د . مصطفى خميس السيد كثيرآ ما تسمع عزيزى القارئ عن تخبط التيارات الليبرالية و المدنية و تشرذمها فى أحزاب وجبهات ومبادرات متعددة فتحكم على التيار الليبرالى بالفشل و عدم الوحدة فى مقابل التيارات الإسلامية الأكثر تماسكآ و وحدة ! وكثيرآ أيضا ماتسمع عن بؤس و ضياع شباب الثورة و قلة خبرتهم وتشتتهم فى أحزاب و ائتلافات وتيارات لم تعد قادرة ( ولا هم بالضرورة قادرون ) على عدها و تعتبر أن ذلك مؤشرآ محبطآ على قلة خبرة و صبيانية هؤلاء الشباب فتترحم على الثورة التى انتهت و فشلت ! ثم كثيرآ أيضا ماسمعت عن ظهور تيارات و جبهات اخوانية و سلفية و جهادية عديدة فتشعر بالرعب منها وتسأل كما يسأل غيرك من السياسيين من أين ظهر هؤلاء فجأة و كيف ستدار الدولة و فيها هذا الكم من التعدد و الاختلاف ؟! قطعآ سمعت أنت كما سمعت أنا وسمع غيرنا فمصمصنا شفاهنا واستسلمنا ليأس رهيب وأقررنا بفشل الثورة بل و بفشل الدولة نفسها ! يعتبر علماء السياسة أن أحد أسباب التقدم و التنمية فى أى مجتمع على المستويات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية هو مقدارالثقة و الاعتماد المتبادل الذى ينشأ بين أبناء المجتمع مما يساعد على التفاعل و التعاون بينهم ويقلل من أهمية و سطوة الرسميات التى تضيع الوقت و الجهد لصالح العلاقات الشخصية المبنية على الثقة المتبادلة و احترام القانون فى الوقت ذاته ، وهو ما أصطلح على تسميته برأس المال الاجتماعى . فرأس المال الاجتماعى اذن هو عبارة عن شبكات الثقة الموجودة فى المجتمع و التى تسمح بتعاون ايجابى بين افراده يستطيع التغلب على عقبات الرسميات و الاجراءات البيروقراطية المعقدة و من ثم تنسحب هذه الثقة تدريجيآ من المجموعات الأضيق إلى المجموعات الأرحب و من ثم تنعكس ايجابيا على الدولة ككل ! ولكن يبقى السؤال اذًآ كيف نقيس مقدار رأس المال الاجتماعى هذا ؟ لعل واحدة من أهم وأبسط الطرق المستخدمة فى قياس رأس المال الاجتماعى فى مجتمع ما هو قياس عدد المنظمات و الجمعيات و المبادرات و المؤسسات غير الحكومية و عدد أعضائها ! و فى مجتمع مثل الولاياتالمتحدة فإن عدد هذه المنظمات فى 1949 بلغ حوالى 200 الف منظمة ثم قفز إلى 1.2 مليون منظمة فى 1989 و هو مايعول عليه الأمريكيون كثيرآ ... لماذا ؟ لأنه و ببساطة حتى يستطيع الانسان ممارسة السياسة و الولوج إلى العمل العام ، فإن عليه أولآ أن يكون مدربآ على كيفية التفاعل مع الجماعة ، و على طرح الأفكار و على القيادة و على حل المشاكل وعلى جذب الأخرين لأفكاره .. إلخ و لأن هذه المسؤلية من المستحيل أن توفى بها الدول لكل مواطنيها ، كما أنه من المستحيل أن تقوم الأحزاب السياسية بهذه المهمة نظرآ لانشغالها المستمر بالسياسة و الانتخابات ، فتبقى منظمات المجتمع المدنى هذه هى أحد أهم مراكز التدريب و التأهيل السياسى لأفراد المجتمع . لماذا أقول ذلك كله ؟ و ما علاقته بالحالة المصرية و التى أدعوك للتفائل بشأنها ؟ ببساطة لأن ما نراه الأن من تشرذم بين الائتلافات و الأحزاب و التيارات الليبرالية ما هو إلا خطوة طبيعية و متوقعة يتدرب من خلالها المنتمون للتيار على ممارسة السياسة بعد أن حرموا منها لسنوات طويلة طوال حكم مبارك . و فى حين أن التيارات الإسلامية كانت أكثر استعدادآ عن طريق الانتماء لجماعات وحركات اخوانية وسلفية وجهادية دربتهم وأثقلت خبراتهم عن معنى التنظيم و الحركة فى إطار المجموعة و المناورة ، و الأهم من ذلك هو بناء رأسمالها الاجتماعى الذى يعزز من شبكات الثقة بين أفرادها وبالتالى القدرة على مواجهة التحديات ! فإن التيارات الليبرالية والثورية أقل خبرة بكثير من نظيرتها الإسلامية فى بناء تنظيمات و تحالفات و الانخراط فى مشاكل المجتمع وصولا إلى الأزقة و الحوارى و النجوع ، فمن الطبيعى إذا أن يحتاجوا إلى فترة زمنية كى يتمكنوا من اكتساب خبرات التنظيم و مهاراته و بناء شبكات الثقة المطلوبة و من ثم المشاركة فى العمل العام بثقل و خبرة أكبر . كما أنه و على الجانب الأخر فإن تعدد و تنوع وقوة التيارات الإسلامية لا يجب النظر إليه بريبة دائما ، ذلك أن انخراط تلك الشبكات والتنظيمات فى العمل العام من شأنه أن يرشد من ممارستها و يجود من أدائها و يقلل من مثاليتها التنظيمية و الفكرية للتعامل مع الواقع و مشاكله ، مما قد يساهم أيضا مستقبلا فى زيادة مساحات الثقة بين الأطراف المختلفة للعبة السياسية فى مصر ، و نظرة سريعة على سياسات حزب النور و قياداته الشابة منذ تأسيسه حتى الأن يعكس مقدار الرشادة و التطور الذى طراء على أدائها وزاد من مساحة الثقة بينها وبين فاعلين أخرين على النقيض من أفكارهم و مبادئهم ! و يبقى هنا أن نوجه رسالتين لمن يعنيه الأمر . فأولأ : تحتاج التيارات الليبرالية وبحق إلى تنحية قيادتها و نخبها الأكبر من مواقع القيادة إلى مواقع الاستشارة ، فلم يعد خفيآ أن جيل الشباب الليبراليين و الثوريين كما ضاق ذرعآ بالاخوان فإنه ضاق ذراعين بالنخب الليبرالية الكهلة كثيرة الخبرة و ضعيفة الحركة و سطحية الرؤى فى فهم الواقع الجديد . وثانيآ : فعلى قيادة البلاد الممثلة فى رئاسة الجمهورية و مجلس رئاسة الوزراء أن يعرف أن مشروع قانون الجمعيات الأهلية الذى يعصف بقدرة الأخيرة على العمل ولا ينظر لها إلا من باب التآمر والتخابر مع الخارج سيؤدى الى انتكاسة الحاكم والمحكوم معآ ، لأنه لا سياسة و لا تقدم و لا نهضة بدون مجتمع مدنى حر و تعددى . باختصار لاسياسة دون رأس مال اجتماعى والأخير هو رأسمال ثورتنا الحقيقى . د . مصطفى خميس السيد باحث فى شئون الاحزاب