الضرورات الإقتصادية... والحقوق والحريات السياسية... آراء تسمع مراراً وتكراراً في المناقشات الدولية... لماذا القلق بشأن نقاد الحريات السياسية... إذا سلمنا بالكثافة الطاغية التي لا تقاوم للضرورات الاقتصادية..؟؟؟ .... في تلك المناقشات يسوق أعضاء الوفود الممثلة لعديد من البلدان حججاً ضد المصادقة العامة على الحقوق السياسية والمدنية الأساسية في كل المعمورة.. خاصة في العالم الثالث... ويكون التأكيد على ضرورة أن ينصب الاهتمام على الحقوق الاقتصادية وثيقة الصلة بالاحتياجات المادية المهمة... وفي لمحة اجتهادية موجزة للاتجاهات التي اتخذتها الديموقراطيات والحريات المدنية والسياسية في البلدان النامية... أرى أنه يمكن استخلاص ثلاثة اتجاهات محورية أساسية تتمثل في: الاتجاه الأول: يؤيد الزعم بأن هذه الحريات والحقوق تعيق النمو الاقتصادي والتنمية.. الاتجاه الثاني: يذهب إلى أن الناس إذا ما أعطيت لهم حرية الاختيار بين أن تتوافر لهم الحريات السياسية أو إيفاء الحاجات الاقتصادية.. فإنهم جميعاً سيختارون الثانية.. وبناء على هذا التفكير ثمة تناقض بين ممارسة الديموقراطية وتبريرها.. ومن دواعي السخرية أن الغالبية سوف تتجه إلى رفض الديموقراطية.. إذا ما كان لها حق الاختيار.. ولكن ثمة ضرب مخالف لهذه الحجة وإن كان وثيق الصلة بها.. يزعم أن القضية الحقيقية ليست فيما يختاره الناس فعلا.. بل فيما لديهم سبب لاختياره... وحيث إن الناس لديهم سبب لكي يريدوا أولاً وقبل كل شيء إلغاء الحرمان والبؤس الاقتصاديين... فإن لديهم كل مبرر بعدم التشبث بالحريات السياسية التي ربما تعترض طريق أولوياتها الحقيقية.. وينطوي هذا القياس على مقدمة مهمة تقضي بأن ثمة تناقضاً مسبقاً بين الحريات السياسية وإيفاء الاحتياجات الاقتصادية.. ووفقاً لهذا الفهم فإن هذه الصياغة للحجة الثانية إنما هي مبنية على الأولى... الاتجاه الثالث: يقضي بأن التأكيد على الحرية السياسية والحريات الاجتماعية والديموقراطية إنما يمثل تحديداً مساراً لأولوية غربية تتعارض غالباً مع القيم التي من المفترض أنها رهن النظام والانضباط أكثر مما هي رهن الحرية... وبعد التعرف على الاتجاهات التي اتخذتها الديموقراطيات والحريات المدنية والسياسية في البلدان النامية - ولا سيما في مصر – لابد لنا أن ننتقل إلى سؤال غاية في الخطورة ألا وهو: هل مواطنو بلدان العالم الثالث غير مبالين بالحقوق السياسية والديموقراطية؟؟ في رأيي أن هذا الزعم - الذي يتكرر غالباً - مبني على شواهد تجريبية ضعيفة.. وإن السبيل الوحيد للتحقق من صدقه هو أن نطرح الأمر لاختبار ديموقراطي حقيقي.. وفي انتخابات حرة مع توافر حرية المعارضة والتعبير.. ودون المساس بنتائج هذه الانتخابات.. وهذا تحديداً ما لا يسمح به مؤيدو الحكم الاستبدادي.. وليس واضحاً بالمرة كيف يمكن مراجعة هذا الرأي... بينما لا يتمتع المواطن العادي إلا بفرصة سياسية محدود للتعبير عن رأيه في ظل تزوير الانتخابات أو تقويض حريته في هذا الشأن... بل وبفرصة أقل لشجب مزاعم أصحاب السلطان والنفوذ.. والشيء اليقيني هو أن الحط من قدر هذه الحريات هو جزء من منظومة القيم لدى قادة الحكم في كثير من بلدان العالم الثالث... وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحكومة الهندية في منتصف السبعينات من القرن الماضي حينما حاولت ترويج حجة مماثلة في الهند تبرر بها (حالة الطوارئ) أخطأها التوفيق وأعلنت إجراء انتخابات أدت إلى انقسام المقترعين على هذه المسألة تحديدا.. وشهدت هذه الانتخابات المصيرية صراعاً حامياً بشأن إمكانية قبول الطوارئ.. وظهر رفض حاسم لفكرة قمع الحقوق السياسية والمدنية الأساسية وكشف الناخب الهندي – وهو من أفقر المواطنين في العالم آنذاك – عن أنه ليس دون سواه اهتماماً وحماساً للاحتجاج ضد إنكار الحريات والحقوق الأساسية وأنه في معارضته هذه يقف على قدم المساواة مع معارضته وشكواه من الفقر الاقتصادي.. والملاحظ أننا حين نضع مسألة أن الفقراء بعامة لا يعبأون بالحقوق المدنية والسياسية موضع اختبار.. فإن الشواهد تأتي على نقيض هذا الزعم تماماً.. ويمكن بيان أوجه نظر تدعم هذا الرأي حين نتابع الصراع من أجل الحريات الديموقراطية في سوريا واليمن والبحرين وكوريا الجنوبية وتايلاند وبنجلاديش وباكستان وبورما (مينا مار) وغيرها من بلدان آسيا .. وبالمثل نجد الحرية السياسية مرفوضة على نطاق واسع في إفريقيا.. فقد ظهرت احتجاجات في مصر وتونس وليبيا والمغرب ضد هذا الواقع كلما سمحت الظروف بذلك على الرغم من الديكتاتوريين العسكريين عمدوا إلى السماح بقليل من الفرص في هذا الشأن.... وحديثاً برز دور المواطن المصري الفقير في الاعتراض التام على قمع الحرية السياسية... حينما عارض بقوة فكرة حصاد الحزب الوطني الحاكم لما يزيد عن 95% من مقاعد المجلسين في الانتخابات البرلمانية في مصر لمجلسي الشعب والشورى.. ماحيا بشكل كامل أي تمثيل للمعارضة... وهو الأمر الذي دفع قوى سياسية عدة إلى وصف هذه الانتخابات بأنها أسوأ انتخابات برلمانية في التاريخ المصري لأنها تناقض الواقع في الشارع المصري.... وأصاب المواطنين بالإحباط.. وكان ذلك أحد أهم الأسباب التي دفعتهم للقيام بثورة بعد صدور نتائج هذه الانتخابات... ولكن ماذا عن الصياغة الأخرى لهذه الحجة التي تزعم – وياللسخرية - أن الفقير لديه كل المبرر للتخلي عن الحقوق السياسية والديموقراطية لمصلحة الوفاء باحتياجاته الاقتصادية؟؟؟ ... هذه الحجة - في رأيي - لا تجد سنداً تجريبياً يدعمها.. وبالتالي يكون القياس غير وارد هنا لتأييدها... د. ريم ثابت