قال عنترة هذه القصيدة في إغارته على قبيلتي كندة وخثعم وهي قصيدة بث فيها عنترة بعضا من همومه التي تزعجه وتقلق راحته. صحا مِنْ بعْدِ سكرته فؤَادي * وعاود مقْلتي طِيبُ الرُّقاد وأصبح من يعاندني ذليلا * كَثيرَ الهَمّ لا يَفْدِيهِ فادي يرى في نومهِ فتكات سيفي * فَيَشْكُو ما يَرَاهُ إلى الوِسادِ (صحا من بعد سكرته فؤادي)، من سياق الكلام نفهم أن سكرة قلب عنترة هذه المرة، ليست بسبب الأحوال، التي تعتري العشاق، ولكنه سُكرٌ من كثرة الهموم التي تضيق على عنترة أنفاسه، وتحرمه طيب الرقاد: أي النوم المريح الهادئ، ولكن في هذه المعركة، قد وجد عنترة متنفساً لغضبه، وتفريجا لهمه وطيبا لنفسه، بالإنتصار على أعداءه، من قبيلة كندة وقبيلة خثعم، ولذلك فقد عاود الرقاد الطيب، مقلة عنترة. والآن يعود عنترة لدأبه من الافتخار فيقول: أن كل من يعانده ويحاربه، ليس له مصير إلا المذلة، التي تصاحبه ولا تفارقه حتى مماته، وبسبب هذه العداوة مع عنترة، وهذه المزلة التي استجلبها لنفسه، صار كثير الهموم والأحزان، يتمنى لو يفتدي راحة باله بكل ما يملك، ولكن لا فادي له، بل يكون عرضة للهموم حتى في منامه، -إن كان يستطيع النوم- فهو لا يرى إلا فتكات سيف عنترة، أي: ضرباته المهلكة المميتة، فيستيقظ فزعا ولا يجد من يشكوا إليه همه، إلا الوساد أي: ما يتخذه المرء تحت رأسه، لينام عليه. ألا ياعبل قد عاينتِ فعلي * وبانَ لكِ الضلالُ من الرَّشاد وإنْ أبْصَرْتِ مِثْلِي فاهْجُريني * ولا يَلْحَقْكِ عارٌ مِنْ سَوادي وإلاَّ فاذكري طَعني وَضَربي * إذا ما لَجّ قَوْمُك في بِعادي يبدو أن عبلة قد زادت عليها الأحمال، وكثر على أسماعها القيل والقال، في حقها وحق عنترة، وقد زاد الضغط عليها ممن حولها لتتركه، وتطوي صفحته، وتنظر إلى غيره، فأحب عنترة أن يذكرها بما كان بينهما، من ميثاق المحبة، وأن يبدد الشكوك التي تثار من حوله وحولها، فيقول لها يا عبلة، أنت سمعتي عني كذا وكذا وقد رأيتي حقيقة أفعالي وأقوالي، فلا يؤثر فيكي قول قائل، لأنه قد اتضح وبان عندك، الضلال من القول والفعل من الرشاد. ومن ثم يوجه لها تحديا ويقول لها، يا عبلة إن كنتي تشعرين بالعار من سواد جلدي، فدونك القوم، إن رأيتي أو سمعتي عن رجل مثلي، فأنت في حل من عهودك معي، وفي حل مما كان بيننا من محبة، ولا يكون عليكي أي عار مني ومن سواد جلدي، أما إن كنتي باقية على العهد وعلى المحبة، فتذكري حروبي ومعاركي، إذا بالغ قومك في التقليل من شأني، وفي التجنب والابتعاد عني. طَرَقْتُ ديار كِنْدَة َ وهي تدْوي * دويَّ الرعدِ منْ ركضِ الجياد وبَدَّدْتُ الفَوارِسَ في رُباها * بطعنٍ مثلِ أفواه المزادِ ينتقل عنترة ليخبرنا، ويقص علينا، أحوال هذه الحرب، والأحداث التي دارات فيها، فيقول: أنهم اقتحموا ديار قبيلة كندة، وهجموا عليهم وهم في عقر دارهم، فكانت هذه الديار في حال ذعر وقلق، وتعالت أصوات خيول الفرسان من بني عبس، فكانت مثل دوي الرعد في شدتها، تثير الرعب في قلوب أعدائهم، ويجمل لنا عنترة دوره في هذه الحرب، فيقول: أنه بدد فوارس الأعداء أي: أهلكهم وقضى عليهم، وهم في أماكنهم يستعدون للقتال، وانهال عليهم بطعنات، مثل أفواه المزاد أي: أفواه الأوعية، التي تتخذ لوضع الزاد من طعام وشراب، وذلك كناية عن مدى اتساع هذه الطعنات، وكيف أن الإصابة بها قاتلة، لا نجاة منها ولا شفاء. وَخَثْعَمُ قد صَبَحْناها صَباحاً * بُكُوراً قَبْلَ ما نادى المُنادي غدوا لما رأوا من حد سيفي * نذير الموت في الأرواحِ حاد وعُدْنا بالنّهابِ وبالسَّرايا* وبالأَسرَى تُكَبَّلُ بالصَّفاد وبعد أن قضوا على فرسان كندة، ذهبوا إلى ديار قبيلة خثعم، واتخذوا معهم نفس الأسلوب، فقد هاجموهم وهم في عقر دارهم، وبعد أن كان من المفترض أن يصطبح الرجل من خثعم، على أشعة الشمس، اصطبحوا على أصوات الخيول، وقعقعة الفرسان من بني عبس، ويقول عنترة صبحناهم بالحرب، حتى من قبل أن ينادي مناديهم، ليستعدوا لقتال بني عبس. ويبدوا أن هذه المعركة، لم تدم طويلا، فقد أٌخِذوا على حين غفلة من أمرهم، فكان الفزع عاملا كبيرا في هزيمتهم، وكيف لا يفزعون! وقد رأوا حد سيف عنترة، وهو يهوي يمينا وشمالا، فيهلك من يصيبه، كأن على حد سيف عنترة نذير للموت، يحدوا الأرواح أي: يسوقها إلى مستقرها، ويقول عنترة مخاطبا عبلة، أن بعد كل هذه المعارك، عدنا ظافرين منتصرين، ومحملين بالغنائم والأسلاب، ومعنا الأسرى من كندة وخثعم مكبلين في الأصفاد.