثِ أسودُ من جلدي في مطلع القصيدة يرثي عنترة نفسه، ويشكوا حاله مع قومه، وقد بلغ به الحزن والأسى مبلغاً، جعل دمعه غزيراً ينزل على خديه، بالرغم من قوة عنترة وصلابته، وهذا إن دل، فإنما يدل على مدى الألم الدفين في نفس عنترة، وفي لحظات الأسى هذه، يتخلل لنفس عنترة شعور بالحنين للعلم السعدي، والعلم هو اسم للجبل والمراد هنا جبل لبني سعد، ولعل عنترة كان يلتقي بعبلة هناك، فحنت نفسه لهذا المكان. وبعد أن استجاب عنترة لمشاعره، وأطلق لها العنان، ليهون عن نفسه بعض ما هي فيه، يعود لصلابته ولرباطة جأشه، ويعاتب قومه لَعَلَّهُ أن يحرك فيهم ساكناً، وأن يَلمِسَ كَلَامُهُ ضَمَائِرَهُم، ويذكر قومه بما كان منه من جهادٍ وقتالٍ واستماتةٍ، في الدفاع عن شرفهم، وحماية أعراضهم، والسعي لمجده ومجدهم، وما كان منهم إلا أن ظلموه، وبخسوه حقه وقدره، واحتقروه وقللوا من شأنه وقيمته، يقول عنترة: كان منهم كل ذلك، وقد تناسوا أني بنيت لهم بسيفي ورمحي، مجداً وعزاً بين العرب يتفاخرون به، فما كان منهم إلا أن نسبوه لأنفسهم، وهدموا مجدي، وهنا لون لطيف من ألوان علم البديع، يسمى الطباق، في قوله (بنيت لهم ، وهَدَّمُوا). ولم يكتفي هؤلاء القوم بذلك، بل قاموا بازدراء عنترة، وتعييره بلون جلده أنه أسود، والحق أن قبح أفعالهم، وسوء أخلاقهم، وفساد عنصرهم، أشد سواداً من لون عنترة، فبأي وجه يتفاخر هؤلاء القوم، وبأي وجه يتكلمون. فواذُلّ جيراني إذا غِبتُ عنهُمُ * وطالَ المدَى ماذا يُلاقونَ من بَعدي أَتحْسبُ قَيْسٌ أنَّني بعد طردِهمْ * أخافُ الأعادي أو أُذَلُ من الطَّردِ وكيفَ يَحِلُّ الذُلّ قلبي وصارمي * إذا اهتز قَلْبُ الضَّدِّ يخْفِقُ كالرَّعْد ويضع عنترة أمام أعين هؤلاء القوم، أمراً لا شك فيه ولا جدال، وهو أنه لولا وجود عنترة بينهم، ودفاعه عنهم، وخشية العرب منه ومن بطشه، لما قامت لبني عبس قائمة، ولا كانوا بمثل هذا العز، وهذا المجد، الذي نالوه بوجود عنترة بين أظهرهم، فيا ذلهم لو تخلى عنهم، وهجرهم، وولى بلا رجعة، ثم يرد عنترة على ظن قبيلته، منادياً لهم بقيس، وهو قيس بن نزار بن معد بن عدنان، وهو الذي ينحدر من نسله بني عبس، فيقول لهم أتظنون يا بني قيس، أنكم بعد طردي قد أخاف من الأعادي، أو تَفتُرُ همتي وأشعر بالإهانة والذل؟ إنكم واهمون، كيف للذل والهوان أن يعرف الطريق إلى قلبي؟ وأنا الذي من قوتي، لو هززت صارمي أي: سيفي، يهتز قلب من يقف ضدي خوفاً، ويضطرب مثل الرعد. متى سُلّ في كفِّي بيوم كَريهَةٍ * فلا فَرْقَ ما بيْنَ المشايخ والمُرْدِ وما الفخرُ إلاّ أنْ تكونَ عُمَامَتِي * مُكَّوّرة َ الأطرافِ بالصّارمِ الهندي ويواصل عنترة وصف قوته، وأدائه في الحرب، فيقول: إن سيفي ذاك الذي قمت بِسَلِّهِ من غمده بيدي، وقاتلت به في يوم كريهة، أي: يوم حرب، فأنا أقاتل وأجندل كل عدو أمامي، لا فرق عندي بين شيخ عجوز، وبين شاب أمرد، والأمرد هو: الشاب الذي نبت شاربه، ولم تنبت لحيته بعد، ثم يقول عنترة: وما فخر الفارس في الحرب والقتال، إلا أن تكون عمامته مكورة، أي: مستديرة الأطراف، وذلك كناية عن الثبات والعزة أثناء القتال، ولا تكون العمامة هكذا، إلا بالصارم الهندي، أي: السيوف المصنوعة في الهند، لأنها كانت أجود السيوف آنذاك، وكل ذلك كناية عن القوة والبسالة، في الحروب والمعارك. نديمَيَّ إمّا غِبتُمُا بَعدَ سَكرة ٍ * فلا تَذكُرَا أطلالَ سلمى ولاهندِ ولا تَذْكُرا لي غَيرَ خَيلٍ مُغَبَّرَة ٍ * ونَقعْ غُبارٍ حَالِك اللّونِ مُسوَدِّ فإنّ غُبارَ الصّافِناتِ إذا عَلا * نَشَقتُ لَهُ ريحاً أَلَذَّ منَ النّدّ وفي مشهد خيالي يصفه لنا عنترة، يجرد من نفسه صديقين يسكران معه، فيوصيهما بحرصٍ إن غابا عن الوعي، واستغرقا في السكر، فلا يفعلا مثل باقي الشعراء، فيحنوا للمحبوب ويذكروا الأطلال، أي: منازل الأحباب مثل سلمى وهند، -وهما اسمان كَثُرا في شعر البكاء على الأطلال عند العرب- لا تذكروا ذلك، ولكن اذكروا في مجلسي، أيام الحروب والمعارك، وغبار الخيل الراكضة هنا وهناك، والغبار المتصاعد نتيجة الحركة المستمرة في الحرب، ذلك الغبار الذي هو لونه أسود حالك السواد، وكل ذلك كناية عن شدة الحرب، وما يتعلق بها. فعنترة فارس، لا تروق له مجالس البكاء على الاطلال، ولكن يروقه ذكر الحروب والطعان، ويصف لنا عنترة، السرور الذي يتملكه ساعة المعركة، فيقول: أن الغبار المتصاعد في أرض المعركة، الذي تثيره الصافنات، أي: جياد الخيل، لهو أحب إلى نفسي، وأدعى لسروري، وإن رائحة هذا الغبار المتصاعد، ألذ عندي وأطيب من النَدِّ، والنَدُّ هو: مزيج بين المسك والكافور. ورَيحَانَتِي رُمحِي وكاساتُ مَجلِسِي * جَمَاجِمُ سَادَاتٍ حِراصٍ على المجدِ ولي منْ حُسامي كلّ يوْمٍ على الثَرَى * نقوشُ دمٍ تُغنِي النَّدامى عن الوردِ وليْسَ يَعيبُ السَّيفَ إخلاقُ غِمْدِه * إذا كانَ في يوم الوغى قاطع الحدّ ويظهر لنا عنترة، المزيد من ألوان الفخر عنده، فها هو يقول أن ريحانته، أي: زهرته ذات العطر المميز، ما هي إلا رمحه الذي يقاتل به أعدائه، وكاسات عنترة التي يشرب بها، ليست كباقي الكاسات، من الزجاج أو المعدن، بل هي عبارة عن جماجم بشرية، وهذا هو المعنى الظاهر، ولكن في تصوري، أن المقصود من هذا، أن مجالس شرب عنترة ليست الحانات، وإنما هي عقول الفرسان والأماجد، الذين سبقوه، يتتبع سيرهم، ويفيد من تجاربهم وأقوالهم، وإلا ما كان عنترة ليمدح أناساً حاربوه. ويؤكد عنترة صدق ما يزعم، من أن مجالس السكر واللهو، والبكاء على الأطلال، لا تروقه ولا تستهويه، إلا إن كان الحديث عن الحروب والمعارك، فها هو يقول أنه له معارك وقتالات، كل يوم بحسامه أي: بسيفه، هذه المعارك دائما ما تترك أثراً على الأرض خلفها، وهي نقوش الدم المترامية، فهذه الحكايات البطولية التي يحكيها عنترة، فيها متعة تغني الندامى أي: شركاء مجالس الشرب، عن الوِردِ، والمقصود به هنا ما يشربونه في هذه المجالس، وينتقل عنترة إلى الحديث عن من يظنون، أن الفروسية والقوة، بمظهر السيف ولمعانه، وبهاء الدروع والخيول، ويضرب لهم المثل، ليثبت لهم سوء ظنهم وفساد رأيهم، بأن الفارس والمقاتل لا تكون قوته بهذه المظاهر، فكما أن السيف لا يُعاب بإخلاق غمده، أي: يكون غمده قديماً بالياً، إذا ما كان قاطع الحد نافذاً، فكذلك الفارس، لا يعيبه اهتراء ملبسه، إذا ما كان في القتال فارساً بطلاً، لا يشق له غبار. فلِلَّهِ دَرِّي كمْ غُبارٍ قطَعْتُهُ * على ضَامِرِ الجَنبَينِ مُعتَدلِ القدّ وطاعَنتُ عَنهُ الخيل حَتَّى تبّددت * هِزاماً كأسرابِ القطاءِ إلى الوِردِ فزَارة ُ قد هيَجتُم لَيثَ غابة ٍ * ولم تُفرِّقوا بين الضَّلالة ِ والرُّشدِ فقولوا لِحصْنٍ إنْ تَعانَى عدَاوَتي * يبيتُ على نارٍ من الحزنِ والوجدِ يمدح عنترة فروسيته وأدائه في المعارك، فيقول لله دري كم من غبار معركةٍ، أثارته الخيول والفرسان، خضت فيه على ضامر الجنبين، أي: فرس ليس في أجنابه دهنٌ أو ترهل يعيق حركته، معتدل القد أي: متناسق الشكل سليم القوام، فيا له من فرس يمتطيه عنترة، يخوض به غمار الحروب، ويخرج منها ظافراً منتصراً، تلك الحروب التي يخوضها على ظهر فرسه، يُطاعِنُ بها الفرسان ويهزمهم، حتى يفروا خائفين مذعورين، كأسراب القطا: وهو نوع من الطيور، يهرعون إلى الوِردِ: أي مورد الماء. ويوجه عنترة الحديث إلى بني فزارة بن ذبيان، وقد كان بينهم وبين بني عبس حربٌ طويلة، كانت معروفة ب(داحس والغبراء)، ليعلمهم بمدى فداحة الخطأ الذي ارتكبوه، بمعاداتهم لبني عبس وفيهم عنترة، ومدى الهلاك الذي استجلبوه لأنفسهم، فقد قاموا بمعاداة ليث غاب لا يرحم فريسته، غير مبالين بعاقبة هذا الفعل، وغير مفرقين بن الضلالة والرشد، فقولوا يا بني فزارة لسيدكم حصن، أنه إن تَعَانى عداوتي، أي: تكلف معاداتي، فليس له مصير إلا أن يبيت على نارٍ، تشعل صدره حزناً وألماً على ما سأجعله يعاني منه، ووجداً أي: شوقا لأيامٍ كان فيها سيداً، رفيع الشأن عالي المقام.