السياسة لغةً من ساس يسوس بمعنى قاد واصطلاحا تعني رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية ، وتُعرّف اصطلاحاً حسب هارولد لازول بأنها دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على ماذا ...متى ...وكيف. أي دراسة تقسيم الموارد في المجتمع عن طريق السلطة حسب (ديفيد إيستون) . وعرّفها الشيوعيون بانها دراسة العلاقات بين الطبقات الاجتماعية، وعرفها الواقعيون بأنها فن الممكن أي دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعياً وهو مانميل اليه. والسياسة هي العلاقة بين الحاكم والمحكوم . كما أن الكلمة يمكن أن تستخدم أيضا للدلالة على تسيير أمور أي جماعة و قيادتها و معرفة كيفية التوفيق بين التوجهات الإنسانية المختلفة و التفاعلات بين أفراد المجتمع الواحد كيانات دينية أو اجتماعية أوسياسية . إن السياسة في المجمل يا سادة هي لعبة الممكن والمتاح والقائم بها وهو السياسي لا بد وأن يتصف بالمرونة الشديدة والقدرة على الموازنات والمواءمات بما قد يفسره الأقل ذكاءاً أو الأضيق أفقاً أوحصافة تفريطاً أو تنازلاً أو حتى خيانة للقضايا محل التفاوض. إن قبول التفاوض في حد ذاته هو خضوعاً لتفاوت آليات القوة فكلما كانت القوة في صالح بلد ما أمراً محسوماً لم تكن بحاجة للتفاوض ولكن قد تقبل طلب الأضعف بالتفاوض معها لتكون نتيجة هذا التفاوض مغانم سياسية واستراتيجية محققة في جانب الأقوى نظير بعض منها في جانب الأضعف فيقبلها من منطلق الموازنة وتفاوت القوة لكون عدم قبوله قد يكون ذريعة لخسارته بالكلية ومن كافة الجوانب بينما بتفاوضه ومرونته السياسية وقدرته في الموازنة بما يسمى الدهاء السياسي يتجنب هذه الخسائر الكبرى بخسائر هي الأقل تأثيراً وهي الأبسط فداحةً .. وتعتبر الحرب وسيلة لأجل التفاوض في عرف السياسي بينما تكون هي الغاية في ذاتها في عرف الأقل سياسة والأقل حكمة. هذا هو مفهوم السياسة الأول من قبل قيام المجتمعات والكيانات الدولية حتى في النزاعات القبلية قديما ذاتها بما تعني فن الممكن والمتاح. وقد أُطلق هذا اللفظ على المفاوض بنعته سياسياً ليتهمه الآخرون محدودوا الفكر ضيقوا الأفق باتهامات التنازل المتفاوتة القدر والمتصاعدة بمراتب العمالة ومن ثم الخيانة بيد أنه قد لا يقل عنهم وطنية بل وربما قد يكون الأكثر انتماءاً ووطنية بيد أنه قد بلغ دهاؤه السياسي وحكمته وبُعد نظره المدى فيرى من منطلق مكنة الموازنات لديه بين قوته والآخر مالا يراه غيره وبحسابات لم يقدر عليها الأقل منه ذكاءاً وحكمة لكنها في النهاية لعبة المتاح وموازنات الفرص والقوى واستراتيجيات بلد المفاوض والإستراتيجيات الأخرى المحيطة إقليمية كانت أو دولية. إن السياسي وكروته السياسية والتي تعد كأحجار الدومينو هو محض ضحية مستمرة لخطط العسكر الاستراتيجية المبنية على القوة المطلقة والمفتقرة لحسابات الموازنات بما يؤدي في الغالب إلى قلة أوراق الضغط لديه وبالتالي عدم القدرة الكاملة في التفاوض بما قد يُعزى إليه قبوله بعض التنازلات لا لرغبته فيها ولكن كنتيجة للموازنات لديه مهما بلغ دهاؤه وحكمته. وهذا ما رأيناه عبر التاريخ لنجد ألمانيا من بعد الحرب العالمية الأولى وأسر ربع مليون ألماني لدى بريطانيا والحلفاء وكنتيجة حتمية لصلف العسكر وعدم حكمتهم ومن ثم خسارة الحرب المريعة تطلب الهدنة عام 1918م على أساس مبادئ ولسون ثم لتقبل فاتورة مؤتمر باريس ومن ثم تفكيك الإمبراطورية الألمانية ثم ليقبل المفاوض الألماني ما قرره مؤتمر فرساي في الإعتراف بالهزيمة وإقتطاع خمسة وعشرون ألف ميل من الأراضي الألمانية.. كما قد رأينا المفاوض الألماني ذاته يقبل من بعد الحرب العالمية الثانية وكنتيجة حتمية لصلف العسكر كذلك وعدم حكمتهم وخسارتهم المريعة أن يطلب التفاوض ليقبل بنتائج اتفاقية الصلح والتي بموجبها تم تقسيم ألمانيا إلى أربع مناطق أمريكية وبريطانية وفرنسية وروسية لتتحد الثلاث مناطق الأُول لتكون ألمانياالغربية بينما روسيا فقد خضعت لها ألمانياالشرقية وعاصمتها برلين . بينما الطرف الآخر في التفاوض من بعد الحربين فبقيادة المفاوض الأمريكي ممثل الطرف الأقوى والمنتصرليفرض الأمر الواقع بالتفاوض لتتوالى المغانم والمكاسب ونتائج كروت الإذعان المُمارسة على الأضعف والمتوقع مغانمها المستقبلية لتربح أمريكا عصبة الأمم و 45% من احتياطي الذهب الأوروبي في المرة الأولى وفي الثانية الأممالمتحدة لتصير من بعدها صاحبة السيادة الأولى على العالم والمحركة لمصالح كل بلدانه بإشارة من سبابتها حسب مصالحها واستراتيجياتها الخاصة. ومن ثم نصل لنتيجة حتمية وهى أن السياسي هو نتيجة حتمية لتصرف العسكر فتتفاوت قوته وضعفه حسب تصرف الأخير المتهور والأرعن حيناً والعاقل بالحكمة حيناً آخر وترتبط قوته وتتحدد إضافة لذكائه ودهائه بقوة العسكر وضعفهم وهذا في حال قيادة العسكر بينما الأولى دائماً اتباعاً هوأن تكون القيادة للسياسي بالأساس دون الجنرالات العسكرية والذين يجب أن يقتصر دورهم في تنفيذ مخرجات العمل السياسى وحماية حدود البلاد والسيادة الوطنية ودحر الغزاة ورد الاعتداء الأجنبي وصيانة حدود البلاد وبالمجمل تنفيذ قرارات السياسيين الاستراتيجية. هذا هو السياسي بمفهومه الدقيق وهو ليس لفظ مرتبط بشخص محدد بل بكل من يلعب اللعبة السياسية سواءً من داخل المنظومة الحاكمة أو من خارجها من داخل الكيان الوطني. فالسياسي كما قد يكون رأس النظام الحاكم كرئيس الدولة يكون كذلك كل أعضاء الحكومة والمجالس النيابية ومن هم يعملون بالعمل السياسي الداخلي أو الخارجي المرتبط بعمل الدولة الوطني ومن ثم فإن ممارسة الأحزاب لدورها سواء في إنشاء الحزب منذ وضع برنامجه أو ممارسته لنشاطه السياسي سواء في الارتباط بالتعامل مع الأحزاب الأخرى أو مع أقواها بالمنافسة وصولاً للحكم وبالمجمل مع المجتمع وقضاياه الداخلية والخارجية بالأساس إنما يمثل عملاً سياسياً بالمعنى الدقيق للكلمة بما يتطلب القدرة على لعبة الموازنات وفن التعامل مع المتاح والممكن. انطلق مفهوم السياسة الى رحابة الوصف ليستطيل الى كل من يعمل أو يفكر تحت عباءة العمل العام ليصير فيما بعد سياسياً.. حتى اعتُبرت المشاركة بالترشح فى انتخابات المجالس الشعبية المحلية عملاً سياسياً دون تفهم دقيق لمصطلح العمل السياسى وهو فن الممكن والتعامل مع المتاح.. ذلك الذى يقوم به السياسى كعمل وظيفى أو حتى الكاتب أوالمفكر السياسى ذو الرؤى السياسية بالتحليل والتوجيه بالنقد أوابداء الرأى بالتوجيه .. ذلك الذى يتخذه السياسى الموظف مخزوناً معرفيّا وسياسياً لديه يتعاطى منه ومعه بما يتناسب وميدانه الذى يلعب دوره السياسى فيه .. لذا كان لابد وأن يُفسح المجال لهؤلاء الكتاب والمحللين السياسيين وكذا اذكاء دور التحليل السياسى والمتطلب موهبة ذاتية بالأساس لدى هذا المُفكر أو المحلل السياسى سواء عن طريق الدولة عبر أليّاتها الثقافية بعقد المؤتمرات لهم والمسابقات الثقافية السياسية لجمهور المثقفين وعمل حملات التوعية الثقافية للعوام لشرح مفهوم السياسة بالمعنى الدقيق للكلمة كما ذكرنا حتى يعى العامة معنى كلمة سياسة ومفهوم العمل السياسى وحتى يفهم المواطن مفهوم الكلمة ويحلل تصرفات الحاكم وفقاً لرؤى الساسة لا بعواطف العامة .. ان ممارسة الحكم لابد وأن تتحلى بالسياسة بالمطلق سواء فى تعامل الحكام مع روافد الدولة الداخلية وأحزابها السياسية وكذا مواطنيها أو فى علاقاتها الدولية واستراتيجيتها مع الاستراتيجيّات الإقليمية والدولية لما لتصرفها فى هذا الخصوص من مردود قد يكون خطيراً على مصالحها داخليّاً وخارجياً..فقد نرى كلمة واحدة ينطق بها رأس الدولة يقوم لأجلها العالم بأسره حسب قدر دولته وأهميتها وقيمتها الاستراتيجية عالميّاً .. فمثلاً لاتتوازى كلمة حاكم نيبال بكلمة ينطق بها أوباما وان كان لكليهما أهميته وترقب لقوله من الأخر .. اذاً لابد وأن يحترم الحاكم الكلمة التى ينطق بها ولابد وأن تمر كلمته تلك على مجلس تشاورى من قبل نطقه بها .. حتى لايكون أسيراً ومقيّداً بما ينطق ومن ثم تُقيد كلمته مصالح الدولة وأولويّاتها .. وكلما افتقرت الدولة للغتها الدبلوماسية وهى لغة الساسة المرعيّة وذكاء خطابها السياسى صارت أكثر اغراءاً للطامعين فيها .. ومن ثم تُقاس قيمة الدول حسب قيمة أنظمتها السياسية حكمةً وتريُثاً وعدم اندفاعة ودراسة للأطروحات والمستجدات والاستراتيجيّات المحيطة والطامعة .. فتتحاشى الأخطار المحدقة مهما بلغت درجة دهاء وذكاء صانعيها ومدبريها لتعبر بدولها وشعوبها متلاطم الأمواج والأخطار .. ومادمنا قد اتفقنا على ان السياسة هى فن الممكن فلايمكن الحكم على السياسى بأليّات القضاء الجنائى بل بأليات اللعبة السياسية ذاتها ومن ثم حتى يصير الحكم على أنظمة الربيع العربى المثار عليها عادلاً لابد وأن يوضع فى الاعتبار أليّات اللعبة السياسية لدى محاكمتهم وليس المحاكمة الجنائية بالمطلق اذ بها لن تتصف محاكمتهم بالعدالة والقسطاس المستقيم .. فمثلا لا يمكن اعتبار قرار السادات بطرد الخبراء الروس دون طلب مقابل سياسى من الأمريكان خسارة ومقامرة بل لعبة سياسية ذات ذكاء ودهاء شديدين اذ اشترى ثقة الأمريكان لتكون راعيته فى سلام يعتزمه بعد صعودها على صهوة العالم كقطب أو حد كما لايمكن محاكمة كامب ديفيد السادات وما توصل إليه منها من تقسيم سيناء أمنياً لثلاث مناطق تتفاوت مكنة التسليح فيها بالخيانة وبالتنازل عن السيادة .. الا اذا أدت الى هذه النتيجة محاكمة سياسية بالمعنى الدقيق للكلمة وهى فن التعامل مع المتاح والممكن لنرى مصر السادات وفى تفاوضها لم يكن أمامها سوى ما قبلته بدهاء السياسى وذكاءه الشديدين بينما لو كانت رفضت لكانت البلاد قدعادت الى المربع الأول حيث صراع التسلح واستمرار رحى الحرب الى مالا نهاية وسط تغييرات اقليمية من سيطرة القطب الأوحد فيما بعد ليصير بذاته داعماً وحامياً بل ومتعهداً بتفوق الدولة العبرية عسكرياً وتوسعياً على حساب الأقطار العربية المحيطة لنرى أن الحدود المصرية الاسرائيلية على الخريطة السياسية وقد صارت بكامب ديفيد ثم بالتحكيم الدولى نهائية معروفة ومحددة رسمياً يعترف بها العالم كله بلا ثمة اجتهاد او تأويل بينما حدود إسرائيل الأخرى مع دول الجوار الباقية لا ذالت غير محددة وغير واضحة المعالم بل وغيرمستقرة أوقابلة للتعديل والتغيير بالاستيطان تارة وبالتوسع تارة أخرى أرأيت سيدى القارىء كم لهذه المعاهدة من فائدة قد جلبتها لمصر وكم هى الأخطار التى حالت دون وقوعها مهما قال المنتقدون ذوى الرؤى الضعيفة بأنها انتقاص من السيادة وتنازل وخيانة الى آخر هذه المفردات .وان كانت تحالفها بعد المثالب جلبتها ظروف التفاوض الدولية والاقليمية ساعتها وبمكنة الدولة طلب تعديل المعاهدة بشأنها حسب المستجدات والتغيرات الحادثة ولكن باختيار موعد هذا الطلب بما يتطلبه من قوة المفاوض وضعف من يفاوضه وتوافر أوراق الضغط ومؤازرة الاستراتيجيات المختلفة وليس الطلب محض قرار تتخذه الدولة دونما اعتبارات أومرعيّات ..اذ لن يُلبى لا يا سادة انها دواعي اللعبة السياسية وهى فن التعامل مع الممكن والمتاح ومن ثم فى رأيى أن السادات كان من أدهى عباقرة العمل السياسى الذين قد أتى بهم الرحم الوطني قاطبةً .. بينما ناصر من قبله فقد كان جنرالاً وطنياً هو الأقل منه دهاءاً والأفقر منه سياسةًً اذ هو الداعى لحرب إسرائيل ومن هم وراء اسرائيل بينما نصف قوته فبالشقيقة اليمن لتتوالى الهزائم وسط ضبابية المشهد لدى السياسى ..بما نتج عن الموازنة بينهما رغم اشتراكيهما في الوطنية الى حربين وهزيمتين لا ننتقص بهما من دور الأول الوطني ولكن نرجعهما إلا افتقار الأول إلى دهاء الخطاب السياسي بالمعنى الدقيق والذى كان يصب رغب وطنيته فى صالح الدول الطامعة والانتهازية فى غيبة من الموازنات والمواءمات الدولية والإقليمية لديه فنراه قد رفض السلام مع إسرائيل عبر مبادرة الخطة (ألفا) والتى تعد أول مبادرة سلام مع العرب وإسرائيل فى عهد ناصر عام 1955 حيث عرضها عليه سفير أمريكا بمصر (هنرى بايرود) وفق تعليمات (دلاس) وزير خارجيتها إبّان حكم أيزنهاور والتي بموجبها تتعهد مصر بعدم المساس بأمن اسرائيل مقابل حصولها على صفقة سلاح أمريكى قيمتها 20 مليون دولار والمساعدة فى تمويل مشروع السد العالى وعمل مفاعل نووى لمصر وكانت تكلفة الصفقة مليار دولار فى ذالك الوقت بينما نجده يقبل بنفسه بعد ذلك معاهدة روجرز وزير خارجية أمريكا فى عهد نيكسون سنة 1970 وهى التى تعد بروفة لمعاهدة كامب ديفيد والتى وقّعها السادات فيما بعد عام 1978 وقد نصت على ابرام سلام بين مصر وإسرائيل والأردن ليتم الاعتراف المتبادل بالسيادة ووقف الحرب وقد وافق ناصر ضمنياً على تعطيل معتقده التاريخى بموجب هذه الاتفاقية القائل بأن ما أُحذ بالقوة لا يُسترد الا بالقوة ..وقد توفى ناصر فى ذات العام وقد علم فى أخر حياته أن السياسة والدبلوماسية قد تحقق ماتعجزالحروب عن تحقيقه.. بينما السادات فقد كان الأذكى والأدهى والأحكم بل والأكثر مرونة.. تلك المتطلبة دائماً فى جانب ذو العمل السياسى بما مكّنه من اعادة رسم الحدود للبلاد سلماً وتحكيماً من بعد نصر حربى مؤزّر ثم يأتى فاقدوا السياسة والعلم بأصولها ليحكموا على الرجل بالخيانة والعمالة رغم وطنية الاثنين ناصر وهو ومصريتهما المتدفقة بل وتاريخيهما الحافل والمشترك .. نأتي لمبارك الحاكم الرابع لمصر من بعد ثوره 1952 وهو الثالث عملياً وتأثيراً لنرى السياسة المصرية وقد حافظت على المدخرات الاستراتيجية لمصر السادات بأليّات السياسي المحترف بلا اندفاعات غير محسوبة فى الخطاب السياسى وسنرى كيف بأن نتساءل:- ماذا لو كان خطاب ناصر السياسى هو الذى أعقب دهاء السادات السياسى حرباً وسلماً وسط التغيرات الاقليمية والدولية الحادثة ؟! لاشك أنه كانت ستضيع مكاسب دهاء السادات السياسى لنصل ثانية للمربع الأول من قبل كامب ديفيد والمخاطر المحيطة به.. ان مامرّت به المنطقة اقليميّاً ودوليّاً من أحداث متعاقبة ومتلاحقة وماترتب عليها من شبه الاتيان على حضارة دول عريقة بالمنطقة بسبب افتقار حكامها للسياسة ومرونتها بل ومفهومها الدقيق كان مدعاةً للاتيان على المكاسب الوطنية التاريخية للنضال الوطنى بل وكان بمكنته تلبية رغبات الأطراف الطامعة والمترقبة والأخطار المحدقة بالوطن والمواطنين لتكون فى النهاية الفائزة الغانمة هى الجارة الشرقية والعدوة التاريخية اسرائيل .. ماذا لو كان الخطاب السياسى المصرى لمبارك أكثر تلبيةً للوطنيين المفتقرين لأليّات العمل السياسى بمفهومه الدقيق كفن التعامل مع المتاح والممكن ؟! لاشك أن الخسارة كانت حتما حادثةً وواقعة .. كما وأن سيناء بالكامل كانت ستُعتبر شريطاً أخضراً تحت أقدام القوى الدولية شكلاً واسرائيل موضوعاً لأجل حماية الأخيرة دوليّاً من النزق المصرى والعدوان المصرى المرتقب وسط اعلام غربى كاذب ومهلل وصهيونى مُوجّه وحاكم بل وأكثر نفيرا.. بل وكانت مصر هى الأقرب لحال بغداد الرشيد محل التقسيم المُرتقب أو السودان الخصيب محل التقسيم الفعلى والواقعى تحت مسميات حماية الأقليّات ومناصرة الضعيف من العرقيّات والمُضطهد من الطوائف والأديان !! .. لايفت ياسادة من هذا المنطق اتفاقية الغازالمبرمة ذاتها اذ هى فى رأيى استراتيجيّاً وسياسيّاً ووسط معادلات دولية غير طبيعية وغير متوازنة كرتاً من كروت الضغط السياسية لشراء تحييد وسكون أطماع العدو الشرقى بما هو أقل من الثمن الحقيقى للغاز بل وبما يكون أقل من فاتورة اغتصاب سيناء كجزء من اقليم الدولة ذاتها وسط واقع سياسى محسوم لصالحها اقليميّاً ودوليّاً فى غيبة من التكتل العربى والترهل الاقليمى بالاحتلال الأمريكى والغربى سواء كان سياسياً استراتيجيّاً عسكريّاً للبلدان العربية المحيطة بحدودنا .. بل وسيطرة القطب الأوحد على القرار العالمى وتطويعه لصالح اسرائيل بالأساس وسط مشهد عالمى تتربع عليه الراعية الرسمية للعالم بقوتها الغاشمة .. فكان المقابل أقل ثمناً لتأمين سيناء استراتيجيّاً وسط هذه الأخطار المحدقة بنا والداعمة لها ومصالحها ولأطول فترة ممكنة تنتهى بتغير الظروف المحيطة والاستراتيجيّات الحاكمة.. ماذا لو لم تكن لاسرائيل ثمة مصلحة فى الغاز المصرى عبر هذه المدة الفائتة وسط جو سياسى واقليمى يصب فى صالحها يضمن تفوقها ويدعمُُ أطماعها التوسعيّة فى غيبة التواجد العربى المُوحّد..فى زمن بلغت فيه اسرائيل مبلغا لم تبلغه عبر تاريخها وقد ملكت فيه القوة الداعمة ووسائل الاعلام العالمية حتى أننا قد رأينا رئيس وزراء اسرائيل يستقبله الأمريكان استقبال الأبطال فيقفوا له مصفقين فى اجلال ومهابة شديدين فى مشهد متفرد من بعد العقد الأول من الألفية الثالثة وقد بلغت به اسرائيل أوجها وقد صارت هى الأكثر نفيرا ؟!!.. اذاً هى كروت سياسية يلعب بها السياسى بما قد يكون من لزومية اللعب بها خسائر اللاعب السياسى بالأساس مثله مثل لاعب الشطرنج قد يضحى بوزيره رغم قوته وقدراته الخارقة ودوره فى حمايته لأجل تنفيذ هدفه بالقضاء على ملك خصمه ببيدقه فى النهاية .. انها الخسارة ياسادة جالبة الكسب كما وأن المحافظة على المصالح لايفهمها غير السياسى الداهية .. نعم قد يستفيد البعض من هذه الأطروحة حسب أليّات الفساد والافساد بالوطن ذاته ولكن هذه مسألة أخرى لاتنال من قيمة اللعبة ونهجها بيد أنها تخضع لاعتبارات المحاكمة الجنائية لكن اللعبة السياسية فى ذاتها يُنظر للنهاية فيها وما قد حققت من مكاسب وما وقت من أخطار.. تلك هى اللعبة السياسية والمتطلبة المرونة بدرجات قد تصل الى مرحلة قد يحسبها قليل الموهبة والدهاء السياسى بمفهوم الخيانة والتنازلات والعمالة .. الأمر الذى يجعلنا نقول وبحق بأن المحافظة على التراب الوطنى من بعد كامب ديقيد رغم أخطار هى كانت جد محدقة ولاتزال هو عمل سياسى بالمفهوم الدقيق للكلمة سيثبته التاريخ مستقبلاً بعد أن تغيب النوازع الانتقامية من بعد الثورة والتى قد أوصلتنا الى اعتبار مبارك خائناً وقد حكم مصر ثلاث عقود فى ضربة صائبة غربية أمريكيّة وصهيونيّة بامتياز وقد نالت منّا وفى ثقتنا بقادتنا رغم تاريخهم الوطنى وكفاحهم العسكرى المُشرّف حتى يكره الطفل متعة العمل الوطنى مادام الشعب سيصمه بالعمالة يوماً لامحالة وهذا هو عين مايريده بنا أعداؤنا .. ان حكام مصر ياسادة عبر التاريخ لم يكونوا يوماً عملاء وخونة بل هم وطنيون يتفاوتون فى الرؤى السياسية وقدر الدهاء السياسى وظروف مراحلهم الدولية والاقليمية المحيطة والّا لرأينا سيناء وقد ضاعت من بعد كامب ديفيد أو قواعداً أمريكية تم انشاؤها على التراب الوطنى أو صارت مصر مقسمة كجارتها الجنوبية أو زاخرةً لحروب داخلية طائفيّة .. ومادام هذا لم يحدث فلايمكننا استباحة وطنية الرجل أو تاريخه العسكرى والمدنى بأخطاء قد تطلّبت الثورة عليه سواء برجال نظامه أو ترهل حكمه وفساده فى نهايته بعوامل شيخوخته العمرية رغبة ولده فى توريث الحكم ومؤازرته له فى ذلك .. كما لايمكننا وصف اتفاقية الغاز بالعمالة واهدار الثورة الوطنية اذا ماأخضعناها لاعتبارات اللعبة السياسية والاستراتيجية كما ذكرنا .. ان مصر ياسادة لاتحتاج لحكم العسكر من جديد الا السياسى منهم بمفهوم السياسة السالف.. ذلك المفهوم الذى يعترف به الاسلام ذاته.. فذاك نبى الله محمد وقد قبل كتابة اسمه بصحيفة صلح الحديبية فى العام السادس للهجرة بمحمد بن عبد الله دون لفظة رسول الله بمنطق المفاوض الأقوى القائل من بينهم لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك .. بل وصل الأمر أن يقبل باعادة من يدخل فى الاسلام من قريش بدون إذن وليه, وألا ترد قريش من يعود إليها من المسلمين... وقد قبل هذه الشروط المجحفة بعقل السياسى الحكيم والماهر الحاذق الذى يعلم مفهوم السياسة بالتعامل مع الممكن والمتاح .. ورغم كون مدة الصلح والمعاهدة تلك عشرة أعوام الا انه قد عاد من بعد عامين فقط سنة ثمانية للهجرة ليفتح مكة برداء الأقوى فيدخلها وكبارها صاغرون يلتمسون العفو منه .. انها السياسة التى ضرب نبى الرحمة لنا بها مثلاً على ان ديننا لاينكرها بل طالبنا بها .. حتى أن القرأن ذاته قد طالبنا باعمالها فى التعامل مع العدو الأقوى حتى نتملك أسباب القوة فقال تعالى (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)) [1] ليكون تنحية السياسة واعمالها رغم ثبوت الضعف وعدم المواجهة انتحاراً بالقاء النفس فى التهلكة ومقتضى للتحريم .. هذا المشهد لم يعيه ابن بنت رسول الله الطاهر بن الطاهرة الحسين بن على فقد خرج لنزال أهل الشام من هم تحت امرة يزيد بن معاوية رغم تحذير الصحابة كابن عمر وعبد الله بن الزبير ومنعهم له من الخروج مرتكناً على بيعة أهل الكوفة اليه فخانوه ليقف وحيداً وأهله فى معركة غير متكافئة حتى قتل بكربلاء على أيدى الفئة الباغية وقد غاب عن أحد سيدا شباب أهل الجنة عبقرية جده السياسية.. ان رسول الله وهو المؤازر من السماء صاحب الرسالة يضرب مثلاً للقادة والحكام أن يكونوا سياسيين يعووا فن التعامل مع الممكن والمتاح .. فالسياسة مرنة اذ ماترفضه اليوم قد تتمنى حدوثه غداً ولاتجده كورقة فلسطين لكامب ديفيد وقد كان السادات يرجوهم قبولها بينما العرب ومن ثم حلف بغداد بعد ذلك قد اعتبرونه خائناً للقضية الفلسطينية والقومية العربية واذا ببغداد ذاتها ترزح فيما بعد تحت أقدام الاحتلال الأمريكى اثر الخطاب السياسى الفاشل من قادة العراق والغائب عنه الرؤية السياسية الصحيحة .. ولم يصل الفلسطينيون أنفسهم فى قضيتهم لثمة شىء بل راحوا يسترحمون أعدءهم فى فتات الفتات مما كان يحققه السادات بمرونته العالية ودهائه الشديد .. كما أن ماتقبله اليوم كذلك مجبراً لضعفك وقوة خصمك يمكنك غداً ان تعاظمت قوتك وضعف خصمك ان تتفلت منه وبلا مخاطر محققة كما فعل رسول الله فى صلح الحديبية كما ذكرنا .. تلك هى أصول اللعبة السياسية والتى قد طوّرها من بعد الخلافة الراشدة معاوية بن أبى سفيان فصاغها صياغة مدنية غير اسلامية راقية تقارب ماعرّفها ميكافيلي به بكونها "فن الابقاء على السلطة، وتوحيدها في قبضة الحكام، بصرف النظر عن الوسيلة التي تحقق ذلك" ينما هو فقال (لو كان بينى وبين الناس شعرة لما انقطعت اذا شدوها أرخيتها واذا أرخوها شددتها ) بمنطق دهاء الحاكم المستجلب مكنة حفاظه على كرسى حكمه .. تعالوا ياسادة نعيد ترتيب أوراقنا من جديد لنأخذ الدرس من الماضى القريب كى لانعود الى الوراء بخسائره .. لايمكن للدولة الاستمرار بتحكيم القرار الشعبى غير المتريث والمتهور والمندفع والمفتقد للسياسة بالمفهوم السابق فى قضايا الوطن المصيرية.. ان اعلان الجهاد يتطلب توافر عوامل نجاحه والا صار انتحاراً ومجازفة .. كما وان الغاء الاتفاقيات الدولية ومنها اتفاقية كامب ديفيد انما يمثل –وحسب تعبير رئيس وزراء اسرائيل نتنياهو اعلان حرب بالمعنى الدقيق للكلمة – ومن ثم يلزم له من دراسة عواقب اتخاذه وهل وضع الدولة الأنى وظروف المرحلة يتحملان مثل هذا القرار .. كما هل يدعو الأسد الجريح غريمه للنزال أم الأولى تضميد جراحه أولاً حتى يتعافى من جديد .. لابد ياسادة من حدوث انتخابات رئاسية أولاً من قبل البرلمانية وفق المبادىء فوق الدستورية والتى تحدد فترات الحكم والتوجه السياسى العام للحاكم والمساواة والمواطنة وحقوق الانسان وفق المواثيق والاتفاقيات الدولية .. حتى يكون للبلاد حاكماً يعى أصول اللعبة السياسية ويتحمل مسئولياتها ومن ثم تنحية الخطاب الشعبى المفتقر لها من المشهد .. لتأتى الانتخابات البرلمانية تحت عباءة نظام حاكم شرعى ومنتخب فتتم بشفافية وهدوء لن يتحققان فى غيابه لتصير الدولة بدونه بؤرة صراع بين قوى وطنية عديدة ذات رؤى متضاربة بين يسارى ويمينى متطرف وهو عين مايوده عدونا الظاهر والأخر المستتر .. ان ظرف البلاد الراهن والاستراتيجيّات الاقليمية والدولية تدعو لاعمال السياسى لعقله وفكره ومرونته حتى يعبر ببلادنا الى شاطىء جديد بلا غرق.. علينا أن نتوقف فوراً عن اتهام بعضنا البعض بالخيانة والعمالة بمن مع ومن ضد الثورة فالكل وطنيين مهما اختلفت رؤاهم ووسائلهم وقناعاتهم ومدى تفهمهم لأليّات اللعبة السياسية ومتطلباتها .. اذ من شأن استمرار هذه الاتهامات وباشاعة جو الانتقامات الدعوة للثورات المضادة حتى ولو بعد زمن طويل من الثورة اذ فى نظرى بأن الثورة المضادة لفتح مكة واسلام أبى سفيان واتهامه البعض بأن اسلامه جاء مراوغةً منه ونفاقا قد بدأت من بعد ثلاثين عاماً على هذا الفتح بتولى معاوية الحكم ومن بعده ولده وقد نجحوا فى ذلك حتى مقتل ابن بنت رسول الله على يد رجال يزيد بن معاوية نفسة وابن ابن أبى سفيان ذاته !! .. لا تتمادوا ياسادة فى الاتهام المتبادل بالخيانة وعدم الوطنية اذ ليس من بيننا خائن ولا من بيننا عميل فكل منّا يدلو بدلوه فى معتركه السياسى بمنطق الوطنية حتى وان فشل فهتلر قد أضاع ألمانيا رغم وطنيته وحبه وعشقه لها .. فلم يكن بما فعل عميلاً للحلفاء خائناً لوطنه لكنه كان يعتقد أنه يفعل مافعل خدمة لوطنه ومصالح بلاده .. ومن ثم يجب ألا ننعت حكامنا بالخيانة حتى ولو اخطأوا فقد كانوا يظنون أنهم مبتغين مصالح الوطن وأمنه وعلينا أن ندعوا الحكم عليهم لأدوات التاريخ وأليّاته.. كما لايمكن وصف ناصر بغير الوطنية وقد ضاعت سيناء بالكليّة اثر سياسته الخالقة لعداء الاستراتيجيّات المحيطة والطامعة بلا قوة تحميه ..الّا أنه هو ناصر القومية والعروبة والفداء والأب الروحى للثورات العربية والتحررية العالمية .. انه جيفارا العرب ذو كاريزما القيادة المعجونة بتراب الوطن حبّاً وعشقاّ وفداءاً.. كما لايمكن نعت السادات بالعمالة وغير الوطنية بقبوله كامب ديفيد القابلة بالتفاوض لتواجد عسكرى مشروط بدرجات ومناطق أمنيّة ثلاث وانسحابه من المواجهة العسكريّة مع اسرائيل بما جعله لدى هذا البعض خائناً للقومية والوطنية. اذ حافظ بالمقابل وبموجب تلك المعاهدة على التراب الوطنى فى حقب تاريخية هى الأصعب والأخطر عبر التاريخ المصرى من تغيرات اقليمية واستراتيجية دولية .. كما لايمكن نعت مبارك بالخيانة وقد حافظ على ارث السادات السياسى بالمحافظة على التراب الوطنى وقد رفع علم مصر على طابا من بعد التحكيم الدولى مقبّلاً ايّاه فى مشهد وطنى رائع كما قد تخلى عن الحكم ابّان ثورة يناير العظيم دون أن يجر البلاد لمشهد دراماتيكى دموى متكرر كما باليمن وليبيا والبحرين وسوريا .. ان عدونا ياسادة لايتمنى فى قادتنا المهارة السياسية لكنه يطمح فى حكام جامدين غير مرنين لايعوا فن الموازنات ولا التعامل مع المتاح والممكن .. لذا قد عزموا وبخبث شديد فى تأجيج ثوراتنا على السياسيين منهم لنأتى بأخرين لايرون من الألوان الا اثنين أحدهما أبيض ناصع والأخر أسود بهيم .. فيكونون وبلادهم موطن جذب واغراء لأطماع الأخر المترقب والعاض على أظفاره .. دعونا ياسادة ألّا نطعن فى وطنية قادتنا لمجرد أخطاء ارتكبوها وفساد استشرى فى أواخر فترات حكمهم فلم يحكم مصر يوما خائناً ولن لن يكون ..