عندما قرأت اسمها لأول مرة "سو إلين" اعتقدت أنها غير مصرية.. وبمجرد معرفتي بسيرتها الذاتية المتميزة ووظيفتها كمديرة للشئون القانونية في إحدى الشركات العالمية للبترول تخيلتها في الخامسة والأربعين علي الأقل، ولكن المفاجأة أنها مصرية .. وعمرها 32 عاماً فقط، وزادت الدهشة بعد حوارنا معها لأنها نموذج ناجح يستحق أن نسلط عليه الضوء .. فهي ليست مجرد محامية شابة تنتظر قضية للترافع فيها وتحصل علي أتعابها، ولكنها كما تقول :"حياتي كلها للقانون" .. وهذا ما سنعرفه منها بالتفصيل في الحوار التالي .. في الثاني من أبريل عام 1978 بدأت قناة CBS الأمريكية في عرض أشهر مسلسل في تاريخ الدراما العالمية "دالاس" والذي استمر لمدة 13 عاماً وحتى عرض الحلقة الأخيرة منه في 3 مايو 1991، وعندما بدأ عرضه في مصر مع منتصف الثمانينيات كان كثيرون يتابعونه بشغف مترجماً علي القناة الثانية وهم متأثرين ببطلة المسلسل "سو إلين".. ومن هؤلاء سوزان حبيب والتى وصل عشقها لبطلة المسلسل لدرجة إنها بمجرد إنجابها لبنت .. قررت أن تطلق عليها اسماً مركباً وهو "سو إلين" .. تقول سو: أمي كانت معجبة جداً بالشخصية .. ولذلك أطلقت علي هذا الاسم عندما ولدت بالإسكندرية، نعم أنا أحب اسمي كثيراً ولكن لا أنكر أنه منذ طفولتي وخلال مراحل دراستي المختلفة وحتى اليوم يسبب لي بعض المشاكل لأنه يوحي بأنني غير مصرية وأن "إلين" هو اسم والدي، كما أن ملامح وجهي ربما ساهمت في تأكيد هذه الفكرة، لكن الحقيقة أن اسمي بالكامل هو سو إلين حسونة عبد المحسن حسونة محمد أبوزيد!.
سو منذ صغرها تهوي القراءة عن القانون بكل فروعه.. ولذلك في الثانوية العامة كان هدفها واضحاً وهو الالتحاق بكلية الحقوق، تقول: لم يكن هناك بديل آخر .. اخترت دراسة الحقوق ليس لأنني أتمني العمل كمحامية فقط.. ولكن لكي أدرس روح القانون وكل تفاصيله وليس ثغراته كما يفعل البعض، المسألة عندي حقوق وواجبات.. ولذلك كنت سعيدة بما درسته رغم أن الواقع العملي مختلف، فعلي الورق القانون واضح وعادل ويعالج كل الأمور بدقة وحسم .. ولكن عند في الواقع تطبيق القانون ليس بهذه السهولة لأن العلاقات الإنسانية معقدة جداً.
حصلت سو الين علي ليسانس كلية الحقوق القسم الفرنسي في جامعة عين شمس، ولكن الطريق لم يكن مفروشاً بالورود .. فبعد تخرجها تقدمت لوظائف كثيرة ولكن النتيجة أنها ظلت عامين تجلس بالبيت بلا عمل، ولم يقف بجانبها سوي أمها، تقول : وصلت لدرجة اليأس .. خاصة وأنني لم أملك وقتها الإمكانيات المادية لتحقيق أحلامي، وبالكاد نجحت في تدبير مبلغ لدراسة مادة واحدة ضمن الماجستير بالجامعة الأمريكية، والحمد لله كنت الأولي في التقدير .. ولذلك حصلت علي منحة لمدة 6 أشهر بعثة كباحثة قانونية في محكمتي العدل و الجنائية الدوليتين في لاهاي، ونجحت في الحصول علي ليسانس الحقوق من جامعة جين مولين في ليون بفرنسا، ثم حصلت على درجة الماجستير في القانون الدولي المقارن من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 2009 مع مرتبة الشرف، إلي جانب برنامج رسالة الدكتوراه من جامعة ليستر في بريطانيا، ومع زيادة خبرتي أصبحت من المتحدثين في محاضرات كثيرة بعدة أفرع من القانون مثل قانون العمل بشتى مجالاته وقوانين فض المنازعات الدولية وغيرها، وحالياً أعمل والحمد لله مدير عام الشئون القانونية بالمركز الإقليمي لشركة بترول عالمية، وهو ما أكسبني خبرة في مجالات القانون المختلفة محلياً و إقليمياً ودولياً في العديد من المؤسسات و الشركات الدولية.
السؤال البديهي .. هل لم تحصل سو علي فرصة للعمل بالخارج مع مؤهلاتها العلمية المتميزة وسنها الصغيرة ؟ تجيب : عندما تخرجت عملت محامية تحت التمرين لفترة بسيطة وكنت أذهب للمحاكم للترافع في قضايا عمالية ومالية ودعاوي فسخ عقود وتعويضات خاصة بالشركات، وسافرت كثيراً بعد ذلك خلال دراستي وتلقيت عروض عمل بالفعل ولكنني كنت أرفضها .. والسبب ببساطة هو أنني أريد التميز في المجتمع الذي أعيش فيه، وهذا لن يكون موجوداً في فرنسا مثلاً حيث كنت سأصبح مجرد موظفة .. أي ترس في ماكينة كبيرة، ولست نادمة علي رفض هذه العروض لأنني حالياً أقوم بالتدريس في الجامعة الأمريكية و الأكاديمية العربية للعلوم و التكنولوجيا وعدة جامعات إقليمية أخري .. كما أن لي العديد من الأوراق العلمية البحثية في الموضوعات القانونية، كما إنني عضو في نقابة المحاميين والجمعية الأمريكية للمحاماة في مصر والجمعية المصرية للقانون الدولي والجمعية المصرية للدراسات القانونية و الاقتصادية .. ولدي مهام كثيرة تشعرني بأنني مؤثرة في المجتمع.
عرض فيلم "الأفوكاتو مديحة" سنة 1950وكانت تجسد فيه مديحة يسري المعاناة التى تجدها أي فتاة من الريف تحاول أن تمارس مهنة المحاماة، وبعدها بعامين فقط قدمت فاتن حمامة وكمال الشناوي فيلمهما الشهير "الأستاذة فاطمة" وهو يعكس قلة ثقة المصريين وقتها في المحاميات واعتبارهن أقل خبرة وموهبة من المحامين الرجال، ورغم مرور أكثر من 60 عاماً علي هذا الواقع .. لكن "الأفوكاتو سو" لاتزال تري أننا نقف عند نفس النقطة، تقول: أي بنت تريد ممارسة مهنة المحاماة حالياً تواجه صعوبات كثيرة أنا عشتها .. فقد تقدمت لوظائف كثيرة عقب تخرجي وكان سبب الرفض الوحيد هو أنني "بنت"، وتزداد المشكلة مع البنت إذا كانت في مجتمع ريفي لا يثق في قدراتها.
سو تؤمن بأهمية تمكين الشباب في المجتمع، ورغبة منها في محو الأمية القانونية المنتشرة بكثافة قررت تدشين مؤسسة " سو إلين القانونية للتنمية " .. وهي مؤسسة غير هادفة للربح وتعمل بشكل تطوعي وتقدم خدماتها بالمجان لخلق مجتمع مدرك لقيمة القانون و يعرف أهميته، تقول : من خلال عملي بالشركة اكتشفت أن كثيرين يرتبكون أخطاء ليس بسوء نية بقدر ولكن بسبب جهلهم بالقانون، مثلا هناك موظف تم فصله وخلال التحقيق معه سألته"هل قرأت بنود عقد العمل ؟" فأجاب بأنه لا يعرف أصلاً شيئاً عن عقد العمل، وتجد شاباً آخر يخضع للتدريب في مصنع أو شركة لمدة 8 أشهر بينما قانوناً يجب ألا تزيد الفترة عن 3 أشهر .. كل ذلك رغم أنهم متعلمون، ولذلك فكرت في مؤسسة تطوعية تقدم كورسات ومحاضرات بالمجان لزيادة وعي الناس بالقانون .. حقوقهم وواجباتهم، والاستفادة من الكورسات والمحاضرات والدورات التدريبية متاحة لأي شاب أو شابة، كما أنني أقدم هذه المادة العلمية عبر اليوتيوب لكل من يريد متابعتها بالمجان، ومن خلال المؤسسة أيضاً قدمت منحة باسم أمي "منحة سوزان حبيب" أساعد من خلالها أي فتاة غير مقتدرة مادياً علي مواصلة مشوارها في دراسة الحقوق بجامعة عين شمس وتوفير وظيفة لها بعد التخرج لكيلا تعيش نفس المعاناة التى مررت بها .. وبالمناسبة، الشباب في الصعيد "شاطر جداً" ولكن مشكلتهم في الفرصة .. فقط أمنحهم الفرصة وستجد منهم عباقرة فعلأً .
سو تستيقظ يومياً في الثامنة صباحاً لتذهب للتدريس بالجامعة .. وبعد ذلك يأتي موعد عملها بشركة البترول، وفي منتصف النهار تحاضر بشكل تطوعي سواء في إحدي الجامعات أو المراكز القانونية، وفي المساء تواصل عملها بالمؤسسة حيث تعطي كورسات ومحاضرات لعدد كبير من الشباب المهتمين بالقانون، وبالتالي حياتها كلها للقانون فقط، تقول : لست متزوجة وبالتالي حياتي الشخصية مفتوحة علي حياتي العملية ولا يوجد شيء يعطلني عن هدفي وهو نشر الوعي القانوني بين الشباب في مصر والمساهمة ولو بجزء بسيط في مساعدتهم ليعرفوا جيداً حقوقهم وواجباتهم تجاه مجتمعهم.