خلال الأيام الماضية كان البابا تواضروس، جزءا من المشهد الساخن الذى اشتعلت درجة حرارته مع زيارته الأخيرة للقدس، يأتى هذا فى الوقت الذى يستقبل فيه بطريرك الكرازة المرقصية عيد جلوسه الثالث وسط أجواء غير احتفالية بالمرة، فهو يجد نفسه وحيدا.. بل وغير مرحب به من البعض فى مجلس الأباء والكهنة والأساقفة.. خلافات داخلية وجماعات ضغط وصفحات مشتعلة على مواقع التواصل الاجتماعى تطالب بعزله، وفى المقابل حركات وروابط أخرى ترى فيه شيئا من الأمل لحل مشاكل الأقباط مع قضايا الزواج والأحوال الشخصية على المستوى الداخلى وإباحة زيارة القدس مرة أخرى على المستوى الخارجي.. هذه الحقائق تؤكدها الكثير من الشواهد والمواقف وهو ما نرصده لكم بمزيد من التفاصيل فى السطور التالية.. شهدت الأعوام الثلاثة الماضية التى مرت على جلوس البابا تدشين عدد من الروابط والحركات الشبابية المعارضة للبابا وهو تقليد جديد وخطير وغير متعارف عليه فى الكنيسة حيث يمثل البابا أعلى سلطة روحية تستوجب الطاعة.. وهذا ما دفع المحامى القبطى جورج حبيب لأن يتقدم ببلاغ للنائب العام حمل "رقم 19546 عرائض النائب العام" بتاريخ 15 نوفمبر الماضى، يتهم فيه حركات قبطية وصفحاتها على موقع التواصل الاجتماعى "فيس بوك" بالتحريض على البابا تواضروس وهى "الصرخة للأحوال الشخصية، والصخرة الأرثوذكسية، والأرثوذكس الحقيقيين، وأبناء البابا شنودة الثالث وغيرها". حركات ترفع شعار إرحل وتم التحقيق فى البلاغ المقدم واتخاذ الإجراءات القانونية ضد المتهمين ب "الانقلاب" على البابا، خاصة أن وتيرة الخلاف والهجوم شهدت تصاعدا شديدا، فمن جانبها طالبت جماعة "الصرخة للأحوال الشخصية"صراحة بعزل البابا وتحديد إقامته فى دير بوادى النطرون، وقال إسحق فرنسيس، مؤسس الحركة: إنهم يطالبون بعزل البابا وانتخاب آخر بدلا منه بعدما أخفق فى حل مشاكل منكوبي الأحوال الشخصية". أما جماعة الصخرة الأرثوذكسية فقد اتهمت البابا بمخالفة الكتاب المقدس والظهور ببدعة جديدة وهى التصويت على تعاليم الكتاب المقدس وذلك على خلفية اقتراح بالتصويت على اعتبار الهجر بين الأزواج سببا للطلاق وهو سبب لم يرد فى تعاليم المسيح، وهو ما زاد من حدة الخلاف مع الآباء الأساقفة من التيار المحافظ علي تعاليم الإنجيل بخصوص الطلاق وبين الأساقفة الراغبين في الاستفتاء علي إضافة "الهجر" كسبب جديد للطلاق.. وعددت هذه الجماعة أوجه الخلاف مع البابا فى عدة أسباب وهى"صلاة البابا فى كنيسة تبيح زواج الشواذ، وما تم من تقسيم أسقفية الشباب دون استشارة الأنبا موسي، ومحاولة فرض التصويت علي تعاليم جديدة لم ترد فى المسيحية، ومحاولة البابا فرض توحيد مواعيد الأعياد، وانفصال كنيسة إنجلترا الأرثوذكسية بعد عشرين سنة وحدة". أما جماعة "الأمة القبطية" فقد طالبت الأنبا رافائيل سكرتير المجمع المقدس رسمياً على صفحتها الرسمية بعزل البابا وانعقاد المجمع بدونه. وقالت صفحة الأرثوذكس الحقيقيين التى تضع صورة البابا شنودة كخلفية لها أن "تجاسر بطرك الكنيسة الأرثوذكسية وقام بتعديد أسباب الطلاق لغير علة الزنا فسيعتبر مبتدعا و حينها لا طاعة له"، ورأت جماعة "حماة الإيمان" أن من يتعدد فى أسباب الطلاق كالمحرض على عبادة الأوثان والشذوذ! ولفتت رابطة "أقباط 38" فى بيان لها إلى أن هناك مراكز قوى داخل الكنيسة تقف حائلا بين البابا وبين الشعب، وتهتم بالشكل وإظهار أن كل شيء على ما يرام وهو ما يستفز نضوج الشعب ويأتي بنتيجة عكسية. وحذرت من أن سقوط البابا نظريا في قلوب الشعب أخطر على الكنيسة من الثورات. الشعب يريد زيارة أورشاليم فتحت زيارة البابا الأخيرة للقدس للصلاة على الأنبا أبرام شهية الأقباط للمطالبة بفتح أبواب الزيارة مرة أخرى للأماكن المسيحية المقدسة فى الأراضى المحتلة وهى الزيارة المحرمة منذ نكسة يونيو 1967، ورغم أن الزيارة كانت استثنائية إلا أنها خلقت حالة من الانقسام فى الشارع القبطي.. كان الأقباط يحبون الذهاب لأورشليم "القدس" في موسم الميلاد والغطاس وعيد القيامة.. كانت الزيارة بمثابة حلم العمر لرؤية الأماكن التى عاش بها المسيح وكان للأقباط تواجد في الأراضي المقدسة منذ القرون الأولي، ولهم كنائس وأديرة ومطران وكهنة ورهبان ومدارس وكانوا يسافرون في قوافل كقوافل الحج. عشرون جنيها وتروح القدس بالطائرة رايح جاى.. كانت تلك هى تكلفة الرحلة إلى الأرض المقدسة وفقا لإعلان نشرته مجلة المحبة القبطية فى عدد فبراير سنة 1952، وكان بالإمكان إضافة جنيه واحد فقط للتنقلات الداخلية ودخول كل المزارات كبيت لحم وجبل الزيتون.. كانت هذه الزيارة تتم برعاية رابطة القدس التي أسسها الأقباط لخدمة المقدسين ولها مقر في منطقة الضاهر بالقاهرة وبها كنيسة ومسرح. كانت زيارة البابا قد أعادت سيلا عارما من الذكريات لدى الأقباط وخاصة كبار السن ممن عاشوا فى هذه الفترة، وبعضهم قام بنشر صوره فى القدس، فى الوقت الذى طالبت الكثير من الصفحات القبطية بإعادة النظر فى قرار المجمع المقدس بحظر الزيارة الذى يعود تاريخه لعام 1980، فى حين أبدى آخرون تحفظهم خوفا من كسر حالة التطبيع مع الكيان الصهيونى. المتحدث باسم الكنيسة أغلق من جانبه الأبواب المفتوحة واضعا النقاط على الحروف حيث أعلن فى بيان صحفى أن الزيارة استثنائية والموقف من زيارة القدس لن يتغير، وأن البابا رفض الإقامة فى الفنادق الإسرائيلية ونزل بفندق نوتردام وهو فندق متواضع ودرجة ثالثة وأنه قضى الواجب ثم عاد إلى مصر. حضور تواضروس وكاريزما شنودة الأسباب تبدو متعددة لحالة الخلاف مع البابا تواضروس أقلها المقارنات غير العادلة بينه وبين البابا شنودة.. وثمة أسباب أخرى أكثر عمقا فى أزمة البابا، يرويها لنا بالتفصيل الدكتور كمال زاخر، المفكر القبطى المعروف، ومؤسس التيار المسيحى العلمانى، حيث يقول: البابا تواضروس الثانى فى أزمة حقيقية، وهناك بلاشك من هم داخل الكنيسة ويسعون لإزاحته من موقعه ربما طمعا فى منصبه أو لخلافات ما داخلية، وكانت زيارة القدس الأخيرة هى الفتيل الذى ساهم فى تأجيج وإشعال جانبا من الجدل حول وضع البابا الحالى، لكن الأزمة أكثر عمقا وهنا يجب أن نأخذ فى الاعتبار عدة أشياء، وهى أن البابا تواضروس كان أحد الرموز السياسية التى شاركت فى تقديم مشهد 30 يونيو، وفى يوم 3 يوليو كان يجلس بصحبة شيخ الأزهر والقوى الوطنية فى لقاء إعلان عزل مرسي وتدشين خارطة الطريق، ومن ثم فإن أى خلخلة فى هذا المشهد سيساهم بلاشك فى إسقاط رموز 30 يونيو ولذلك كان البابا محل هجوم بسبب موقفه من تيارات سياسية وإسلامية معارضة، والشيء الآخر والأهم هو أن البابا تواضروس جاء فى ظروف صعبة فقد خلف البابا شنودة على الكرسي البابوى وللأسف هناك مقارنات صعبة بين الاثنين والنتيجة بالطبع فى صالح البابا الراحل لما كان يتمتع به من حضور وكاريزما وتأثير حقيقى فى النفوس، وكان البابا شنودة أيضا قادرا على أن يملأ المشهد الكنسى وهو للأسف ما يفتقده البابا تواضروس الذى يواجه بانتقادات كبيرة عند مقارنته بالبابا شنودة، وللأسف المقارنات تعقد باستمرار وتكون منحازة للبطريرك الراحل، ومن جانب آخر فإن الدائرة القريبة من البابا شنودة من الآباء والأساقفة والكهنة كانوا يتوقعون أن يفز أحد منهم بالكرسى البابوى وهو ما لم يحدث على عكس كافة التوقعات والتكهنات حيث فاز تواضروس الذى جاء من محافظة نائية وبعيدة عن التأثير، ومن ثم فإن مجيئه على الكرسي البابوى كان مفاجأة حملت كل ردود الأفعال وهناك بلاشك صدام خفى بين المقربين من البابا شنودة وبين البابا تواضروس. أزمة الزواج الثاني ويضيف زاخر: أن الكثير من الأقباط، ممن لديهم مشكلة حقيقية مع قوانين الأحوال الشخصية وبخاصة قضية الطلاق والزواج الثانى الذى لا تبيحه المسيحية، يتصورون أن البابا الجديد جاء ومعه عصا سحرية لحل كافة المشكلات العالقة منذ عقود طويلة، وهم معذورون عندما نعلم أن بعض الأقباط يعانون هذه الأزمة منذ السبعينيات وهناك من ضاع عمره وهو يبحث عن حقه فى الزواج الثانى، لكن فى المقابل هناك صخرة من اللوائح البيروقراطية الموروثة داخل الكنيسة وهو لوائح ناتجة عن الميراث الثقيل والعمر الطويل للكنيسة بما يضعها فى خانة المجتمع التقليدى الذى يتقدم ببطء لحل مشاكله، وللأسف البابا لا يملك هذه العصا السحرية لحل هذه المشكلة العالقة وفى الوقت نفسه يتعصب كل صاحب حق لرأيه ومن هنا ظهرت الدعوات الكثيرة لعزل البابا من الداخل لفشله فى حل هذه المشكلة علما بأنها مشكلة قديمة ومتجددة ولم تجد حلا بعد، وشكل المطالبون بالزواج الثانى جماعات ضغط وأصبحوا يشكلون مصدر قلق للبطريرك والكنيسة على السواء. شروط العزل وإذا كان بعض الأقباط المثيرون للأزمات يطالبون بعزل البابا أو "شلحه" وفقا للتعبير القبطى فإن الدكتور كمال زاخر يرى أنه ليس من السهل تحقيق مثل هذه الأغراض، حيث إن شروط العزل لا تتوافر فى حالة البابا تواضروس، حيث يواصل حديثه قائلا: وفقا للوائح والأعراف الكنسية فإنه يتم عزل البابا إذا تحقق فيه أحد هذه الشروط: أولا خروجه من الإيمان سواء بتغيير المذهب الذى يتبعه أو بالانتقال من المسيحية إلى أى دين آخر، ثانيا أن ينحرف إلى واحدة من البدع و"الهرطقات" بمعنى أن يخرج على ثوابت الدين أو وفقا للفقه الإسلامى "أنكر ما هو معروف بالضرورة من الدين"، ثالثا الفساد الكبير وهو ما حدث مع البابا يوساب الثانى ودفع جماعة الأمة القبطية لاختطافه وإعلان الانقلاب عليه، وأخيرا الاصابة بالجنون وافتقاد الأهلية سواء باختلال العقل أو بالعتة، وهذه الشروط لا تتحقق مطلقا فى البابا تواضروس، ومن ثم فإن المشكلات والخلافات بينه وبين الأساقفة لا يمكن أن يترتب عليها عزله من الكرسي البابوى، حيث إن ما يحدث من هجوم متكرر عليه يدخل فى نطاق حرب تكسير العظام، علما بأن الكنيسة تدار من الداخل بشكل ديمقراطى من خلال المجمع المقدس الذى يرأسه البابا وأى قرار يخص الأقباط يتم اتخاذه بشكل ديمقراطى وجماعى ومن خلال التصويت داخل هذا المجمع والبابا وصف نفسه فى هذا الشأن عندما قال" أنا مجرد مايسترو ولا أملك أداة موسيقية". خطف البطريرك ويشير زاخر إلى أن ما فعلته "جماعة الأمة القبطية" مع البابا يوساب الثانى فى الخمسينيات لا يمكن تكراره بنفس الصورة، لأن المؤسسات أصبحت أقوى من الأفراد، وهذه المؤسسات الكبيرة كالكنيسة والأزهر مثلا لا يمكن أن تخضع للعنف أو الابتزاز، وما فعله إبراهيم فهمى، مؤسس هذه الجماعة كان تصرفا استثنائيا جدا حيث قام بخطف البابا يوساب الثانى برفقة عدد من شباب جماعة الأمة القبطية، وقاموا بمحاولة إخفائه لكن البابا عاد من الاختطاف مرة أخرى إلى منصبه وكانت تجربة محكوم عليها بالفشل لكن ما حدث بعد ذلك أنه صدر قرار بعزله من المجمع المقدس لأسباب تتعلق بالفساد، الآن الظروف التاريخية مختلفة تماما وليس فى مقدور أى جماعة ضغط أن تتحكم فى الشارع القبطى وهو الفاعل الرئيسي فى المشهد.