كانت مساجدُ مصر الجامعة قبل بناء الجامع الأزهر مراكز للحركة العلمية والفكرية، ومصدراً من مصادر الثقافة والمعرفة، وقُدر للجامع الأزهر أن يشيده الفاطميون، حيث وُضع حجر أساسه في 14 رمضان سنة 359، وأتم البناء في شهر رمضان سنة 361، ويبتدأ الأزهر حياته العلمية والثقافية شيعياً، ويلبث زهاء قرنين من الزمان في عصر الفاطميين، ويتمتع بالرعاية الرسمية منهم، وبوصفه مسجد الفاطميين، وبصفته التعليمية ككيانٍ قائمٍ على التعليم. وبعد قيام الدولة الأيوبية عمد القائد السُني صلاح الدين الأيوبي إلى إبطال الدولة الفاطمية، وكل ما تحتويه من آثار شيعية مذهبية، وأفتى قاضي القضاة صدر الدين عبد الملك بن درباس بعدم جواز إقامة خطبتين للجمعة في بلدٍ واحدٍ، فأبطل إقامة صلاة الجمعة بالأزهر الشريف، وأقرها بجامع الحاكم بأمر الله؛ لأنه أوسع رحاباً، ولم تبطل قطع الجمعة عن الجامع الأزهر صفته التعليمية، فقد ظل محتفظاً بدوره الفعال في التدريس والإفادة. وبقي الأزهر رغم محاولات تهميشه في العصر الأيوبي، وانهيار الدولة الفاطمية بكل أشكالها ومدارسها، فقاوم الأزهر محاولات الإبادة التامة باعتباره وقتها أثراً من آثار الفاطميين، وتعافى وعاد ليس فقط كياناً ضعيفاً في دولة سُنية، بل ليكون أقوى كيان سُني، وهذا يشعرنا بأن ثمّ منحة ربانية وكرامة إلهية سرت في جنبات هذا المكان الشريف. وفي أواخر القرن السابع الهجري غدا الأزهر كعبة للعلم والمعرفة مع أن مصر كانت في هذا الوقت تضم عدداً كبيراً من المدارس العلمية، فكانت في القاهرة المدرسة الأشرفية والمدرسة العينية والمدرسة الصالحية والمدرسة المحمودية وغيرها إلا أن هذه المدارس ذهبت، وسيطر الأزهر على النواحي التعليمية في مصر، بل إن هذه المدارس المذكورة كان لا يدرس فيها بعد فترة إلا علماء الأزهر الذين تخرجوا من الجامع الأزهر. وفي القرن الثامن الهجري أصبح الأزهر يتبوأ في العالم الإسلامي نوعاً من الزعامة الثقافية والفكرية حتى غدا أهم مواطن المعرفة والدراسات الدينية فضلاً عن الدراسات اللغوية والأدبية، واستطاع الأزهر أن يستقطب العلماء المصريين من سائر المدارس والمساجد المنتشرة في أنحاء مصر، وصار الأزهر مقصداً للعلماء وقبلة يتوجهون لها من كافة أنحاء العالم الإسلامي، وكان للأزهر ومشايخه وطلابه الزعامة الدينية في أرجاء العالم الإسلامي في أسيا وأفريقيا بل وفي أصقاع أوربا. وفي عصر العثمانيين استطاع الجامع الأزهر أن يحافظ على مكانته السامية، ويقوم بدوره في نشر الثقافة العربية والإسلامية، وغدا في عهدهم ملاذاً لعلوم الدين واللغة، وتمتع بمركز انفرادي، وقام بنشر ألوان رفيعة من العلوم الشرعية في عهدهم باللغة العربية. وبعد قيام النهضة العلمية في العصر الحديث كانت الشخصيات الكبرى المؤثرة في المشهد المصري وأصحاب الدور الفعال في فكر مصر الحديث أزهريين أو تلاميذ الأزهريين، وظلت الحياة العلمية في مصر هي الرائدة في العالم الإسلامي، فكان مرجعُ علماء الأقطار الأخرى الأزهر الشريف، وقلّ أن تجد بلداً من البلدان إلا وقد تخرج بعض أهله من الأزهر المجيد، فكانت سائر البلاد تطلب العلم بمصر حيث الأزهر العظيم؛ كالشام، واليمن، وبلاد المغرب، وبلاد فارس، والسودان، والعراق، ودول شرق آسيا، وبلاد ما وراء النهر، والهند، وتركيا، بل حتى أهل الحجاز كان طلابها يأتون إلى الأزهر الشريف؛ ليتعلموا فيه علوم الشريعة وعلوم اللغة العربية، وأصبح الأزهر المجيد أكبر جامعة إسلامية يفد إليها الطلاب من جميع أصقاع العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، وله دورٌ فعالٌ في الحفاظ على التراث العربي الإسلامي، بل لا أكون كاذباً حين أقول إن تاريخ الثقافة العربية الإسلامية هو تاريخ الأزهر المجيد، وقد انتشرت على الألسنة عبارة: المسلمون لهم قبلتان: قبلة دينية، وهي الكعبة المشرفة في مكةالمكرمة، وقبلة علمية، وهي الأزهر المجيد في القاهرة، وتميز الأزهر عن غيره من المدارس الشرعية والجامعات في سائر البلدان بتنوع علومه التي تدرس فيه، وبقائه رغم الخطوب، وعالميته، وازدياد نشاطه. بقلم: الشريف د. علي زين العابدين الحسيني الأزهري باحث وكاتب أزهري وعضو نقابة السادة الأشراف بمصر