في أحد أطراف المدينة مساحة أرض مسورة بسور من الأسياخ الحديدية , لها مدخل تعلوه لافتة قديمة تحمل عبارة : " شركة الأسواق الإنجليزية " .. نتأمل ونحن صغار اللافتة ونعجب لكلمة الإنجليزية هذه , وتثير لدينا مخاوف غامضة , في زمن كان الإنجليز يحتلون فيه بلادنا .. غير أننا لا نري إنجليزا في المكان , ولا نصادف أية قبعة ! ونفهم بعد حين أن المساحة مؤجرة لهذه الشركة , لكي تقام عليها سوق المدينة ونعرف بالتجربة أن بشائر السوق تبدأ مع مساء يوم الأربعاء , حيث يتوافد عي المكان بعض المزارعين وتجار الريف ليبيتوا ليلتهم فيه استعدادا لمعركة البيع والشراء التي تبدأ في الصباح الباكر .. وفي الصباح يزدحم المكان الذي يظل خاليا طوال الأسبوع بمئات من الباعة والمشترين , وعشرات الماشية والدواجن والغلال .. إلخ , ويجلس في مدخل السوق موظفان بالشركة الإنجليزية من أهالي المدينة .. ينظمان دخول الرواد , ويتقاضيان عن كل رأس ماشية تدخل السوق أجرا محددا , ويقطعان التذاكر , ويتجادلان مع التجار الذين يرغبون في تخفيض القيمة .. الخ . ولأن الحاجة هي أم الاختراع .. فلسوف يتحايل بعض الرواد علي دخول السوق بغير دفع ثمن التذكرة لحيواناتهم , فيخلعون بعض قوائم سور السوق في طرف بعيد .. ويتسللون منه بحيواناتهم الصغيرة ! وفي داخل المكان يلتقي الباعة والمشترون .. ويحتدم الجدال بينهم , ويتدخل الوسطاء للتوفيق بين الطرفين لقاء أجر معلوم . ويصل زحام السوق الي ذروته عند الظهيرة , ثم يبدأ في الانحسار , الي أن ينتهي تماما عند الأصيل .. ويغادر المشترون السوق بما اشتروه , ويرجع من لم يحالفه الحظ في بيع تجارته إلي قريته .. وهو يتعلق بالأمل في حظ أفضل خلال موقعة الأسبوع المقبل ! ويخلو المكان تماما من رواده , وتبقي وراءهم مخلفاتهم من بقايا الأشياء , وتصبح أرض السوق بقية أيام الأسبوع , ملعبا للصغار , وميدانا لتدريب فريق المدينة لكرة القدم الذي يزخر بالنجوم الساطعة في سمائنا !.. ويظهر بمجرد انتهاء السوق عند الأصيل رجل نحيل طويل .. هاديء مهذب .. لا يكلم أحدا , ولا يسمع له أحد صوتا .. يذرع المكان ببطء شديد وهو عاقد ذراعيه خلف ظهره , مسددا بصره الي الأرض , كأنما يبحث عن شيء سقط منه .. فيقطع أرض السوق شمالا وجنوبا , وشرقا وغربا في صبر عجيب , وعيناه لا تفارقان الأرض .. ثم ينصرف الي حال سبيله ! ولبقية أيام الأسبوع بعد ذلك سوف يظهر هذا الرجل في المكان , أصيل كل يوم , فيتجول ببطء , عاقدا ذراعيه خلف ظهره , ومدققا النظر في الأرض كأنما يبحث عن شيء لا يجده أبدا .. الي أن تحل عتمة المغرب , وتضعف الرؤية , فيرجع من حيث أتي .. وهكذا .. أسبوعا بعد أسبوع , وشهرا بعد شهر , وعاما بعد عام .. فلا نشهده يوما يعثر عما يبحث عنه أو يأمله .. ولا نراه ييأس أبدا من البحث وتدقيق النظر في الأرض .! وبفضول الصغار نتساءل عما يبحث عنه هذا الرجل الغريب , ويتجرأ أحدنا ذات يوم فيتقدم منه سائلا : ياعم .. ما الذي تبحث عنه؟ !.. هل سقط منك شيء؟ ! فينزعج الرجل للسؤال في البداية .. ثم يسارع بالإجابة في أدب : أبدا .. إنما أنا أتمشي فقط ! فلا تقتنع عقولنا بهذا الإدعاء .. ويثير انزعاجه للسؤال لدينا الإحساس بأنه يتخفي بما يفعل , ولا يريد أن يطلع عليه أحدا .. ويتطوع البعض بتفسير بحثه الأبدي عن شيء لا يجده أبدا , فيقول لنا : إن هذا الرجل كان قد عثر في الأرض عقب انفضاض السوق ذات يوم منذ عدة سنين علي مبلغ من المال سقط خلال الزحام من أحد التجار , فالتقطه واعتبره غنيمة له .. ومنذ ذلك الحين وهو يعاود البحث في الأرض عقب كل سوق , عسي أن يتكرر الحظ السعيد , ويعثر مرة أخري علي مبلغ آخر أو قطعة ذهبية أو أي شيء له قيمة فلا يجد سوي العدم , ولاينقطع في نفس الوقت أمله في العثور علي كنزه المنشود ! وبروح المشاغبة يتنذر عليه الصغار .. ويتهمه البعض بالخبل والجنون . غير أن الأيام تمضي في طريقها المحتوم , وتنضج العقول الصغيرة , وتخوض تجربة الأيام .. فأجدني علي الكبر أتذكر هذا الباحث الدائم في مواقف عديدة من مواقف الحياة .. وأقول لنفسي : ما أشبه الإنسان في بحثه الأبدي عن سعادته التي لا يجدها أبدا بهذا الرجل النحيل الطويل الذي كان يذرع أرض السوق في مدينتي الصغيرة كل أصيل ! وأقرأ أيضاً : الحكاية السابعة والعشرين .. القصيرة ! http://shabab.ahram.org.eg/Inner.aspx?ContentID=2540&typeid=31&year=2010&month=04&day=04&issueid=6