بقلم-جيهان شعراوى: كانت وسيلة التعليم الوحيدة في صيف القرية هي "الكتاب" الذي كان يتولى فيه شيخ المسجد مهمة تحفيظ القرآن لأبناء القرية، ويتولى مهمة تعليم الصغار حفظ الحروف والكتابة قبل سن المدرسة، كان الاعتماد على "اللوح والبوص" للكتابة، فكان اللوح عبارة لوحة معدنية صغيرة "السبورة حاليا" يجب على كل طفل امتلاكها، وتتم الكتابة عليه بأقلام منحوتة من البوص تغمس في الحبر، أو بأقلام "الكوبيا" في مرحلة متقدمة، ويتم محوها أو غسلها بالماء من أجل كتابة " الواجب" الجديد. كان الكتّاب هو مدرسة القرية التي خرجت عظماء أبهروا العالم بفكرهم وعلمهم، مثل عباس العقاد وطه حسين وغيرهما، وأخرج ملايين الأطفال ممن أكملوا رحلة التعليم، وآخرين اكتفوا بقدر بسيط منه بعد أن ألقت الحياة على عواتقهم بأعباء جسام، كان الكُتاب هو الخطوة الأولى لأطفال القرى نحو الالتحاق بالمدارس، وخاصة الأزهر الشريف، وكان أفضل وأسهل وسيلة لمحو الأمية، وكان المقابل الذي يحصل عليه الشيخ زهيدا، ونادرا ما يكون في شكل أموال شهرية بل كان عادة "بالموسم" فيكون للشيخ جزء من حصاد المحصول في مواسم الحصاد، ربما يكون في شكل "شوال غلة أو مقطف ذرة أو قفص من الموالح أو الخضراوات، ولا مانع في الأيام العادية من بعض الهدايا التي ترسل من طعام الدار العادي للشيخ كالألبان والجبن والبيض والفطير، حيث يعلم جميع أهل القرية أن الشيخ لا يملك مصدرا آخر للدخل إلا بعض جنيهات، ربما يقبضها من وزارة الأوقاف نظير إمامته وخطبته للمسجد لو كان معينا به، وكنوع من تقدير جهوده لتحفيظ أبنائهم القرآن الكريم وتعليمهم القراءة والكتابة، إلا أنه مع التطور وزحف مظهر المدنية على القرية، اختفى الكتاب، وعم الجهل وهجر الأطفال حفظ القرآن، وانتشرت في المقابل المدارس والحضانات التي يعد حفظ القرآن فيها مجرد مادة هامشية لا تضاف- أحيانا- للمجموع الكلي، فتراجع التدين الحقيقي في مقابل انتشار التدنى الحقيقي.. وسار المجتمع بالكامل نحو ما نحن عليه. ورغم أني لم أجد في ذاكرتي صورة لي وأنا في الكتاب، حيث كان وقت الأجازات الذي كنا نستغله في اللعب أقصر من أن أنتظم فيه، ولكني كنت شديدة الفضول للذهاب مع أصدقاء الطفولة للكتاب حتى أتعرف على هذا العالم، لأشاهد الشيخ سيد وهو يمسك بالخرزانة لتهويش الأطفال وتخويفهم، وكان يستخدمها من حين لآخر، فقط إثباتاً لهيبته وفرض بعض الرهبة على بعض "العفاريت" الذين يتقنون فن المقالب والشيطنة، ولكن مهما بلغ بهم الاندفاع يقفون في النهاية كالأسرى أمام الشيخ تحت تهديد الخرزانة، يعلنون الندم والأسف، حتى لا تصل الشكوى للأهل في البيت، فينالون عقابا أشد. كانت الفسحة بضعة دقائق، يسرع فيها الأطفال إلى بيوتهم القريبة لالتهام ما يتيسر لهم من الطعام، ويعودون مرة أخرى لاستكمال اليوم "الكُتابي" الذي يبدأ من الصباح الباكر وينتهي مع صلاة الظهر، كان الشيخ سيد معلما من معالم القرية، ومقصدا لكل أطفالها الذين لم يدركوا قيمته، ولم يقدروه حق قدره إلا بعد وفاته، فخلت القرية كلها من شيخ الجامع، وأصبح رفع الأذان إرثا لابنه الذي لم يبق كثيرا في القرية وتركها، لا أذكر هل سافر أم أقام في قرية أخرى بعد ترك الإمامة، واختار أن يصبح تاجرا للمواشي، ولكن ما أذكره أن كل أطفال القرية أصبحوا يعانون من مشقة الذهاب للقرية المجاورة سائرين على أقدامهم قرابة كيلو مترا كل صباح حاملين الشنطة القماش، وفيها لوح الكتابة وقلم الكوبية، ومعهم ما تيسر من خبز وجبن ليتناولوه في أوقات الراحة، فلم يعد بإمكانهم الذهاب للمنزل والعودة مرة أخرى للكتاب، فهي نعمة لم يدركوها إلا بعد رحيل الشيخ السيد.