من القصائد الرئعة، التي قالها عنترة بغرض الفخر، والتي تشعل النفس حماسا،ً وتلقي فيها ألوان الكرامة، والترفع عن الدنايا. أُعادي صَرْفَ دَهْرٍ لا يُعادى * وأحتملُ القطيعة والبعادا وأظهرُ نُصْحَ قَوْمٍ ضَيَّعُوني * وإنْ خانَت قُلُوبُهُمُ الودَادا ليست الحياة سهلة ولينة كما يتصور الكثير، وليست الأيام آمنة مطمئنة دائما، فتغير الأحوال سنة من سنن الكون، ولابد من تذوق قسوة الحياة والمعاناة من مصائب الأيام، فلا بد من الصبر والهمة، في مواجهة هذه الصعوبات كما فعل عنترة، فها هو يتحدث مفتخراً بنفسه ومعتدا بذاته، فيقول: أنه لا يعبأ ولا يهتم بصروف الدهر، أي مصائبه، لأنه رجل نفسه مشبعة بالبطولة، وهذه النفس تحثه دائما على مواجهة الصعاب والتغلب عليها، ومن مظاهر احتماله، أنه يصبر على القطيعة والبعاد، وهما أمران شاقان على كثير من الناس. ومن ثم يعلمنا عنترة خلقا كريما، من أخلاق العرب والتي أقرها الإسلام، ألا وهو حب الأهل والوطن، حتى وإن لاقيت منهم الأذى، فها هو يقول: أنني بالرغم من أذى قومي لي، وعدم حفظ المودة تجاهي، فإني لا أتردد أبدا في فعل الخير لهم، والنصح لهم في المصائب والملمات، فلله دره عنترة. أعللُ بالمنى قلبا عليلا * وبالصبر الجميلِ وان تمادى تُعيّرني العِدى بِسوادِ جلْدي * وبيض خصائلي تمحو السَّوادا ومن تكون حاله كحال عنترة، الذي ألزم نفسه بكل هذه المكارم، وهذه الأخلاق، لابد أن يتعب قلبه من حين لآخر، لأننا بشر ولنا قدر معين نتحمله، فما كان من عنترة حين يحزن قلبه، إلا أن يرضيه بتذكر المُنَى، أي: ما يرغب فيه عنترة ويتمناه، ويسعى لتحقيقه، وأن يقنعه بالصبر الجميل أي: الصبر الذي يكون بلا شكوى، حتى وإن تمادى هذا الصبر أي: طال وكثر. ومن ثم يعيب عنترة على أعداءه، ومن يفعل فعلهم، أنهم يعيرونه دائما بسواد جلده، وأنه مهما فعل وقال، فسواد جلده عيب كاف لتجاهله، وتقليل شأنه، فيقول لهم إنه وإن كان لون جلده أسودا، فإن بيض أفعاله وكرم أخلاقه، كافيان لأن يمحوا هذا السواد، وفي هذا البيت لون جميل من ألوان البلاغة، يسمى الطباق، وقد جاء في قوله، (سواد جلدي ، بيض خصائلي). سلي يا عبلَ قومك عنْ فعالي * ومَنْ حضَرَ الوقيعَة َ والطّرادا وردتُ الحربَ والأبطالُ حولي * تَهُزُّ أكُفُّها السُّمْرَ الصّعادا من عادة شعراء الجاهلية، أن يجردوا من أنفسهم شخص أو اثنين، يكون معه الحوار أثناء القصيدة، أما عنترة فلا يكون هذا الشخص عنده، أحد غير عبلة، ويتحدث معها ليرد على ناقصي العقل، قاصري النظر، الذين يقللون من شأنه، رغم أفعاله وأخلاقه، فقط لأن لون جلده أسود، فيقول لها اسألي يا عبلة هؤلاء القوم عني، في أوقات الحروب والأزمات، كيف كنتُ وكيف كانوا. أخبريهم كيف أني وردت الحرب أي: دخلت فيها، بين الفرسان والأبطال، وصليل السيوف وصهيل الخيل، أخبريهم كيف دخلت في وسط ذلك، والأبطال والفرسان، تهز أياديهم السمر الصعادا، أي: السوف والرماح، وقد جعل عنترة في هذا التصوير، للسيف والرمح روحا وإرادة خاصة، وجعله هو من يهز كف صاحبه، كأنه هو من يرغب في الحرب والقتال، وكل ذلك كناية عن شدة الحرب، وما يحدث فيها. وخُضْتُ بمهْجتي بحْرَ المَنايا * ونارُ الحربِ تتقدُ اتقادا وعدتُّ مخضباً بدَم الأعادي * وكَربُ الرَّكض قد خضَبَ الجودا وكمْ خلفتُ منْ بكرٍ رداحٍ * بصَوْتِ نُواحِها تُشْجي الفُؤَادا أخبري يا عبلة هؤلاء القوم، وقولي لهم كيف أني اقتحمت ميدان الحرب، وهي بحر المنايا: من شدة ما يحصل فيها، من قتل وسفك للدماء، أصول وأجول بين الفرسان، ونار الحرب تشتعل وتزداد، وأنا في كل ذلك ثابت وراسخ كالجبل لا أهتز، أقاتل هذا وأجندل ذاك، وبعد كل ذلك عدت من هذه الحرب، منتصرا ومخضبا بدم الأعادي: والتخضيب عادة يكون بالحناء، في الأفراح والأعراس، إلا أن عنترة هنا تخضب بالدم، أما أعداؤه فتخضبوا بالخوف والكرب، الذي تملكهم من هول هذه المعركة، وتخضبت خيولهم بهم الركض، أي الهرب والفرار. ألا يتذكر هؤلاء القوم، أفعالي وأمجادي في الحرب، ألا يذكرون حربنا مع بني بكر، كم قاتلت فيها وأهلكت الفرسان والأبطال، حتى تركت ورائهم الرداح، أي: النساء الذين ينوحون على موتاهم من شدة حزنها، على فقيدها يشجي صوت نواحها الفؤادا. وسَيفي مُرْهَفُ الحدَّينِ ماضٍ * تَقُدُّ شِفارُهُ الصَّخْرَ الجَمادا ورُمحي ما طعنْتُ به طَعيناً * فعادَ بعينيهِ نظرَ الرشادا ولولا صارمي وسنانُ رمحي * لما رَفَعَتْ بنُو عَبْسٍ عمادا ومن ثم يمدح عنترة سيفه ورمحه، اللذان يحارب بهما، حيث إنهما قطعة من نفسه وروحه، ومدحهم من مدحه وذمهم من ذمه، أما سيفه فيصفه بأنه مرهف الحدين، أي: رقيق الحدين، كناية عن مدى حدته، التي هي ماضية ونافذة في أي شئ، ذلك السيف الذي من صفاته، أن شفاره أي: أطرافه، تقد الصخر الجماد، أي: تقطعها بدون أي صعوبة، فيا له من سيفٍ، سيف عنترة، وأما رمحه فهو الذي يكون على أطرافه، ملك الموت حاضر ليقبض روح كل من يُطعَنُ به، فيقول عنترة أن هذا الرمح، ما طعن به أحداً قط وسلم منه، بل يذهب نور عينيه، فلا يميز بين الضلال والرشاد، ويتيه في ظلمة الموت. وأخيراً يقول عنترة، موجهاً خطابه لسفهاء بني عبس، أنه لولاً صارم عنترة أي: سيفه البتار، ولولا سنان رمحه، هذين العزيزن اللذين يقاتل بهما، منافحا عن هؤلاء القوم، ما كانت لتقوم لهم قائمة، وما كان لهم من مجد وعز، يتفاخرون به، وقد صدق عنترة، فلولا وجوده في هذه الفترة الزمنية، من تاريخ بني عبس، لهلكوا نتيجة التعرض للغزو، ولو بقوا لم يكن لهم ذكرٌ، وتاريخٌ، مثل ذكرهم وتاريخهم الذي هو بيننا اليوم.