حين لاحت لي بعض معالم القاهرة من شباك التي أقلتني من دمشق. وجدتني فجأة أنخرط فى بكاء شديد. فقد مضت ثلاث سنوات قضيتها بعيدا عنها. وأنا الذي لم أكن أحتمل الابتعاد عنها ثلاثة أيام فقط. إذن هو الحنين الذي أبكاني وليس الخوف المرتقب مما ينتظرني فيها. والذي صورته لي الهواجس والظنون فى بشاعة جهنم ذاتها . وبمجرد أن حطت الطائرة على أرض المطار. تلقى الركاب أوامر من إحدى مضيفاتها بالبقاء فى أماكننا. حتى صعد احد ضباط الأمن لينادى على اسمي مسبوقا بكلمة "الراكب". تقدمت منه لأعرفه بنفسي متصورا أنه مبعوث من نقابة الصحفيين ليساعدني فى إنهاء الإجراءات قبل أن يسلمني لنقيب الصحفيين الذي توقعت أن يكون في انتظاري بمكتب مدير امن المطار. ولكن بمجرد أن لمست إحدى قدمي سلم الطائرة حتى رأيت العشرات من جنود الأمن المركزي مدججين بالسلاح وهم يحيطون بالطائرة من كل جانب. بينما كانت إحدى سيارات الشرطة رابضة فى وسطهم انتظارا لأحد ركاب الطائرة شديدي الخطورة على الأمن ما أن جلست في السيارة محشورا بين سائقها وهذا الضابط المكلف باستقبالي. حتى سارع يطلب يدى ليضعها فى" الكلبشات" ثم أخرج من جيبه عصابة من الجلد السميك ليضعها على عينى وهو يعتذر باعتباره مجرد "عبد المأمور" توقفت السيارة بعد ما يقرب من الساعة سيرا وسط الزحام ليطلب منى الضابط المرافق النزول ليتأبط ذراعي الأيمن ويقودني إلى الطابق الأعلى بأحد المباني. ثم تركني فى حراسة زميل له. وبعد برهة عاد نازلا بى الدرج إلى مكان شعرت فيه بقشعريرة البرد التى لا تتناسب مع حرارة أغسطس. ثم قام بنزع العصابة من على عيني فإذا بالمكان زنزانة جلس بها أحد الأشخاص بلحية كثيفة. كان يجلس على كليم هو كل ما يحتويه المكان من متاع. غادرنا الضابط منصرفا بعد أن أغلق الباب الحديد. فجلست فى مقابل الأخ الذي اخذ يفترسني قبل أن يسأل: اسمك إيه . وانت هنا ليه؟ قدم لى نفسه باسم عبد الله السماوي. هو الذى كنت سمعت اسمه مقترنا بزعيم الجماعة الإسلامية بالفيوم . بل أخطر زعماء تلك الجماعات. فانتابني الإحساس بخطورة موقفي وإلا فما معنى أن اختير لى صحبة هذا الرجل الخطير فى زنزانة واحدة؟ فأخرجت علبة السجائر من جيبي لأشعل منها سيجارة. فوجدته ينتفض غاضبا ليقول لى بلهجة آمرة : بلاش سجاير هنا. المكان ضيق كما ترى . ثم أن التدخين حرام. مد يده لينتزع السيجارة من فمي ويطفئها على الأرض بحركة عصبية. لم أجرؤ على تحريك ساكن من وقع المفاجأة. ولكنى أدركت يقينا بأن معركة محتملة مع الرجل توشك أن تبدأ تركته وتمددت على الأرض مستعينا بالنوم على ما أنا فيه من إحساس بالكرب. سألني هل الحكيم هو اسمك؟ لم أرد . ثم تابع سائلا: هل أنت شيوعي. فأدرت وجهي ناحيته لأقذفه بنظرة مستنكرة. ثم عدت لهياتى الأولى متوسدا ذراعي دون أن انطق بحرف. تركته يهرطق ببعض الكلمات التي يصب فيها لعناته على هذا النظام الكافر. داعيا الله أن يقرب ساعة الخلاص منه. لم أعد اسمعه فقد انشغلت بما حدث لى وما سوف يحدث. وشعرت بالحنق والأسى . كيف يستدرجني نقيب الصحفيين للحضور ليسلمني إلى أمن الدولة؟ وما هو نوع العقوبة التي تنتظرني هنا على أيدي هؤلاء؟ توقعت أقساها . ضربا وتعذيبا وربما قتلا . ولكن لن يحدث لى هذا قبل أن يحصلوا منى على اعترافات كاملة . وماذا فى ذلك ؟ سأعترف بكل شيء فليس لدى إلا ما يشرفني القيام به. لقد استعملت حقي في أن أتخذ الموقف الذي أراه صحيحا مدفوعا بمشاعر وطنية سليمة. أمضيت فترة طويلة بالزنزانة ربما كانت هى الدهر كله. خاصة أنني في زمالة هذا "السماوي" الذي حملتني صحبته فوق ما أطيق من الشعور بالضيق والضجر !!