خاض الشعب الفيتنامي حرب تحرير شعبية طويلة الأمد ضد الاستعمارين الفرنسي والأمريكي على التوالي، وخرج منهما منتصراً رغم آلامه وجراحه البالغة. وقد اعتمد في ثورته على احتضان الشعب لها بكل ما تعنيه الكلمة. وانتشرت بؤر الثورة في كل الأرياف، وشنت معارك صغيرة منتشرة في طول وعرض الأرض الفيتنامية، وهي كلما حققت انتصاراً، أجْلَت العدو عن المنطقة التي تهزمه فيها، فيلتف الشعب في تلك المنطقة حول ثورته، وتصبح المنطقة المحرَّرة قاعدة ارتكازية آمنة، تتخذها الثورة نقطة انطلاق جديدة، فتقيم فيها حكومة شعبية ثورية، تعمَد إلى تقوية عوامل صمود الشعب وتتخذ من الإصلاح الزراعي دعامة للمقاومة، وتؤلِّف الفيتناميين حولها في رابطة وطنية واسعة للدفاع عن استقلال فيتنام، تتبنى نهج المقاومة وتعزل القوى الاستسلامية والقوى المتعجلة معاً، وتنشر ثقافة المقاومة. وخططت لضرب العدو في نقاط ضعفه متجنبةً مناطق تمركزه المنيعة والقوية، وبالتالي فهي تنهك العدو في جبهات كثيرة منتشرة في كافة القرى والأرياف. وقد اجتهد جيش التحرير الفيتنامي في توثيق علاقته مع الشعب؛ فالشعب للجيش كالماء للسمكة، وشعاره: "احترام الشعب- مساعدة الشعب – الدفاع عن الشعب". وهكذا وضعت الثورة الفيتنامية أُسس وشروط القاعدة الآمنة: "أن يستطيع الثوار أن يعملوا بها بعلانية وبدون انقطاع، وأن تكون في مكان وسط الجماهير. وفي تماس مع العدو، وأن يكون الدفاع عنها أمراً ممكناً." وقد اعتمدت الثورة الفيتنامية في البداية على ذاتها، حيث كانت محاطة بالأعداء من كل جانب، وهو ما فرض عليها حصاراً وعُزلة، لم تكسرا عزيمة أهلها، إلى أن انتصرت الثورة الصينية بجوارها فقدَّمت لها الدعم بكل أشكاله. لقد فشلت الثورة الفلسطينية في عام 1968م في تطبيق نظرية القاعدة الآمنة، عندما أقامت قواعدها في قرية الكرامة الأردنية وبعض القرى في غور الأردن. فلم تكن تلك قواعد آمنة؛ إذ لم يحتضنها الشعب، ولم تقم فيها سلطة شعبية مقاومة، ولم تكن في ارض انحسر عنها العدو، وانتهت بتدمير قرية الكرامة، وانتقال المقاومة إلى عمان والمدن الأردنية تحت شعار جديد ينادي بأن تكون عمان "هانوي" الثورة. لقد تمكنت المقاومة في غزة من دحر العدو وإخراجه من داخلها في عام 2005م. واحتضن الشعب مقاومته، وأصبحت خياره وبرنامجه، فانتخب حركة المقاومة الإسلامية لقيادته في عام 2006م. وصمد معها وبها في حصار قاسي استغرق خمس سنوات، تخللها العدوان الواسع على غزة في مطلع 2009م. لقد عاشت "سمكة" المقاومة في "بحر" شعبها. وأدارت حكومة المقاومة القطاع: فشرعت المقاومة، وسعت إلى التنسيق بين فصائلها وتوحيد جهدها، وبدأت في مشاريع إصلاح زراعي لتعزيز الاقتصاد المقاوِم وتنمية قدرات المقاومة وشعبها، وطفقت تنشر ثقافة المقاومة عبر الأدوات الإعلامية والثقافية والتربوية، وقامت بجهود دولية لشرح عدالة قضية المقاومة الفلسطينية وحقوقها، وحَمت المقاوِمين وعتمت عنهم معلوماتياً، وجرَّدت حملات ضد الجاسوسية والطابور الخامس. وحرصت – كالثورة الفيتنامية – على تجنب المعارك الحاسمة، والبدء بالنضال السياسي، والتحضير للمعركة القادمة مع العدو دون استعجال لها. لقد أبْلَت المقاومة وحكومتها في غزة بلاء حسناً، وهي مدعوّة لتقديم المزيد منه، وتطويره، وتجديد وسائلها في دعم المقاومة وتصليبها، وهي غير معفيةً من هذا الواجب. وبعد انتصار الثورة في مصر، أصبح لزاماً على المقاومة في غزة، تنسيق التعاون مع قوى الثورة في مصر، للحصول على الدعم والتأييد المحلي والإقليمي والدولي، وفك الحصار الذي فرضه الأعداء على قطاع غزة. وفي الوقت الذي رفعت فيه جميع فصائل العمل الوطني الفلسطيني شعار إقامة الدولة الفلسطينية المقاتلة على أي شبر يتم تحريره، فإن قطاع غزة الذي يمثِّل تسعة ملايين شبر، صالح لقيام سلطة المقاومة، ومنطلقاً لتحرير بقية الأرض الفلسطينية، والاستفادة من تجارب الشعوب التي ناضلت ضد الاستعمار وتحررت منه، الأمر الذي يفرض علينا النظر إلى قطاع غزة ضمن استراتيجية جديدة، ترى فيه قاعدة آمنة للثورة، ومُنْطلَقاً للتحرير، في الوقت الذي يسقط فيه هذا الخيار في الضفة الغربية التي يجوسها الاحتلال وتمكن من ضرب قوى المقاومة فيها بالتعاون مع معارضي نهج المقاومة والمشككين فيه من الفلسطينيين. وهذا يدفعنا إلى رفض الربط بين الضفة وغزة، كي لا نبقى أسرى خيارات لم نخترها، وأوضاع فُرضت علينا. بل يجب أن تنطلق عملية التحرير في الاتجاهات البرية المحيطة بقطاع غزة، بينما تصبح غزة "هانوي" الثورة لتحرير كل الأرض الفلسطينية وليس الضفة فحسب. ويظل القطاع ومن خلفه مصر الثورة حامي المقاومة وظهرها ونصيرها حتى تؤتي ثمارها كما حصل في فيتنام.