مكانة القانون في مجتمع ما تعكس مدى تقدمه أو تخلفه، ولعل من أبرز ما بدا للناس بعد الثورة هو مدى تفسخ القيم القانونية في المجتمع المصري. لم يكن المواطنون يكترثون بالقانون قبل الثورة نظرا للفساد المستشري في البلد. لكن بعد الثورة وحين ظن الناس أن الثورة انتصرت وبدأ اهتمام الناس بمتابعة القضايا العامة بدءا من الدستور ومرورا بمحاكمات رموز النظام السابق وانتهاءً بالانتخابات البرلمانية، صدموا في حقيقة النظام القانوني الذي نعيش فيه واستشعروا أن القضاء بشقيه الواقف والجالس(1)، يعاني من قصور شديد من ناحية الكفاءة المهنية. وحيث أننا في مرحلة هدم وبناء المؤسسات بدأ الناس يستشعرون أهمية وجود نظام قانوني قوي، ومستشارين قانونيين على درجة عالية من الكفاءة يعاونون البرلمان المنتخب في البحث والصياغة القانونية. ولكن لكي يحدث هذا الأمر على الوجه الأمثل فلابد من إصلاح منظومة التعليم بالكامل، وإعادة الاعتبار للتعليم الجامعي، ووجوب استعادة كلية الحقوق لمكانتها العلمية والتاريخية حتى يتخرج منها أكفاء يستطيعون الحفاظ على حقوق المواطنين. ينعكس احترام المجتمع للقانون –بشكل كبير- في مدى إدراكه لأهمية دور المحامي، وقد لاحظت ذلك من خلال عملي مع شركات وشخصيات أجنبية كثيرة حيث أراهم دائما يسألون ويستفسرون عن كل كبيرة وصغيرة قبل القيام بأي فعل أو إجراء حتى لو بدا تافها من وجهة نظرنا، وهذا يعكس احترامهم للقانون وحرصهم على عدم مخالفته. أما في المجتمعات التي لا تهتم بالقانون فلا يأبه الناس بمعرفة القانون أو محاولة الاستفسار عنه، حيث الفوضى والفهلوة هما سيدا الأخلاق. وإذا علمت أن الشخص العادي في مصر قد تمر حياته كلها دون أن يتعامل مع محام - وذلك بعكس الدول المتقدمة للأسباب سالفة الذكر- فلك أن تتساءل في الوقت نفسه كيف ينظر المصريون للمحامي بشكل عام. ما هي الصورة النمطية في أذهان العامة عن هذه المهنة؟ وكيف يتم تكوين هذه الصورة النمطية؟ في الغالب فإن هذه الصورة النمطية مصدرها الأفلام السينيمائية؛ العربية منها والأجنبية، وكذا المسلسلات التلفزيونية. كيف كان المحامي في هذه الأفلام، ضد الحكومة، حسن سبانخ في الأفوكاتو، طيور الظلام، محامي خلع، محامي الشيطان أو devil's advocate، وغيرها من الأفلام التي وضعت المحامي في صورة نمطية واحدة يستدعيها المشاهِد دائما في حال سماعه كلمة محام؟ المشترك بين هذه الأفلام –وغيرها- أنها تظهر المحامي–خصوصا الشاطر والبارع الماهر- كشخص أفاق، مخادع، بوجهين، بيلعب بالبيضة والحجر ويغلبك في الكلام. قد تكون هذه الصورة مناسبة لفيلم سينمائي كونها ممتعة ومشوقة أو تظهر الجانب الأسود لمهنة تتعلق في الجزء الشائع عنها بالدفاع عن المتهمين في الجرائم الجنائية. فالحقيقة أن مهنة المحاماة أوسع بكثير جدا من مجرد الترافع أمام القضاء، وحتى الترافع والتقاضي أمام المحاكم غير محصور في المسائل الجنائية فقط، فبحر القانون واسع جدا وبه تخصصات عدة. فكما يوجد الطبيب المتخصص في أمراض القلب وآخر متخصص في المخ والأعصاب وثالث متخصص في العيون، فكذلك في المحاماة ستجد أن بها تخصصات مختلفة وممارسات عدة. لكن الصورة النمطية والمحببة في الأفلام هي صورة المحامي الفاسد، لأنها صورة سينيمائية بامتياز حيث أنه سيكون من الممل جدا أن تشاهد فيلما سينيمائيا عن محام شريف ومحترم، فما وجه الإثارة في شخصية كهذه؟ للأسف فهذه الصورة السائدة سببت لي شخصيا مشاكل جمة، وأعتقد أنها سببت ذلك أيضا للكثيريين من زملاء المهنة. فبدءا من الزواج، وحتى التعاقد والشراء، ومحاولة تأجير شقة؛ دائما كنت –ومازلت- أعاني بسبب كوني محاميا. فأول ما يُعرف أني محام ينقلب وجه محدثي وتبدأ الريبة والشك والخوف في التسرب إليه. حدث هذا معي حين تقدمت للزواج من زوجتي، فقد كانت أهم أسباب الرفض كوني محاميا وهي طبيبة، وهو ما لم أكن أعلم أنه مستهجنٌ في مجتمعنا ويعدّ تعدياً من جانبي -أنا الشخص المسكين خريج كلية الحقوق- على كلية من كليات القمة. أيضا حين أردت أن أستأجر منزلا بعد عودتي من الخارج، كانت الأمور تمشي بسلاسة وحين يعلم المؤجر أني محام يرفض المضي قدما في الأمر أو يتهرب مني. وعلى سبيل المثال أيضا، فإن أغلب البنوك ترفض منح قروض للمحامين بالإضافة إلى رجال الشرطة. وكما ذكرت، فمهنة المحاماة بحر واسع، فليس كل محام يذهب للترافع في المحاكم، فهناك محام يعمل كمستشار قانوني(2)، يقدم الاستشارات ويصيغ التعاقدات سواء للشركات أو الأفراد، وهناك محامون يترافعون في قضايا مدنية وتجارية. فليس كل من يذهب للمحكمة يعمل في القضايا الجنائية بالضرورة ، وليس كل من يعمل في القضايا الجنائية فاسداً بالضرورة. ستجد المحامي البارع في المرافعات وتجد آخر بارعاً في كيفية صياغة العقود والاستشارات القانونية، وستجد هذا أو ذاك بارعاً في قسم معين في القانون. ستجد أحدهم بارعاً في الشق التجاري والمدني مثلا، وآخر بارعاً في مسائل الأحوال الشخصية، وثالث بارعاً في القانون البحري...إلخ. وداخل كل قسم ستجده يبرع في جزئية معينة. وبعيدا عن ذلك ستجد المحامي "الفهلوي المدردح" البارع في الإجراءات فقط ويعرف كيفية التعامل مع الموظفين الحكوميين وكيفية تسيير الأمور في أروقة المؤسسات العامة لكنه فارغ من الناحية العلمية. وهذه التخصصات كلها ستجدها بشكل أكبر في مكاتب أو شركات المحاماه الكبيرة، حيث ينقسم المكتب إلى عدة أقسام –تماما كما في الشركات- فتجد قسماً للمرافعات، وقسماً آخر للاستشارات، وداخل كل قسم ستجد تخصصات أدق من الناحية الفنية والقانونية. وعليه، ستجد محامين "أغلب من الغلب" ومظهرهم يبدو كأطباء أو موظفين محترمين في بنك أو شركة متعددة الجنسيات. أيضا يظن كثير من العامة أن المحامي شخص يملك ناصية القانون في عقله، وهذا وهم بالطبع. فالقانوني ليس مطلوبا منه أن يكون ملما بالقانون كله بحيث تسأله السؤال فيرد بالإجابة فورا. لكن مطلوب منه أن يكون باحثا ممتازا عن المعلومة ويعرف كيف يبحث عنها وكيف يضعها في سياقها الصحيح وينزلها على الواقعة الماثلة أمامه ويوظفها لخدمة مراده. بقى أخيرا أن أوضح وهماً يسيطر على كثير من عامة الناس في مسألة المرافعات أمام القضاء. وهذا أيضا نتيجة ما يشاهدونه في الأفلام والمسلسلات. يظن الناس أن المحامين يترافعون أمام القضاء ويقف الواحد منهم ليقول الجملة الشهيرة "سيدي القاضي...حضرات السادة المستشارين....إلخ" وهي صورة مسرحية جدا تخالف تماما ما هو كائن في الواقع. ولعل محاكمة المخلوع كانت صدمة كبيرة لكثير من الناس، إلى درجة أن أخي هاتفني من قطر يومها يستنكر ما يحدث وهو غير مصدق، فالمشهد لم يكن سينمائيا بالمرة كما تعود. فأخذت أضحك من فرط صدمته وأخبرته أن محاكمة المخلوع تعتبر من أرقى ما شهدته المحاكم المصرية. على الأقل من حيث نظافة قاعة المحكمة. ما لا يعلمه عامة الناس أنه في الواقع العملي لا توجد مرافعات فعلية، فباسثتناء المرافعات القصيرة جدا التي قد تحدث في القضايا الجنائية والأحوال الشخصية والتي لا تتعدى فيها المرافعة ثلاث دقائق بحد أقصى تكون مجرد تقديم إيضاحات للقاضي وليست مرافعة بالمعنى الفني، فإنه لا يوجد ترافع شفهي في باقي القضايا، وما يتم عملا هو الاكتفاء بتقديم المذكرات المكتوبة نظرا لكثرة القضايا وتراكمها. فلك أن تتخيل أن "رول الجلسة" (أي عدد الجلسات التي ستنظر في الجلسة) قد يصل إلى 400 قضية!! وأخيرا، لكي ينفض الناس الغبار عن هذه الأوهام فأنصحهم بعمل زيارة ميدانية لأي محكمة تقع في دائرة سكنهم، فوفقا للمبدأ العام يحق لأي شخص حضور جلسات المحاكمات عملا بمبدأ علانية المحاكمات. ويمكن من خلال هذه التجربة الوقوف على حقيقة الأمر بعيدا عما هو متداول في الأفلام والمسلسلات. ----------------------------------------------------- (1) القضاء الجالس هم القضاة الذين يعتلون منصة القضاء، أما القضاء الواقف فينطبق على كل من أعضاء النيابة والمحامين الذين يترافعون أمام القضاء الجالس. (2) مصطلح "مستشار قانوني" غير مشهور بين العامة في مصر، حيث يظن الكثيرون أن المستشار القانوني هو من يعتلي منصة القضاء في المحاكم، وهذا غير صحيح. فالمستشار القانوني هو محام لكنه لا يقوم بالمرافعة أمام القضاء ويكتفي بتقديم الاستشارات القانونية وصياغة العقود لزبائنه. أي يمارس ويؤدي جميع الخدمات والأعمال القانونية التي يمارسها المحامي فيما عدا المرافعة أمام القضاء. وجدير بالذكر أن هذه التفرقة غير موجودة من ناحية الترخيص المهني في مصر وجميع دول العالم، لكنها موجودة من الناحية العملية وإن كانت غير منتشرة. فكل محام هو مستشار قانوني بالضرورة وليس العكس. أما في إنجلترا وويلز فهناك تفرقة بين نوعين من المحامين من ناحية الترخيص المهني، فالمحامي الذي يترافع أمام القضاء يدعى "باريستر" Barrister أما المحامي الذي يقوم بتقديم الاستشارات القانونية يسمى "سوليستر" Solicitor، ولا يجوز لأيهما التعدي على اختصاص الآخر.