قديما قالوا: الناس على دين ملوكهم ، ولقد كان مبارك فينا ملكاً ولم يكن رئيساً انتخبناه أو اخترناه، فالذي اختاره علينا بداية هو المرحوم السادات ليموت ويتركه وقد مُنح صلاحيات قانونية لا تحتاج سوى استفتاء صوري ليصعد إلى سدة الحكم ليبقى، واستمر في حكم البلاد بدهاء نظامه ومنظومة أمنية غاشمة وحاشية من اللصوص والمنتفعين السفلة، استطاعوا أن يرسخوا في الشارع المصري ويغرسوا في مفاهيم الناس وعقولهم قيماً نفعية واستغلالية منحطة يصعب القضاء عليها لعشرات من السنوات القادمة. ولعل قمة الحكم هي ما تظل القاعدة بظلها، ومع استطالة فترة حكم مبارك انسخطت كثير من القيم واندثرت وطغت عليها أخلاقيات النظام السياسي، ربما كان أشد ما يؤسف في الفترة السالفة أن نلحظ انسخاط قيمنا، وتبدلها، وتلونها بلون السفالات السياسية التي كان ينتهجها النظام السياسي علنا. نحن في مرحلة تشَكُّل سياسي جديدة نتعشم معها عودة الفضيلة إلى حياتنا، مع عودة شخصيتنا المصرية المبددة، ولا أظن أن ثمة استقرار اجتماعي أو سياسي أو غيره إلا بعودة تلك الشخصية بما لديها من فضائل وقيم وأخلاقيات حضارية تختزنها الشخصية المصرية وتعطيها سمتها المميز بين سائر البشر والجنسيات. ولعل أولى خطوات عودة الشخصية المصرية هو أن نخلصها من ربقة الحاجة الطاغية، وأزماتها الطاحنة ليخطو الإنسان المصري خطواته المأمولة نحو حياة خالية من الأزمات. ولعلني مع الحكمة التي تقول: إذا اشتدت الأزمة سقطت الفضيلة ، أو كما يقول المثل العامي: "يا روح ما بعدك روح" .. فلا ننتظر مثلا من إنسان جائع ألا يسرق، ولا ننتظر من شاب يتزاحم على الحصول على رغيف خبز أن يتنحى لرجل عجوز، أو حتى يرحمه ولا يزيحه ويحتل مكانه وسط الزحام ، ولا ننتظر من معلم مغلوب على أمره أمام الحاجة ألا يتعاطى الدروس الخصوصية، ولا ننتظر من شاب يائس بائس عاجز تحت ضغط الظروف عن الزواج ألا يزني لو أُتيحت له الفرصة.. نعم هناك حالات يتحلى أصحابها بصبر جميل، وهناك حالات نادرة تتغلب فيها الفضيلة على الحاجة، ولكن هذا لا يطول كثيراً، وفترة الصبر قد تكون محدودة بحدود قدرة الإنسان على التحمل، و من المعروف أن الحاجات البيولوجية (الحيوية) تأتي في قاعدة هرم الرغبات، ولا يمكن أن يتخطى الإنسان قاعدة الهرم إلى قمته حيث الفضيلة والانتماء وكافة القيم الإنسانية والإيمانية, ما لم تُشْبع رغباته السفلى. أقول هذا بمناسبة ارتفاع معدلات الفقر في مصر، مع ارتفاع الأسعار، وتدني الأجور، وانعدام فرص العمل عند الكثيرين. والقراءة البسيطة لهذه المعدلات غير مطمئنة بالنسبة لما هو مرجو من انضباط أخلاقيات الشارع المصري، والتحلي بروح الشخصية المصرية بما عُرف عنها من تدين وشهامة وكرم وأخلاقيات سامية، والتزام بالقيم العليا التي تمتاح من الأديان السماوية ومن العادات والتقاليد المصرية الحضارية الأصيلة. لقد تدنت الأخلاقيات في الشارع المصري بدرجة مؤسفة خلال فترة الحكم المباركية، ولم يكن ذلك يزعج النظام الحاكم، بل على العكس من ذلك كان يُثلج صدره، لأن تدني الشخصية المصرية و اضمحلال عقليتها وأخلاقياتها كان ديدن النظام السياسي وجل اهتماماته، وربما أنه ظن خطأ أن ذلك سيسهم في طول أمد النظام، وسوف يساعده لتنفيذ برنامج توريث الحكم . نعم .. لقد كان النظام السياسي يحقق بغيته فينا من خلال تمويت الشخصية المصرية وسحلها وسحقها تحت هموم الخوف، والحاجة والفقر والمرض والجهل واللاوعي وهلمجرة من أمراض اجتماعية واقتصادية استطاع النظام أن يحققها بنجاح تفوَّق فيه على كل استعمار خارجي تسيَّد الحكم في مصر عبر تاريخها. ولقد اختلفت التقديرات حول عدد الفقراء في مصر، ولكن حتى إذا نظرنا إلى أقل هذه التقديرات نجد أن عددهم يبلغ حوالي 15 مليون على أقل تقدير. يعانون شظف العيش في ظل الارتفاع المستمر في تكاليف الحياة، منهم ثمانية ملايين في الصعيد وحده. الإشكالية إذن أننا في سعينا نحو عودة الشخصية المصرية في المرحلة القادمة لابد أن نبدأ بالاقتصادي لنصل إلى الأخلاقي والقيمي، ولابد أن نبدأ بالمطالب البيولوجية الملحَّة .. وربما أن مطلب العدالة الاجتماعية ، والحد من البطالة ، وفرملة الأسعار، و ضبط الأجور وفق منظومة عادلة ، كل تلك الخطوات سوف تساعد علماء الاجتماع والمصلحين الاجتماعيين ورجال الفكر والثقافة والإعلام ، والتربية ورجال الدين لأداء مهمتهم نحو إعادة الشخصية المصرية التي بددها مبارك ونظامه عبر سنوات حكمه السوداء.