الكاتب الكبير توفيق الحكيم كانت له مسرحية قديمة عنوانها نهر الجنون .. المسرحية تحكى عن قرية أو بلدة كان نهر كبير يشقها بمياهه العذبة ، وفى أحد الأيام تعرض هذا النهر لكارثة حيث ألقيت فيه مادة معينة بحيث من يشرب من هذا النهر يصاب بالجنون .. وكان بالقرية رجل حكيم علم بهذا الأمر ونصح الناس بأن يتجنبوا النهر وألا يشربوا منه ولكنهم لم يستمعوا لنصيحته وشربوا من المياه فأصيبوا جميعا بالجنون وأصبح هو العاقل الوحيد فى القرية .. وبعد فترة قصيرة من الزمن أصبح الرجل الحكيم غريباً ومعزولاً ولا يجد أى صيغة للتفاهم البشرى مع الآخرين وصار المجانين من حوله للأسف عقلاء فيما بينهم نتيجة حالة التجانس العقلى التى تجمعهم لدرجة جعلتهم يجرون وراءه ويسخرون منه باعتباره حالة غريبة ، وهكذا بات أمام الحكيم أمران .. إما أن يشرب من النهر ويصبح مثل الآخرين بحيث يتجانس معهم أو أن يرفض ذلك الأمر فتزداد غربته ووحشته .. ولكنه فى النهاية قرر أن يصبح مجنوناً فى تقديره لذاته وعاقلاً فى تقدير الآخرين ! خلاصة القصة أنك لا تتأثر برأى الآخرين وأن تكون دائماً مقياساً لنفسك فما يحدد مدى صوابك وخطأك هو أنت وأنت فقط ، لا تنشغل بآراء الآخرين . وعلى فكرة كل من صنعوا التاريخ جاءوا بأفكار أكثر اختلافاً عن رأى الآخرين ومع الاصرار كانوا أكثر تأثيراً . أيضاً هناك أشخاص كثيرون مختلفون عن الأخرين بحكم طبيعة تكوينهم وبحكم اهتماماتهم وهؤلاء أتعس حظاً وأشقى حياةً حيث يعيشون حالة صراع مع الحياة من أجل التكيف مع الآخرين وأحياناً من أجل التعايش معهم .. وأنا واحد من هؤلاء وعلى فكرة هذه كانت مشكلتى طوال حياتى وواضح كده أنه هيبقى ليلتها سوداء اللى هتتجوزنى لأنه ستحتاج قرناً من الزمان حتى تفهمنى ! . وبسبب هذه الشخصية أيضاً خرجت من جميع مراحل دراستى فى البلد بعدد قليل من الأصدقاء .. وأذكر أننى فى الفصل الثالث الثانوى وقفت فى إحدى المرات وسألت مدرسة الفلسفة هذا السؤال : ما الفرق بين العقل والمخ ؟ وكانت النتيجة أننى صرت حكاية ولبانة على كل لسان فى الفصل وفى المدرسة . وهذا الاختلاف لا ينبع من تعالى على الآخرين ولكن ينبع فى الأساس من عدم القدرة على التوحد مع المجموعة حتى لو كانت هذه المجموعة على خطأ أو على صواب . أيضاً فى حياتى العامة أنا لا أحب الجلوس على المقاهى ولا أعشق الاندماج مع الآخرين فى أحاديث الكرة والرياضة أو أحاديث الفنانين فكل ذلك لا يعنينى على الإطلاق والمشكلة أن عقلى الباطن لا يتقبل هذا الكلام ولا يحتمله وإنما ممكن مثلاً يحب يسمع موضوع نقدى حول وضعية الإنسان المعاصر فى ظل التغيرات الإشكالية العالمية يا سلام الكلام ده حلو قوى قوى على قلبى وبرضه مش عارف ليه ؟مع أننى وأنا صغير كنت لاعب كرة جامد جداً بشهادة مدرس الألعاب الأستاذ حسن ملوخية – معلهش هو كان اسمه كده – ولكن رغم كل ذلك أنا أحاول بل وأحياناً أقرأ وأكتب فى هذه المجالات من باب تحدى الذات . برضه أنا مش عارف ليه أنا كده حتى فى الكتب التى بحوذتى ستعجبون من اسمها منها كتاب يتحدث عن الجدلية المعاصرة لرواد مدرسة فرانكفورت الذين استفادوا من اسهامات الماركسية الحديثة وكتاب يتحدث عن السوفييتية والماركسية واللينينية والفابية والنازية وهوكتاب نادر جداً كتبه جورج برنارد شو على جزءين ويحمل عنوان دليل المرأة الذكية وآخر يتحدث عن التفكير العلمى للفيلسوف فؤاد زكريا وآخرعن العدالة الإجتماعية لكاتب مغمور وآخر عن إستراتيجيات الإستعمار والتحرير للدكتور جمال حمدان وغيرها وغيرها .. أيضاً من الغرائب والنوادر أننى أعلق صورة كبيرة للمفكر المصرى الراحل أحمد لطفى السيد فى المندرة اللى عندنا فى البلد فكل من كان يزورنا كان يعتقد أنها صورة جدى الراحل ! والحقيقة أنا حاولت كثيراً جداً أن أفهم جوانب شخصيتى فقرأت فى بعض الكتب الفلسفية المعنية بطرق التفكير وفى النهاية توصلت إلى أننى إنسان جدلى ميتافيزيقى يعنى بالبلدى ينشغل فقط بالموضوعات والقضايا الكبيرة اللى فيها بعد فلسفى ويفكر دائما فى النفس . ويفكر فى العدل والقيم المثالية . وهنا نعود لنظرية نهر الجنون مرة أخرى .. وعندها أتوقف وأقول أننى لست الحكيم الذى يحذر الناس من النهر ولست الناس الذين شربوا من النهر وإنما ربما أكون أنا النهر فى حد ذاته .