مشهد لم يعد موجوداً بعد تفريق المعتصمين تكتسب الأحداث غير العادية من تكرارها سمات ما هو عادي، حتي تصبح بتوالي التكرار جزءاً من الحياة اليومية لا تلفت الانتباه ولا تثير الدهشة. هكذا تحولت المظاهرات والاعتصامات المحيطة بسور مجلس الشعب ومنطقة دواوين الحكومة في شارع القصر العيني، إلي جزء من الحياة اليومية للمنطقة. فمشهد المعتصمين في شارع مجلس الشعب تحول علي مدي أشهر إلي جزء من جغرافيا المكان وعمارته. فسواء كنت عابراً في الصباح أو المساء ستري قبة المجلس اللامعة والنقش البارز علي جدرانه الذي يؤكد أن "السيادة للشعب" وعلي أبوابه يقف الحرس بأسلحتهم المعلقة علي خصورهم، وعلي الرصيف ينام الشعب بفئاته العاملة، والسيارات الفارهة محشورة في زحام شارع القصر العيني الأبدي، ركابها في التكييف ينظرون إلي المشهد دون أية دهشة. ومن بعيد تبدو اللقطة كلها صورة رمزية معبرة أشد التعبير عن طبيعة الحالة المصرية في اللحظة الراهنة. يبدأ يوم المعتصمين في الثامنة صباحاً، الاستيقاظ ثم الذهاب في وفود متعاقبة إلي دورات المياه الملحقة ببعض محطات البنزين في شارع القصر العيني، ثم تبدأ كل مجموعة في تنفيذ المهام الموكلة لها، أعضاء لجنة الإعاشة يشترون الإفطار الذي يتكون في الغالب من الفول أو الجبنة والكثير من "الخبز" الذي يواجه المعتصمون مشاكل كبيرة في الحصول علي كميات كبيرة منه تكفي لاحتياجاتهم، فطبقاً لتعليمات وزارة التموين المشددة علي أصحاب المخابز لا يجوز صرف كمية كبيرة من الخبز لفرد واحد، لذلك يتحايل المعتصمون علي هذا القرار بإرسال أكثر من شخص لأكثر من مخبز. ثم الاجتماع الصباحي والنقاش حول الخطوات القادمة، وكما يوضح خالد طلعت من شركة "امنيستو": كنا نعتمد في نقاشاتنا وإدارة فعاليات الاعتصام علي الشوري، حيث يتم طرح كل الآراء، ومن الطبيعي أن تظهر الخلافات بين المعتصمين لكننا من خلال الشوري والنقاش نحاول التوصل إلي حلول وسط، كما يكون الاجتماع الصباحي فرصة لمعرفة آخر الأخبار وردود الأفعال علي الاعتصام، ويتم فيه أحياناً كتابة البيانات التي تشرح وتوضح موقفنا، وتوزيعها علي الصحفيين والإعلاميين. ومع بداية توافد العاملين في مجلس الشعب ومجلس الوزراء والمصالح الحكومية المختلفة في التاسعة صباحاً تبدأ الفقرة الثانية، التظاهر وترديد الشعارات وقرع الطبول. تعلو صيحات الهتاف والأغاني الحماسية. يتوافد الصحفيون ومراسلو المحطات التلفزيونية ووكالات الأنباء المحلية والعالمية، يتكثف الوجود الأمني، قد تحدث بعض الاحتكاكات بين المتظاهرين والأمن، فيصعّد المعتصمون من هتافاتهم، تعلو أصواتهم أكثر. " يا بلادنا يا بلادنا ..مش لاقيين قوت ولادنا" تخفت موجة الهتاف، فيظهر شخص جديد ليبدأ في ترديد الهتافات بحماس أكثر ليشعل الحماس الذي قد يخفت بفعل حرارة الشمس ورطوبة الجو وتراب الشارع والضجر من التكرار. الاعتصامات تكون فرصة ليكتشف المعتصمون مواهب مختلفة داخلهم لم تصادف الظروف المناسبة لتفتحها، بعضهم يكتب القصائد الهزلية الأقرب للشعر "الحلمنتيشي"، في امتداد تاريخي لاستخدام الإنسان المصري للشعر والقوالب الأدبية في رفع شكواه إلي المسئولين كأن لعنة "شكاوي الفلاح الفصيح" قدر أبدي لمواطني هذا البلد. كما أن نشاط المعتصمين لا يقتصر علي الهتاف والأغاني الحماسية، بل يمتد إلي تصميم اللافتات التي تحمل شعارات كل مجموعة وهكذا تتجاور لافتات عمال شركة الخدمات البترولية التجارية "بتروتريد" مع عمال شركة النوبارية و"المصرية لصناعة المعدات التليفونية" وعمال جهاز تحسين الأراضي وحتي موظفي مراكز المعلومات، وبجانب اللافتات المكتوبة توجد اللافتات المرسومة بشكل كاريكاتيري والتي يظهر في أغلبها رجل الأعمال وأمين الحزب الوطني أحمد عز في دور البطولة كنموذج للشر وعدو العمال الأول، بعض الرسومات تشبه "الكومكس" حيث عز مرسوماً باللون الأحمر وبالونة حوار تخرج منه مكتوب فيها "أنا أحمد عز الحديد". عند حدود الساعة الرابعة تمتلئ شرائط المصورين بالمواد المسجلة التي تصل إلي بضع ساعات، فيرحلون علي أمل استخلاص بضع دقائق يتم بثها في تقرير تلفزيوني، وسط دقائق أخري لمظاهرات في فلسطين أو العراق. تختفي أيضاً كاميرات المصورين الفوتوغرافية، يرحل الموظفون والمسئولون تحت حماية وتأمين رجال الأمن وعرباتهم المصفحة، تخفت حناجر العمال. يأتي الغذاء في بعض الأحيان من تبرعات لجان الإعاشة التي تشرف عليها بعض المنظمات الحقوقية، أو من تبرعات العابرين وسكان المنطقة التي تتنوع بين وجبات رخيصة لا تتعدي سندوتشات الفول والطعمية أو أموال لا يستطيع المعتصمون رفضها تحت وطأة الحاجة والعوز. بعد تناول وجبات الغداء البسيطة يعود المعتصمون إلي منازلهم وهي موجودة علي بعد خطوة للخلف بجوار سور مجلس الشعب. فمع طول فترة الاعتصام يتحول الرصيف إلي منزل جديد ويتم تكييفه لكي يفي باحتياجاتهم اليومية، فأسنة عمدان السور الحديدية يتم تحويلها إلي "شماعات" لتعليق الحقائب و"الشنط" البلاستيكية التي قد تحتوي علي القليل من الطعام، بعض الملابس، ملاءات وبطاطين. وبهذا يتحول السور الحديد إلي دولاب للملابس، أما الأرض فيتم فرشها بالحصير، مع إخلاء مساحة صغيرة لوضع "سبرتاية" لعمل الشاي. مع غروب الشمس تأتي أصعب مراحل الاعتصام، فموجات البرد التي تشتد ليلاً لا يستطيع المعتصمون اتقاءها بأغطيتهم القليلة التي يفترشون بها الشارع. لا ينام المعتصمون جماعة، بل مثل جيش صغير في معركة كبيرة، يتم تقسيم فترات النوم إلي دوريات، مجموعة تنام، ومجموعة تسهر لحراسة النائمين، وبالتبادل تنقضي ساعات الليل في جلسات الحكي والسمر، تحت حراسة جنود الأمن المركزي الذين مع خفة الضغط عليهم من قبل الرتب الأكبر يبدأون في التملل، وفي خوض الأحاديث مع المعتصمين "أنت منين يا دفعة"، "يا راجل أنت عارف أنا الجيش بتاعي برضه كان في بني سويف". عساكر الأمن المركزي هم دائماً الأقرب إلي المعتصمين يحكي أحدهم "دول غلابة طول اليوم واقفين علي رجليهم من غير حتي شربة مياه" في اعتصام أهالي طوسون أمام وزارة الزراعة قام المعتصمون بوضع "جركن" مياه كتب عليه "ماء سبيل.. للأخوة عساكر الأمن المركزي، إهداء من أهالي طوسون". حينما سألت أحد المعتصمين حول ما إذا كان هناك أي نوع من المشادات تحدث بينهم وبين جنود الأمن المركزي، قال "دول إخواتنا الصغيرين، بيصعبوا علينا بالليل وهما واقفين في البرد، أنا شفت بعيني واحد منهم بينام وهو واقف علي رجليه" غالباً ما تأتي التحرشات من رتب أعلي وتتوقف كما أوضح أحد المعتصمين الذي رفض الإفصاح عن اسمه علي الإهانات اللفظية في اللحظات التي تحتدم فيها المشادات. تضع قوات الأمن خطوطا حمراء للمعتصمين عند تجاوزها يتم مواجهتهم بشتي الطرق حتي لو كان استخدام العنف إحداها، في أحد الاعتصامات حاول المعتصمون نصب خيمة علي الرصيف فتدخل الأمن وقام بهدم الخيمة، فنصب الخيم أو تجاوز الرصيف يظل خطاً أمنياً أحمر لا يمكن تجاوزه. في نفس الوقت الذي تستمر اعتصامات العمال والموظفين المصريين في شارع مجلس الشعب، دعت عدد من القوي السياسية إلي تنظيم اعتصام في شارع حسين حجازي حيث مقر مجلس الوزراء لإجبار الحكومة علي رفع الحد الأدني للأجور إلي 1200 جنيه وذلك يوم 2 مايو الماضي. المقارنة بين اعتصامات العمال في شارع مجلس الشعب والاعتصام الذي فشل وتحول إلي مظاهرة لبضع ساعات في شارع حسين حجازي يكشف حجم الإصرار والتنظيم الذي يسم مظاهرات العمال واحتجاجاتهم وحجم العشوائية والفوضي التي تطغي علي مظاهرات واعتصامات النخب السياسية حيث أكثر من شعار، وأكثر من علم، وأكثر من لافتة بداية من "الاتحاد النسائي التقدمي"، وحتي "حزب الكرامة تحت التأسيس" وحتي الهتافات التي كان يرددها المعتصمون في مظاهرة حسين حجازي لم تخل من الأخطاء "120 ورقة بمدنة" وهو ما يعني 120 ورقة فئة المائة جنيه أي 12 ألف جنيه، وليس 1200 كما هو شعار المظاهرة الأساسي. وفي الوقت الذي تراجع فيه أعضاء مجلس الشعب وأحزاب المعارضة عن تنظيم أكثر من مسيرة سياسية احتجاجية أخري تفادياً لغضب الدكتور أحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب. تم تفريق المعتصمين وإخلاء الموقع ليعود رصيف مجلس الشعب هادئا!