الدكتور / رمضان حسين الشيخ إن ثقافة تقديم الإستقالة تُعد من الأمور الحضارية والديمقراطية المتقدمة، فهل وصلنا نحن إلى مستوى حضاري ديمقراطي يؤهلنا إلى تقديم الاستقالة بعد الفشل في تحقيق مطالب الجماهير؟ الإجابة بالتأكيد هي: كلا، لم نصل إلى المستوى الحضاري والديمقراطي الذي يؤهلنا إلى تقديم الاستقالة بعد الفشل في تحقيق مطالب الجماهير. المنصب هو مرتبة وظيفية عالية تمنح صاحبها مكانة مرموقة في المجتمع؛ لذا يسعى كثير من البشر للحصول على المناصب، وعندما يحصل الشخص على المنصب نجده يتشبث بهذا المنصب لأطول مدة ممكنة ولا يبعده عن منصبه الا تغييرات عليا أو تقاعد محتوم وفي مرات نادرة تكون الاستقالة هي فك الارتباط بين الشخص ومنصبه. الاستقالة أو طلب الإعفاء هو من الفوارق الفردية بين المنتمين للعالم المتقدم والعالم الثالث في كل شيء سواء كان في الأمور الشخصية أو العملية، لهذا يدرب العالم المتقدم النشء على ثقافة الاستقالة لأنها أمر إيجابي، يفعل العكس أفراد العالم الثالث لأنهم يعتبرونها نوعاً من الهروب أو الانهزامية، ولهذا تختلف درجة الإنتاجية بين العالمين وكذلك حجم الطموح عند الشباب. لنسأل أنفسنا كأفراد، هل تفضل أن تستمر في عمل لا تجد نفسك فيه أو أنك لا تستطيع أن تقدم منه ما يجب أن يُقدم؟ هل تستحسن بقاء شخص في مركز فعال وهو غير قادر على التطوير لأنه قدم ما لديه ولم يعد عنده عطاء؟ هل إتاحة الفرصة للآخر للتنافس في تقديم ما قد يفيد أو البعد عن الشحناء حتى في الأمور الشخصية إذا كان الطرف الآخر غير راضٍ عن العلاقة الثنائية فتتيح له الفرصة لإختيار ما يعتقد أنه الأنجح؟ أم إصرار كل شخص على أحقية نفسه ويزكيها بصرف النظر عن الراحة النفسية والجودة الإنتاجية؟ ألم يعلمنا القرآن الكريم من قصة سيدنا موسى في سورة الكهف كيف طلب إعفاء نفسه من المرة الثالثة؟ الاستقالة في العالم المتقدم تحدث إذا ما أخفق المسؤول في أبسط الأمور كتعبير عن الاعتراف بالتقصير وهذه من الفضيلة، الاستقالة يفعلها النجباء ومن يعلمون أنهم يستطيعون الإنتاج في مواقع آخرى، من لا يعترف بثقافة الاستقالة هو من يريد الاستمرار في إخفاقاته ولا يهتم بنتائجه من باب الإنانية لكي يحظى بوهج المنصب أو للتحكم بالطرف الآخر كالزوجة مثلاً، ولهذا أمر الله سبحانه الرجل بعدم ترك الزوجة كالمعلقة إذا لم تطب العشرة بينهما، كذلك من لا يستطيع الاستقالة هو على يقين بأنه لن يجد أي فرصة للنجاح والتقدم ولهذا هو يتمسك بالوضع مهما كانت الظروف. لابد أن ننمي ثقافة الاستقالة عند أبنائنا وبناتنا لأنها نوع من أنواع التطور في التعامل تأتي بكل مفيد وتفتح الباب للمنافسة واحترام النفس والآخرين، لماذا نعتبرها مطلوبة لدى مدربي كرة القدم عندما تسوء نتائج الفريق حتى لو لم يكن المدرب هو السبب ونرفضها أو نستهجنها عندما يفعلها الموظف سواء في القطاع العام أو الخاص أو حتى عندما يفعلها أحد الزوجين مثلاً؟ هي ثقافة تؤسس منذ الصغر ويشجعها المجتمع أو يستنكرها مع العلم أن فوائد ممارستها جمة وعدم الاعتراف بها أو استنكارها له مصائب كثيرة وخطيرة، لهذا لابد أن نعيد النظر في ثقافة الاستقالة كنوع من التقدم الذي ينشده كل ذي قلب وعقل وبهذا تتحول المجتمعات حتى من العالم التاسع للأول قولاً وفعلاً. عزيزي القارئ.. الاستقالة قد لا تكون بالضرورة بسبب فشل ما أو ارتكاب أخطاء، فعلى سبيل المثال: رئيس وزراء نيوزيلندا "جون كي" قدم استقالته لأسباب عائلية بحتة بعد ثماني سنوات في منصبه، في قرار لم يكن منتظراً لرئيس الحكومة الذي كان يتمتع بشعبية واسعة في بلاده. لقد قال في كلمة مؤثرة خلال المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه استقالته "إن القادة الجيدين يعرفون متى يجب عليهم الرحيل، وقد حان الوقت بالنسبة لي للقيام بذلك". السؤال: أين المسؤولون العرب من هذه النماذج الحضارية؟. ومن وجهة نظري المتواضعة استطيع أن نعرف الاستقالة في الدول الديمقراطية على أنها ثقافة تحمل المسؤولية، وهي ثقافة ليست فقط غائبة وغير معروفة ومفهومة في مجتمعاتنا، بل تقابل بالاستهزاء، باعتبارها هزيمة وانسحاب لا تليق بالفرسان، واذا لم يكن الوزير أو المسؤول (عندنا) فارساً، فمن سيكون غيره. وتصور من جهة اخرى على انها طعنة للرئيس أو رئيس وزراءه، لانها قد تتخذ ذريعة على سوء ادارته، لان اختار من اعضاء حزبه او طائفته وعشيرته الاقربين وترك الوطن بطوله وعرضه، وتقف (نظرية المؤامرة) بالمرصاد لتحليل دوافع الاستقالة. حري بنا أن نحاول تفهم لماذا يلجأ وزير نقل اوروبي إلى الاسراع بتقديم استقالته عندما يخرج قطار عن سكته في اقاصي البلاد ويقتل بضعة مواطنين ويجرح آخرين، ومطالبة اعضاء في مجلس العموم البريطاني باستقالة وزير الخزانة أليستر دارلنغ بعد ضياع ملفات فيها معلومات عن ملايين البريطانيين والمقيمين في احدى الدوائر التابعة لوزارة الخزانة. الاستقالة والاسراع بتقديمها تعني أولاً الاعتراف بالخطأ المهني، وهذا يعني أن الوزير أو المسؤول أو...... الخ يعترف بضعف متابعته للمسوؤلين الأدنى، وعدم نجاحه بأختيار من هو الاصلح للمركز الوظيفي، وهي تهدف إلى اعلاء شأن قيمة المسؤولية الأدبية والالتزام الاخلاقي للموقع الوظيفي، الاستقالة وتحمل المسؤولية هما عمل شجاع، وسيؤدي شيوع ثقافة الاستقالة إلى انتشار وتقبل مفهوم تحمل المسؤولية والمحاسبة والمراقبة. إن ثقافة الاستقالة أمر معروف وشائع ومفهوم في الدول الديمقراطية العريقة، وتقابل باحترام ولكنها لا تعفي من المساءلة والملاحقة القضائية. ويحتاج أمر شيوعها كثقافة إلى حاضنة شعبية تتفهمها، وهي لا تقدم دائما بسبب حريق أو قطار جامح أو سقوط طائرة، بل يجب أن تحدث لاسباب اخرى تتعلق بأنتهاكات حقوق الانسان ومساحة الافق الممنوح للحريات العامة، وكأعتراض على مستوى الاداء الحكومي، وتفشي الفساد الاداري والمالي، وربما تكون مرتبطة باخطاء سياسية تأريخية، أو بالثبات والاصرار على موقف كأستقالة الرئيس الفرنسي الراحل ديغول الشهيرة في عام 1969، عندما ربط مصيره السياسي بنتيجة استفتاء شعبي طالب خلاله بتعديل عضوية مجلس الشيوخ وأعطاء صلاحيات موسعة لمجالس الاقاليم، وعندما لم تأت نتيجة الاستفتاء كما اراد، استقال وانسحب بهدوء من الحياة السياسية بعد تاريخ وطني حافل. مثل هذه الامثلة توضح معدن من الرجال يعتقدون أن ذاتهم اعظم من كراسي الحكم، وأن لا وجود لأية انواع من اللواصق والمثبتات بينهم وبين الكراسي التي يجلسون عليها، وان استقالاتهم تعني لهم اشياء اكبر وأعز من بقائهم في المنصب. واستقال رئيس وزراء أرمينيا فى 8 سبتمبر 2016، وعلل استقالته وقتها بأن بلاده تحتاج إلى سياسات اقتصادية جديدة من أجل إنقاذها من حالة الركود، وهذا نموذج يدعو للاحترام لأنه لم يقبل أن يعرض بلاده للخطر وهو لا يملك حلولا لأزمتها الاقتصادية فاستقال ليفسح المجال لمن هو صاحب خبرة ورؤية لتخرج بلاده من عثرتها بدلا من التجارب الفاشلة وادعاء الحكمة والخبرة. ثقافة الاستقالة ليست عيبا أو تقليلا من شأن صاحبها لكنها فضيلة الاعتراف بالفشل أو التقصير أو عدم القدرة، وهى تحسب لصاحبها وتضيف إليه قدرا كبيرا من الاحترام فى عيون الآخرين طالما لم يستقل وهو متهم فى قضية مخلة بالشرف أو بمقتضيات وظيفته. واستقال وزير الداخلية الهندي باتيل بعد الهجمات الإرهابية التي حدثت في مومباي؛ لأنه حمّل نفسه مسؤولية فشل الحفاظ على الأمن وعلى أداء واجباته على أكمل وجه، وماذا عنا نحن؟ هل نملك القدرة على اتخاذ مثل هذه القرارات الشجاعة؟ لماذا تغيب ثقافة الاستقالة في مجتمعاتنا مع أنها من أساسيات القيادة الرائدة في المجتمعات المتقدمة؟! فالشخص المسؤول تجده ملتزماً تجاه أمته بتقديم كل ما يستطيع لضمان عدم حدوث خلل من جانبه قد يؤدي إلى إلحاق الضرر بمواطنيه، وإذا أحس في أي لحظة بعجزه أو فشله في تحقيق ذلك تنحى عن منصبه. وهنا تذكرت بعض الكوارث التي حدثت في مجتمعنا الرياضي، والأخطاء الفادحة التي كانت كفيلة باستقالة بلد برمته وليس بمجرد وزير! فلماذا لا نحاول تثقيف أنفسنا وترويضها على ثقافة الاستقالة بدلاً عن الإقالة؟ مشكلتنا الأزلية تكمن في أن الوزير، المسؤول أو المدير....الخ على اعتقاد تام ودائم بأنه لم يقصر في شيء، وأنه يؤدي واجباته بالتمام والكمال، فالنجاح لديه ليس في ما تم تحقيقه أو في تلبية احتياجات ناديه أو في حل مشكلات اللاعبين، بل النجاح عنده يقاس بطول المدة التي يجلس فيها على العرش، محققاً أكبر عدد من الأخبار والصور. من المؤسف القول: ليس من المنتظر أن تشهد دول العالم الثالث بداية صحوة لفهم معنى ومغزى العلاقة بين الذات والكرسي، لأن الفرق كبير وهائل في أن تكون خارج السلطة وداخلها، المركز والوظيفة الرفيعة في هذه الدول تعني القوة والنفوذ والمال والجاه، وايجاد فرص عمل ممتازة لعشرات من العائلة والحزب، الذين لاتجد ما يميزهم إلا علاقة القربى أو الانتماء لحزب ما ....الخ، ومع خلو المشهد من أية التزامات سياسية أو أخلاقية تبدو الاستقالة للمسؤولين في دول العالم الثالث أنتحاراً لا داع ولا معنى له. وأنا هنا أطالب الجميع بأن يعيدوا حساباتهم وأن يقيّموا أنفسهم، وإذا شعر أي واحد منهم بأنه لم يقدم شيئاً أو تسبب في مشكلة كبيرة بقراراته الخاطئة أو أساء إلى وظيفته، أن يتنحى جانباً ويقدم استقالته، وأن يفضل الاستقالة على الإقالة. هل ستبقى ثقافة العظمة والنظرة الدونية للغير التي يتسلح بها مسؤولينا هي السائدة؟ متى سيأتي اليوم الذي نعترف فيه بأخطائنا ونتحمل المسؤولية بكل معانيها؟ الوظيفة أو المنصب تكليف قبل أن تكون تشريف "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" سنحاسب على كل صغيرة وكبيرة اين نحن من عمر بن الخطاب حين قال "والله لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله عنها لما لم تصلح لها الطريق يا عمر؟". وهل ستهب علينا رياح ثقافة الاستقالة، ونتخلص من الإقالة التى بطعم الاستقالة؟ سؤال أتمنى له إجابة فى القريب بإذن الله. الدكتور / رمضان حسين الشيخ باحث وكاتب في العلوم الإنسانية وفلسفة الإدارة الخبير الدولي في التطوير المؤسسي والتخطيط الاستراتيجي [email protected]