دكتور / عبد العزيز أبو مندور عدت لمكتبتى القديمة بعد انقطاع طال أمده ما يقرب من نصف قرن ، فاستخرجت من بين رفوفها روايتين من تلك المحببة إلى نفسى هما: 1- فى سبيل التاج - وهي رواية كتبها الفرنسى فرانسوا بوكييه ، وترجمها بقلمه الجميل وأسلوبه الممتع الشيق ، بل أقول مصرها المرحوم مصطفى لطفى المنفلوطي ملحمة وطنية بالغة التشويق والإثارة . 2- فى بيتنا رجل - للكاتب والأديب الكبير إحسان عبد القدوس ، وهي من الروايات المشهورة عالميا لا لشهرة كاتبها الفحل بين الأدباء فقط ، بل بسبب ما بث فيها الكاتب فى نفس قارئها من حس وطني صادق ؛ ناهيك عن دفء الحب العذري الممزوج ببشاشة الإيمان وطهره ، ينمو ذلك ويكبر 00 تغذيه حماسة الشباب 00 تحت أعين الكبار الساهرة 00 ويقظتهم 00 ورزانة عقولهم 00 ومسئولياتهم الواعية 00 وقلوبهم الرحيمة 00 الوثابة 00 الحرة 00 الشجاعة 00 ورفق الأمومة 00 وحنانها 00 فرغم جبروت الظالمين ، فلم يساوم أحد على شرفه 00 ولم يتنازل أحد عن حق وطنه فى الحرية 00 والاستقلال 00 - استمر هذا المشهد يمسك بعيني القارئ ابن الخمسة عشر ربيعا ، فلا يرجف له جفن طوال الرواية من أول سطر إلى آخر كلمة – أكثر من 600صفحة فى طبعتها الأولى – 00 ناهيك عن إخراجها فى أحسن صوره وطنية جسدتها السينما المصرية دون مبالغة أو افتعال 00 لم نعهدها فى فيلم مصري إلا ما ندر كفيلم ( جميلة ) وفيلم الأرض. وبحثت عن سر اهتمامي بهاتين الروايتين ، ولماذا الآن دون سواهما ؟! وجدت أنهما يشتركان فى العنوان - بحسب ما لدي من ترجمة المنفلوطي - ، فكل منهما يبدأ عنوانها بحرف الجر ( فى ) ، وكل منهما يتحدث عن البطولة والحرية والاستقلال ويحارب الدخيل والمحتل والخائن ، فإن كان قسطنطين قتل أبيه القائد الكبير برانكومير لأنه اكتشف خيانته لوطنه ولم يستطع أن يثنه عن عزمه ، فما كان منه أن قتله بضربة سيف إنقاذا لوطنه ، فإن إبراهيم حمدى فى بيتنا رجل قتل إبراهيم باشا شكرى لنفس السبب ، فقد حكم الشعب عليه بأنه خائن يتعاون مع المحتل على حساب بلده ووطنه ، فنفذ فيه حكم الشعب ، فأرداه قتيلا برصاصة من مسدسه الصغير . ولكن – ما بين قسطنطين وإبراهيم حمدى فارق كبير ، فالأخير وجد من يحميه من بطش الحاكم المستبد والعميل الخائن ، وجد ذلك الحصن الدافئ فى أسرة الأستاذ زاهر ، وهي ترمز للشعب المصري الشجاع المتزن الصابر المسالم المناضل على مر العصور ، فى حين أن قسطنطين لم يجد من يقف بجانبه من الشعب ، بل من جنوده وضباطه وهو قائدهم وسيدهم ، فقد ثاروا عليه واتهموه بالخيانة بعدما أوقعته بازليد أرملة أبيه فى خيار صعب : 1- إما أن يعترف بخيانة أبيه وأنه هو الذى قتله حماية لوطنه . 2- وإما أن يصمت دفاعا عن شرف أبيه قائد الجيش ومحبوبهم الكبير. فاختار الصمت تكفيرا عن فعلته فى قتل أبيه ، وإن كان صمته سيؤدى إلى اتهامه هو بالخيانة ، وقد حدث ، ولكن – يكفيه شرفا أنه أنقذ اثنين من أحب ما لديه فى الحياة : وطنه وأبيه ولم يبق له عند الملك وعند شعبه وبين جنده إلا العار وتهمة الخيانة العظمى ، فهو منها براء ، فلا يعلم ذلك منه إلا الله سبحانه وتعالى ، فلجأ إليه مستغيثا يطلب الموت حتى لا يعيش فى قيود الذل و الهوان ، فما هي إلا أن برزت ميلتزا حبيبته بين الجماهير واندفعت إليه تسبق الجماهير المندفعة إليه تريد الفتك به كخائن للوطن ، فحنت عليه وطمأنته بثقتها من براءته ، وأنها لن تتركه نهبا للرعاع ، وإهانات الشامتين ، فانتزعت من بين ثيابها خنجرا كان قد أهداه لها ، فأغمدته فى صدره ليموت مدرجا فى دمائه وهو يحمد الله لها صنيعها ، فقد أنقذته من مكابدة آلام الذل والهوان وشماتة الأعداء . أما نوال حبيبة إبراهيم حمدى ، فقد أعانته فى هروبة من براثن البوليس السياسي وحكم الإعدام ، وساعدته على إتمام مهمته الوطنية ، واستمرار دوره البطولي فى الجهاد و مقاومة المحتل الغاشم ، ووقفت هي وعائلها حصنا منيعا أن يناله مكروه إلا أن مات شهيدا فى ساحة الجهاد ومقاومة المحتل الغاصب ! ولكن – لفت نظرى فارق وبون شاسع وكبير بين الروايتين يتمثل فى معالجة الكاتبين لموضوع الخيانة ، فالخيانة الوطنية كادت تؤدى بوطن قسطنطين نهبا فى أيدى العدو ، لولا أن حسم سيفه الموقف ، فقتل الخائن وهو أبيه وقائده . أما الخيانة فى قصة إحسان، فلم يقض عليه مسدس إبراهيم بطلقاته النارية القاتلة، فالنار أولى بأن توجه إلى صدر العدو ، هذا من ناحية . ومن ناحية ثانية ، فتضحيات إبراهيم ممثل الوطنية الصادق فى ثوبها الرفيق الحانى وإخلاصه لقضيته حولت الخائن عبد الحميد الفاشل إلى وطني محب صادق فى عواطفه وتطلعاته. أما الوجه الآخر فى قصة إحسان ، فإن الوطنية المخلصة ومقاومة العدو المتواصلة والباسلة ما برحت تؤتى أؤكلها بأمر ربها كل حين – رغم التضحيات الجسام وأعداد الشهداء الذين يتساقطون فى ساحة الشرف فى سبيل الحق والعدل والمساواة والحرية - ، فأيقظت أمة وحركت رجالا وحررت شعبا . وهكذا يموت الأبطال دفاعا عن العرض والأرض، ويعيش الخونة ليقبضوا ثمن البطولة، فيبددونها ويهيلون عليها التراب. فهل ذلك ما كان يعمل ويجاهد فى سبيله الأبطال والشهداء، فيأكل 00 المستغل 00 والوصولي 00 والشره 00 والبخيل 00 والجبان 00 والخائن 00 وأمثال هؤلاء السفلة يأكلون ثمار ما زرع الأبطال والشهداء ؟ وهل يقبل ذلك عقل العقلاء فى الزمان والمكان ؟ ما أسوءها نتائج إن كانت تلك هي نتائج النضال والتضحيات، فلن يتحقق من ورائها إلا تقاعس المخلصون والأحرار والغيورين عن أداء الواجب نحو وطنهم ، فلن تسعفهم معانى التضحية والإحسان التى تغذوا بها وتربوا عليها وشربوها من أمهاتهم وآبائهم وأستاذتهم 00 فلولا طلبهم وجهادهم في إرضاء ربهم سبحانه وتعالى .. ! ( وعلى الله قصد السبيل ) [email protected] *****