عباس طمبل عبدالله الملك السودان عماد الدين عبد الله محمد البليك روائي سوداني، من مواليد بربر 1972 ولاية نهر النيل، درس مراحل التعليم الأولي ببربر، وتخرج في كلية الهندسة جامعة الخرطوم عام 1996. نشر أول روايتين دفعة واحدة، وتم عرضهما لأول مرة بمعرض أبو ظبي للكتاب في 2003، وهما رواية الأنهار العكرة، ورواية دنيا عدي. وفي عام 2008 نشر روايته الثالثة دماء في الخرطوم .. في أغسطس 2014 نشرت له دار مومنت بالمملكة المتحدة روايته الخامسة شاورما والتي وجدت رواجا كبير في الأوساط الأدبية العربية. ما أكثر الدماء التي سالت في الخرطوم منذ فجر الاستقلال وعلى مر الحقب المتعاقبة على حكم السودان، فقد قدم لنا الأديب عماد البليك هذه الرواية البوليسية "دماء في الخرطوم" التي طبعت في ثلاثمائة وخمسة وسبعين صفحة من القطع المتوسط، وجسدت الصراع النفسي والسياسي والاجتماعي والفكري والفلسفي الدائر بين طبقات المجتمع المختلفة، ووفقاً لما تقتضيه فلسفة البقاء، وتعزيز شروط الأنا، ودفعها باتجاه الأعلى. بالنظر لطبيعة العلاقة بين الراوي والقارئ، نجد أن أصحاب المنهج اللغوي لخصوا رأيهم في أن الأسلوب هي الوسيلة الوحيدة التي يستعين بها الراوي لإيصال فكرته والتي تمر عبر قنوات رسمية منها على سبيل المثال العاطفة والخيال والفكرة، وقد تكون هذه إحدى الأدوات التي عبر بها عماد البليك عن فكرته، ونجح في تقديمها للقارئ وفق حبكة سردية عالية الجودة مستخدمًا فيها تقنيات السرد الحكائي النثري وتطوع خياله الشاعري الخصب في نسج ملامح شخصيات روايته، وهنا تقع مسؤولية اختيار الطريقة المناسبة لتقديم الشخصية، إما من خلال اسمها أو صفاتها الجسدية أو النفسية أو ثقافتها أو خلفيتها الثقافية والتاريخية – تقع هذه المسؤولية على الكاتب. سرعان ما يكتشف القارئ أن الدماء تفيض من مكتب رجل الأعمال المشهور عبدالله العربي وهو الشخصية التي تقوم الرواية على مشهد اغتياله وتجسد صراع السلطة والثروة وصراع الدولة البوليسية العميقة بين الأمن والشرطة، وسط تهميش دور الشرطة وسيطرة الجهاز الأمني على كل خيوط اللعبة الحساسة التي تكفل له تسيير البلاد وفق مصالح الحزب الحاكم. فقد برع الكاتب في رسم شخصياته وقدم نموذجًا يأخذ من الواقع الكثير ومن الخيال أيضًا، بشكل يسمح لعقل القارئ أن يتجول في مروج هذه الرواية الخصبة دون أن ينتابه الملل والنفور. يعتبر عماد البليك من الروائيين أصاحب الأساليب المتميزة التي عرفها القارئ عبر عدة روايات استطاع أن يخلق من خلالها رائحة ذكية ميزت أعماله الأديبة عن غيره من أبناء جيله، وفق أسلوب متجدد متمرد على القالب الفني التقليدي، مما جعل الرواية تسير وفق خط سردي مبتكر مستلهم من خيال واسع الآفاق، وهو ما يمهد له الطريق لاستدعاء التفاصيل الصغيرة والدقيقة، مما يحلق بخيال القارئ في فضاءات من التوهم غير المصطنع دون أن ينحرف على مسار السرد الروائي الماتع الإدهاش. إذا نظرنا لنسج حركة الشخصيات الروائيّة داخل الرّواية، نجد أن الكاتب قد يوحي بصورة غير مباشرة بالمكان الذي تعيش فيه هذه الشخصيات؛ لذلك فنحن عندما نتابع حركة الشخصيات ينشأ لدينا شعورٌ بصورة غير مباشرة بوجود المكان. وشعورنا لا يمكن أنّ يتأتى إلا من خلال براعة الروائيّ وقدرته على متابعة حركة الشخوص وتتابعها في ثنايا السرد، وكلما كان الروائيّ مدركاً للعناصر الداخليّة والخارجيّة للشخصيّة ونجح في توظيف هذه الشخصيّة مع الأحداث في الواقع الروائيّ لمسنا إحساساً خاصاً بوجود أماكن تلك الشخصيّات، في هذا الرواية نجدها تتصادق معه لدرجة تجعل القارئ يقول لماذا ذكر الراوي الشذوذ الجنسي كسمة من سمات شخصية رجل الأعمال (عبدالله العربي) دون غيرها؟ وهو الذي ورث المال من أجداده وفق تبادل مصالح مع الاستعمار البريطاني؟ وهل ذكره متصالح مع البناء السردي ورح العمل وغير مبتذل؟ ربما يجيب القارئ بنعم أن ذكره إضافة للأحداث إذ اتضح أنه السبب الرئيسي وراء قتله. وقد نجح الراوي في رسم ملامح شخصية عبد الله العربي إلى حد كبير، فهو رجل الأعمال الذي يوافق على أرض الواقع نماذج حقيقية بنفس هذه السمات وربما يقول القارئ أنا أعرف هذا الرجل أنه فلان. الشخصيات الأخرى ربما تسير بالتوازي مع بعضها البعض في البناء السردي، ونجد أن شخصية (ميسرة نورالدين) مؤسس الخلية السرية التي قامت باغتيال رجل الأعمال (عبد الله العربي)، يعاني من أثار نفسية وإحباط سلطة القهر والتهميش رغم تخرجه من جامعة مرموقة (كلية الطب) وقد بلغ أشده ولم يحقق شيئًا في هذه الحياة، لذلك نجد أن هذا النموذج ينطبق على الكثير من أبناء هذه الوطن المغلوب على أمره. ونجد أن شخصية مدير الشرطة اللواء (طه) وشخصية مدير جهاز الأمن (محجوب العوض) وشخصية الوزير الانتهازي المنهزم (البكري) وشخصية ابنه (عبدالحفيظ) وبنته (زينب).. كل هذه الشخصيات تتشابك مع بعضها البعض، وتساعد على خلق أحداث تتحرك في الحيز المكاني وفضاء الرواية بطريقة لا تعطي إحساسا للقارئ بأن هناك حدثًا متقدمًا على الآخر، فقد كانت الوحدة العضوية بين الشخصيات هي السمة التي ميزت هذه الرواية، وجعل الراوي حركتها بطريقة تلقائية دون فرض الوصاية عليها على طريقة الراوي العليم غير المشارك في الحدث الذي يفرض وجهة نظره ويحدد مصير شخصياته دون حاجة النص لذلك. في هذا العمل كانت لغة الراوي تهبط للخطاب اليومي وهذا محبب ومن روح الأدب ورسالته، وأتى السرد بلغة خالية من استخدام الرمزية والصور التشبيهات والمجازات من دواعي اكتمال الصورة الروائية، وكي تصبح المشاهد مشوقة تمتاز بالكثير من اللين وتسرع في عملية الاستيعاب دون عناء، وبالرغم من كسر الراوي للتابوه الجنس باستخدامه ألفاظا في بعض الأحيان قد تبدو صادمة للقارئ إلا أنها تلقائية حدثت حسب الحالة النفسية للشخصية والصراعات في الروية حسب ما يناسب الحوار. حتى نسج الشخصيات التي أنبتتها الحبكة السردية وسير الأحداث لم يلحظ القارئ أنها نباتات طفيلية تسلقت على أكتاف تماسك الحكاية، إلى أن مضت بأمان إلى قدرها المحتوم الذي اختاره الراوي لها بكل حرفية، مما سهل للكاتب رسم الشخصيات بوضوح نتيجة لخلفية الكاتب المعرفية الثقافية السياسية الاجتماعية العميقة، وهو ما أدي إلى دفع الماء في أرض الرواية الخصبة ونمو الشخصيات وترعرعها وتفاعلها عبر منحني الصراع الدرامي، مع عدم وجود فراغات تؤدي إلى أحساس القارئ بالتوهان والضياع. وما ميز العمل اختيار الكاتب لأسماء شخصيات من وحي الحياة اليومية، وقد يقول القارئ حقًا قد صنع هذا الكاتب منبرا كي تتهامس فيه هذه الشخصيات وتشي عما بداخلها وتقدم كل ما اختزن في عقلها الباطن من مرارة وحسرة وآسي جراء الكبت والقهر والإذلال الذي تمارسه ضدها سلطة الدولة البوليسية. بالنسبة للأحداث، سارت بطريقة جيدة متماسكة إلا حدث اغتيال رجل الأعمال عبدالله العربي، اختل قليلا في التفاصيل وهي لحظة اغتياله وهو (إكمال اثنين من أفراد الخلية السرية شهوتهما مع بعضهما البعض بعد اغتياله)، بالنظر لواقعية الأحداث وحسب الحالة النفسية بعد ارتكاب أي جريمة قتل، لا أظن أن هنالك متسع من الوقت واتزان نفسي يسمح( لهيثم والسر) بعد تنفيذهمها هذه الجريمة فعل أي شيء غير الهروب بسرعة من مسرح الجريمة، كما أن تواجد شخصيين في انتظار رجل الأعمال عبدالله العربي، تجعل إمكانية التدخل لإنقاذ رجل الأعمال واردة. ولا أظن أي شخص يُغرس خنجرًا في صدره دون أن يصدر صوتًا يسمعه من يتواجد في مسرح الجريمة، وغالبًا ما تتكون المكاتب من شقق صغيرة مكونة من صالة وغرفتين وحمام، كما وصفه الراوي أنه في عقار متهالك ويعتبر مكتبه السري يستغله لممارسة شهواته مع مجموعة الشباب حليقي الشارب. دلالة البعدين الزماني والمكاني: لابد للمكان داخل النص أن يكون خاصاً ومختلفاً عن المكان خارج النص، ذلك أن المكان الروائي - وينطبق ذلك على البعد الزماني داخل النص - لابد أن يكون ممتزجاً بعمق ذات الروائي الفنان. ومن هذا المنطلق قد يكون المكان رمزا للانتماء والتجذر والأصالة حين يكون حميماً، بيد أنه قد يتسم بالكراهية والرفض حين يكون عدائيا كساحات المعارك. وربما كان منفتحا بسعة الأفق أو مغلقا كما السجن. وقد يكون عتبة أو جسرا أو فراديس أو أمكنة تعذيب. وقد نلاحظ أن المكان الروائي يتجاوز الحدود الجغرافية والفزيائية، ويضيف إليه الروائي الكثير من حسه وذوقه وإن كان مكانًا حقيقًا كالخرطوم، التي ترمز للوطن الكيان السودان وتتحرك في فضاءه الشخصيات ويتضح للقارئ أن الكاتب يعرف هذا المكان جيدًا ويمثل له همًا كبيرًا يريد أن يجسد مشكلاته ويعكسها للقارئ. أمّا الزمان الروائي، فهو يتجلى في عناصر الرواية كافّة، وتظهر آثاره واضحة، على ملامح الشخصيات وطبائعها وسلوكها، فالأحداث التي يسردها الكاتب، والشخصيات الروائية التي يجسدها، كلُّها تتحرّك في زمن محدّد يُقاس بالساعات وبالأيام والشهور والسنين. وهذا يعني أنّه زمن تصاعدي. إذ يفترض أنْ يجري عرض الأحداث وفق تسلسلها الزمني المنطقي الطبيعي. هو سنوات من العيش في ظل الدولة البوليسية من عمر نظام الإنقاذ الذي امتد عبر حقبة سوداء تقدر بحوالي الخمسة والعشرين عامًا من تاريخ هذا الوطن وقد جسدها الراوي بلغة سلسة ممتعة، وسرد متتابع متدفق، مما يمنحه وسام الجدارة من الطبقة الأولي على مستوى السرد الذي يعالج قضايا مُلِحة.