أولا: العصور الحجرية : أوضحت حفريات الخرطوم التي ترجع للعصور الحجرية أن جنس سكان الخرطوم كان زنجيا ، ومن الجماجم التي وجدت لهؤلاء ، نجدهم يزيلون سنين قاطعين من الفك الأعلى ، كما هو الحال لبعض قبائل جنوب السودان، مما يشير الي بداية طقوس دينية وعادات وتقاليد معينة. ومن طقوس دفن الموتى طقس " الجثث المضطجعة" ، في قبر من القبور تم العثور علي قطعة كبيرة من إناء فخاري وضعت تحت رأس الميت كوسادة. وكان سكان الخرطوم القديمة يعيشون علي صيد الأسماك والحيوانات بجانب جمع الثمار من الأشجار ، ولا يوجد ما يدل علي أنهم كانوا يمارسون الزراعة واستئناس الحيوانات (نجم الدين محمد شريف:29-30). كما أوضحت حفريات ( الشاهيناب) شمال امدرمان طقس معين وهو أن الجبانات أو المقابر تكون بعيدة عن آماكن السكن. وعموما كان وعي ذكاء إنسان السودان البدائي في العصور الحجرية يتطوران مع تطور حياته وصناعة أدوات إنتاجه. وتطورت أدوات الإنتاج من حجرية إلي أدوات تصنع من العظام. وباكتشاف النار عرف إنسان السودان البدائي كيف يطهي الطعام ويتقي شر الحيوانات المفترسة، إضافة لصناعة الأدوات الفخارية ، وبناء المساكن من الآجر( الطين). هذه التطورات التقنية والمعيشية أسهمت في تطور وعي الإنسان وذكاءه وتعلم الفنون ( الرسم علي الكهوف أو الجدران) وطلاء الجدران وصناعة أواني الطين المحروقة واستدارتها ( تطور صناعة الفخار). وكانت حياته الفنية والاجتماعية تعبر عن الصيد باعتباره محور حياته الأساسية التي تقوم علي الذهاب الي الصيد والعودة منه ، وعمل المسرحيات لعملية الصيد نفسها، كما عرف الاستفادة من عظام الحيوانات وتشكيلها وصناعة أدوات إنتاجه منها ، فضلا عن صنع ملابسه من جلود الحيوانات وصوفها. وفي مجتمع بدائي كهذا لا يعرف استعمال المعادن ، ولا النتاج الاجتماعي الفائض ولا يعرف التخصص في العمل أو الصناعة الحرية ويجهل تربية الحيوانات والزراعة، و نظام العائلة فيه يقوم علي الأمومة، ولا يعرف الملكية الخاصة والدولة والكهنة أو رجال الدين، فإنه لم يعرف الحضارة. ومع تطور الحياة الاجتماعية التي فرضتها طبيعة العمل والإنتاج الجماعي وتطور أدوات الإنتاج ، بدأت اللغة تتطور من إيماءات وإشارات ورسومات علي الكهوف والجدران..الخ، إلا أنها لم تتحول إلي لغة مكتوبة بعد. بهذا الشكل بدأت البنية الاجتماعية والفكرية لمجتمعات السودان البدائية تنمو وتتطور ، وبدأت تظهر بذور الطقوس والعادات والفنون واللغة والدين. ثانيا : حضارة المجموعات: 1- حضارة المجموعة (أ): شهدت حضارة المجموعة (أ) بذور الحضارة التي تتمثل في اكتشاف الزراعة وتربية الحيوانات والصناعة الحرفية وإن لم تكن مستقلة تمام الاستقلال، وقد انتشرت هذه الحضارة في النوبة السفلي بين الشلال وعبري. لا تشير المصادر إلي تطور لغة سودانية محلية مكتوبة في فترة حضارة المجموعة(أ) ، ولكن يبدو أن الكتابة المصرية القديمة التي تم اكتشافها سنة 3000 ق.م هي التي كانت سائدة. وربما يكون قد حدث تطور في فنون هذه الحضارة، فالرقص يعبر عن العمليات الزراعية من بذر وحصاد ، إضافة لتربية الحيوانات وأثر ذلك علي رسوماتهم وفنونهم ورقصهم ، وصناعة ملابسهم وأحذيتهم من جلودها ، ولا تشير المصادر إلي أشكال محددة لذلك. ومن أشكال تطور الفنون كان الفخار يرسم علي سطحه الخارجي تموجات ، بجانب ذلك وجدت جرار عميقة مخروطية الشكل حمراء اللون لها مقابض متموجة، أما الفخار المميز لهذه الحضارة فهو الخزف الجميل الذي يتسم برقة جدرانه وصقل باطنه الأسود، كما يمتاز بتزين سطحه بزخارف ورسوم داكنة اللون رسمت علي أرضية صفراء ( نجم الدين:31-32). وبسبب الانخفاض في الفائض الزراعي ، لم تشهد حضارة المجموعة (أ) سلالات حاكمة ، ولكن ربما شهدت هذه الحضارة بذور الانقسام الطبقي الذي يفضي إلي ظهور الدولة والسلالات الحاكمة. هذا إضافة لتطور ديانتهم الوثنية التي كان جوهرها الاعتقاد في الحياة بعد الموت ، كما يتضح من الأشياء التي كانت توضع في الجبانات مع الموتى، كما ارتبطت الديانات عندهم بآلهة الخصب التي يتجلي دورها في إحداث فيضان النيل ، وآلهة الشر .. وغير ذلك من ديانات الشعوب البدائية. 2- حضارة المجموعة (ج): تنتشر مواقع هذه الحضارة في النوبة السفلي بين الشلال الأول والثاني وعاصرت نهاية الأسرة السادسة المصرية ، وعاصرتها في الفترة نفسها حضارة كرمة حول الشلال الثالث. وقد لاحظ علماء الآثار كثيرا من أوجه الشبه بين حضارة المجموعة(ج) في مرحلتها الباكرة وبين حضارة المجموعة(أ)، من ذلك مثلا: الفخار ذو الحافة السوداء وشكل القبر وطريقة وضع الجثة. وتمتاز مقابرهم بمباني علوية من الحجر الرملي بنيت علي سطح الأرض فوق حفرة صغيرة مستديرة الشكل ، أما الأشياء التي تدفن مع الميت فتتكون من أواني من الفخار الأحمر ذي الفوهة السوداء وفخار أحمر فوهته محزوزة، وأطباق عليها حزوز بيضاء ، وقد وجدت مرايا من النحاس وعدد عظيم من قلائد الخرز وأساور من الحجر والعظم ( نجم الدين:33). كما أنهم كانوا دائما يقومون بدفن رؤوس المواشي والأغنام حول مقابرهم، ومن ذلك عرفنا أنهم كانوا يربون الأغنام والمواشي فقد وجدت عظام هذه الحيوانات في الأماكن السكنية القليلة التي وجدت، وأحيانا نجدهم يرسمون المواشي علي أوانيهم الفخارية، مما يشير إلي أثر الماشية والأغنام في حياتهم الدينية والاجتماعية والفنية. لا تشير المصادر إلي وجود لغة سودانية محلية في فترة هذه الحضارة، ويبدو أن كل الحياة الاجتماعية والفنية لتلك الحضارة كان مركزها الماشية ( البقر) والاغنام، ويتضح ذلك من تطور الفنون والتشكيل من آثار رسم الأبقار علي علي الصخور وتشكيلها بالطين ورسمها علي أسطح آنيتهم الفخارية. كما يبدو أن سكان تلك المجموعة وبحكم طبيعتهم الرعوية ومساكنها البسيطة مثل: الخيام والقطاطي ، أنهم استنبطوا شكل البناء الدائري من الحجر الرملي فوق القبر ، أي استنباط شكل فني لا تؤثر فيه الرياح أو عوامل التعرية مثل : الخيام والقطاطي، ولكن بناء غرفة من الطوب الأخضر مكان الحفرة في القبر وتشكيلهم للأبقار من الطين ، تجعلنا نتساءل : من أين لتلك المجموعة الرعوية هذه الأشكال المتطورة؟ ، إلا يدل ذلك أيضا أنه ربما تكون هناك مجموعة مستقرة عرفت الزراعة وبناء المساكن من الطوب الأخضر داخل هذه الحضارة التي توضح آثارها طابعها الرعوي، أي أنها مارست الزراعة والرعي معا ، ولكن الزراعة لم تلعب دورا أساسيا ، كما أشار بعض علماء الآثار. ثالثا: حضارة كرمة: نتيجة لتطور المجتمع الزراعي الرعوي والصناعة الحرفية الذي شهدنا بذوره في حضارة المجموعات قامت حضارة كرمة والتي كانت نتاجا لذلك التطور، وشهد ت حضارة كرمة عملية الانقسام الطبقي ، وظهرت فئات الملوك والكهنة والموظفين والتجار المرتبطة بجهاز الدولة ، ومن الجانب الآخر ظهرت فئات الحرفيين والمزارعين والرقيق. وظهرت المدن كما يتضح من آثار الكتلة الطينية الضخمة. كما حدث تطور في العادات والطقوس الدينية لدفن الموتى ، فقد تم اكتشاف أكوام من التراب مستدير الشكل تحيط به قطع من الحجر ، وفي داخلها مبني أقيم في وسطه دهليز يمتد من الشرق إلي الغرب يبلغ عرضه حوالي مترين ، ومن هذا الدهليز تتفرع شمالا وجنوبا حتى محيط دائرة القبر عدة جدران متوازية تقطعها جدران أخري في نقط متعددة مرتبطة بعضها ببعض ، ومن ذلك تتكون في كل الجزء الشمالي والجنوبي عدة حجرات صغيرة تعرف عليها عالم الآثار رايزنر بأنها مقابر وصاحب القبر كان يرقد علي سرير من الخشب وقد دفن معه عدد من الرجال والنساء يبلغ عددهم أحيانا المائة( نجم الدين:35). أشار عالم الآثار شارلس بونية إلي: أن الكهنة كانوا يمتلكون ثروة كبيرة وهذه الثروات مع نفوذهم الديني مكنت لهم في الأرض ووجد الكهنة وقت الفراغ الذي جعلهم يفكرون آو ربما كان لهم علم بالفلك وأسرار بعض الصناعات والهندسة ...الخ وكان لهم تنظيم إداري دقيق جعلهم يتمكنون من جمع الزكاة أو الهدايا من المواطنين ، كما توضح السلال والأختام والصناديق الخشبية ،كان من وظائف الكهنة مساعدة الفقراء والمحتاجين من الفوائض الاقتصادية والعينية التي كانت تصلهم ، وربما كان المعبد الكبير ضمن مخلفات آثار تلك الحضارة ، وبحكم وضعه الديني كان التجار والأغنياء يحفظون فيه ثرواتهم وبضائعهم النادر. ويعتبر هذا من التطورات الجديدة في ديانات السودان القديم بعد قيام مملكة كرمة. لم توضح لنا الآثار أن ملوك كرمة تبنوا لغة رسمية مكتوبة ، وبالتالي لم يتركوا وراءهم أي سجلات تساعدنا في معرفة أسمائهم أو حدود مملكتهم ونشاطاتهم وتعاليم أديانهم..الخ. ويري آدامز أنه لو أتيحت الفرصة للملكة كرمة تنمو نموا طبيعيا لاستطاعت أن تشق طريقها وتبلغ مراتب حضارية أعلي ، بما في ذلك تدوين أعمال الملوك ( آدامز:216). وبالتالي لا نعرف شيئا كثيرا عن تطور البنية الفكرية لمملكة كرمة ، ولكن نسمع عن ثقافة كرمة المتطورة التي نتجت عن التفاعل بينما هو محلي ووافد من مصر وتبادل الفنون ..الخ، وحاصل هذا التفاعل هو ما نتج عنه ثقافة كرمة المتطورة والمتميزة. وجاء التدخل المصري في السودان في زمن الأسرة الثامنة عشر ليعجل بنهاية مملكة كرمة، فوقعت بلاد النوبة بين الشلالين الأول والرابع تحت الإحلال المصري الذي أستمر حتى نهاية المملكة المصرية القديمة وبداية الحديثة وغطي الفترة ( 1570 ق.م -1085ق.م)، بعدها خرج المصريون من السودان في نهاية الأسرة العشرين. رابعا: فترة احتلال السودان في عهد الدولة المصرية الحديثة: عندما طرد أحمس مؤسس الأسرة الثامنة عشره الهكسوس من مصر وتم له توحيدها تحت لوائه واستطاع أن يكون حكومة قوية ، وجه همه إلي بلاد النوبة وشرع ينفذ سياسة توسعية نحو السودان، ولا نعلم علي وجه التحديد إلي أي حد توغلت جيوشه داخل الأراضي السودانية ، ولكننا نعلم أن تحتمس الأول ثالث ملك في هذه الأسرة هو الذي وسَع نفوذ مصر الحقيقي بدرجة أوسع مما وصلت إليه مصر في عهد الدولة الوسطي، وقد وضع هذا الفرعون لوحة مشهورة في "تمبس" جنوب الشلال الثالث عنوانا علي انتصاره علي هذه البلاد. هذا ونعلم من الآثار الموجودة في السودان ومصر أن إخضاع السودان التام قد حدث في عهد تحتمس الثالث عندما تم احتلال السودان حتى الشلال الرابع واستمر لمدة ستة قرون ( أو خمسة قرون). في هذه الفترة تأثر السودانيون بدرجة كبيرة بالديانة المصرية وعبدوا آلهتها وتثقفوا بثقافتها، وتطورت المدن الكبيرة في مختلف أنحاء البلاد ، وتم تشييد المعابد الفخمة والتي لا تقل بعضها عن معابد مصر في أبهتها ورونقها كما توضح آثار تلك الفترة. كما اتسعت فئة الكهنة التي بدأت تظهر منذ حضارة كرمة، والتي تأثرت كثيرا بتعاليم الديانة المصرية. المصادر والمراجع: 1- تاج السر عثمان: التاريخ الاجتماعي للسودان القديم (بحث غير منشور). 2- نجم الدين محمد شريف: السودان القديم وآثاره، دار جامعة الخرطوم للنشر، الطبعة الولي 1971م. 3- سامية بشير دفع الله: التعريف بتاريخ السودان القديم، مجلة الدراسات السودانية ، العدد (1)، المجلد (10)، ابريل 1990م. 4- آدمز: النوبة بوابة افريقيا (بالانجليزي)، لندن 1977م. 5- علي عثمان محمد صالح: الثقافة السودانية – الماضي والحاضر- في كتاب الثقافة السودانية، دراسات ومقالات ، الطبعة الأولي، فبراير 1990م. 6- مكي شبيكة: السودان عبر القرون، 1965م. 7- شارلس بونية: كرمة مملكة النوبة، دار الخرطوم للطباعة والنشر 1997م، ترجمة أحمد محمد علي حاكم، إشراف صلاح الدين محمد أحمد. وللحديث بقية ---------------------------- بقلم / تاج السر عثمان كاتب وصحفي سوداني وله عدة دراسات ومقالات منشورة في الصحف السودانية ، ومشارك في العديد من السمنارات وورش العمل . تخرج في جامعة الخرطوم، ابريل 1978 باحث ومهتم بالتاريخ الاجتماعي للسودان وغيره