ما أكتبه اليوم ليس خيال إنسانة تتقمص شخصية كاتبة وتدعيها... ما أكتبه ليس بعض إلهام ووحي أنتجته قريحتي ولا من بنيات أفكاري.. ما أكتبه هو محض تجربة رأيتها أمامي وعاصرت كل أحداثها دون قصد وبغير اهتمام غير أنها تجربة يجب علينا تذكرها الآن وليس بعدئذ ردا على من يتصورون أن تحديد مبلغ كبير كوديعة للفتاة التي تتزوج خليجي هو صونا لها وتأمينا لمستقبلها. هي أيضا تجربة مرة ولكن يحق لنا الاعتبار منها والتوقف عندها لعلنا ندرك ان سقطة واحدة كفيلة بتغيير حياة إنسان إلى النقيض ورسم ملامح وتفاصيل ما كانت تخطر على بال أبرع الكتاب والمؤلفين. هي بنت قريتي كانت من أجمل البنات فيها على الإطلاق حتى لقد كانت مضرب المثل في الجمال وإبداع الخالق في رسم تفاصيله على وجهها وجسدها المنحوت ببراعة ورشاقة وإتقان ... اسمها "وداد" ... مجازيا أسميتها وداد!! فقط اعلموا ذلك ثم تجاهلوه. كانت وداد بنتا لأسرة فقيرة رقيقة الحال إلى حد بعيد. هي بنت رجل مغلوب على أمره أسكنه الفقر ثم قلة الحيلة خانة النسيان فتوارى عن الأذهان عن الانتباه له حيا كان أو حين يغادر دنيا عاش فيها مهمشا منسيا، وامرأة متسلطة متطلعة وفوق ذلك غافلة لاهية، وداد لها أخوة جرفهم النسيان هم أيضا بجوار تلك الحورية التي يتوارى بوجودها أي وكل شخص آخر.. وداد منذ أن حملتها قدماها وقويت على العمل خرجت تعمل في الحقول ومزارع الفاكهة وحدائقها. فكانت تخرج كل يوم مع إشراقة الصبح وتعود مع الغروب. هي لم تحظ بأي قدر من التعليم ولكنها كانت محط نظر ومثار غيرة كل المتعلمات وفتيات المدارس والمعاهد اللاتي أكثرن في الحديث عن جمال الفتاة وفتنتها ما بين منصفة وحاقدة وحاسدة وما أكثرهن. كشأن أي زهرة ما أن تتفتح براعمها وتنتبه لها الأعين تهفو إليها النفوس والقلوب فإن وداد هي الأخرى كزهرة جميلة تمناها وحلم بها كثير من شباب البلدة ممن تناسبه الفتاة ويكافئها وممن لا تناسبه الفتاة ولا تكافئه .. كلهم حلم بها وفي قرارة نفسه تمناها. أذكر أن الناس باتوا يوما ما وهم يتهامسون -وأنا بعد لازلت صغيرة تغريها أحاديث الكبار فتنصت لها على غفلة منهم-أن وداد قد تزوجت برجل خليجي جاء به أحد أبناء البلدة ممن يعرف كيف يغري أهلها بعرض مهما صغر وكان حقيرا هو بالنسبة لهم مطمعا وملاذا من الفقر والعوز...تزوجت الفتاة وسكنت شقة فاخرة بالقاهرة ... غابت عن البلدة بضعة أسابيع ربما غابت شهرين!! على أية حال لم يلتفت أحد لغيبتها ولم يفتقدها أحد .. فقط قالوا تزوجت وداد برجل غني ثم عادوا وقالوا طلقت وداد وعادت لكنها عادت وقد ظهرت عليها دلائل النعمة والعز ومعها حقيبة ملابس مبهرة وبعض الحلي ومبلغا من المال!! عادت وداد ولكن لم تعد الأمور معها لسابق عهدها وطبيعتها. ففي عرف القرويين صارت وداد تفاحة مقضومة!! صارت وردة قطفت عن غصنها وتداولتها أيد عابثة فغيرتها وبددت عطرها وأهانت رونقها ونضارتها.. وما من أم ترتضيها لابنها. وهي بعد لا زالت فقيرة، فسرعان ما تبخرت الدنانير وبليت الملابس بعد أن عاشت الأسرة في بذخ وترف بضع أسابيع .. نعم بضع أسابيع فقط!!!. وعادت الأوضاع لعهدها الأول من الضيق والفقر لكن هذه المرة ما من فرصة للخروج والعمل بالحقول والمزارع فقد تعودت الفتاة على الدعة والراحة. كان ما وصلني من خبر وداد بعدئذ أنها تزوجت بشاب من أبناء البلدة وسيم ومهندم ممن يصح عليه قول القائل: "أقرع ونزهي"!! ثم مع الأيام عرفت أن من تزوجته شاب تجمعت كل الظروف على إفساده وفساده فهو يتيم لأب كان كبيرا في السن حين رزق به ثم مات، وأم توفيت عنه وهو صغير فكفله أخواله وجدته لامه ثم إخوته الكبار وكل هؤلاء تباروا في تدليله والعطف عليه بمبالغة وجهل حتى شب غير عابئ بشيء إلا نفسه لا يستمر في عمل أو وظيفة ولا يملك من الحياة غير منزل ورثه عن أبيه وبعض أصدقاء من أصحاب الشهادات المتوسطة مثله والأخلاق الفقيرة والمواهب المنعدمة. تزوجت وداد ومع الوقت تطاير لمسامع الجميع أنها قد رزقت ولدا وبنتا. وأن زوجها عمل في خلال سنوات زواجهما القليلة في وظائف عدة لم يستقر في أي منها والأهم أن الجميع تناقلوا فيما بينهم وصولا إلى مسامعهم جميعا أن الرجل وزوجته "وداد" يستقبلون في منزلهم أصدقاءه وندمائه يدخنون الحشيش وربما يشربون البيرة .. ربما. تكاثرت الأقاويل ما بين مبالغة وتهوين وبين صدق وافتراء حتى نالت من سمعة الزوجة وزوجها وتعدى الأمر حد الافتراء فصارت أحاديثا متواترة مؤكدة ومنتظمة مع الأسف لا ينفيها سلوك وداد وميوعتها التي اكتسبتها مع الأيام حتى جاء يوم وسمعت -كعادتي في تلك القصة كلها-أن الزوجان قد تطلقا وسرعان ما باع الزوج منزله وترك البلدة إلى غير رجعة ولا التفات إلى أولاده. أما وداد فسافرت إلى للعمل ويوما ما سمعت من جديد أنها تزوجت!!!. لم تنتهي القصة بعد.. ففي يوم من أيام الحصاد في القرية جاءتنا سيدة عجوز عفيه ثرثارة ذات ضجيج وصخب تسأل بعض العطاء ومعها أطفال صغار ولد وبنت هيئتهم رثة مهملة وملابسهم لا تكاد تسترهم .. سألتها أمي رحمها الله وكانت تعرف المرأة: من هؤلاء؟؟ فأجابتها السائلة: أولاد ابنتي وداد أبوهم تركهم وهج وأمهم تزوجت برجل من الصعيد صعب وشديد أخذها لبلدته واستقر بها هناك ومانعها عنا وعن أولادها ورزقت منه بطفل منذ أشهر!! وأهو أنا بأجري عليهم وربنا يرزقني ويرزقهم!! هكذا انتهى المطاف بأطفال وداد مشردين خلف عجوز متسولة!! وداد التي كانت يوما جميلة والتي كانت يوما حلم كثير من الشباب ومثال الجمال وقدوته لكثير من الفتيات.. غير أنها اقترفت خطيئتها الكبرى حين تلاعب بها سمسار للجواري وأهل غافلين طماعين فسكنت شقة فاخرة بعقد عرفي لبضعة أسابيع عاشت بعدها ضائعة دون هوية دون مستقبل وبلا وطن.