شحوب لون وجهه وجسمه النحيل يدفعانك لأن تقف أمامه وتنظر إليه بدقة و تمعن فى ملامحه و تفاصيل جسده وتطرح بداخلك تساؤلات عن حالته و عن الفاجعة التى ألمت به لتوصله لهذه الدرجة من الحزن والإنكفات على الذات بشكل يدفعه للإستغناء عن كل ما يحيط به ليصل الأمر به لحالة زهد من الحياة .. صوته الملىء بالحزن و الأسى يخطفك و يشدك نحوه لتجلس أمامه دون أن تحرك رمشا أو تلتفت يمينا أو يسارا يجذب عينيك و كل حواسك لتركز معه كأنك تشاهد فيلما مرشح لجائزة الأوسكار .. نظرات عينيه تدعوك لتقرأ ما بداخلها لدرجة تجعلك تشعر بالتوهان لعدم قدرتك على تفسير ما بها .. لكن كلامه عن محبوبته و مشاعره التى لا يستطيع أن يخفيها و الدموع التى تنمهر من عينيه كلما ذكر إسمها أو موقفا حدث بينهما تجعلك تشعر وأنك تعيش فى زمان غير زماننا طغت عليه الماديات و التكنولوجيا و لغة المصلحة و لم يعد نجد فيها ما يسمى بالحب الأفلاطونى .. بطل قصتنا هو محمد سمير لم يتجاوز عمره 23 ربيعا لكن ملامحه تظهر غير ذلك .. نشأ و تربى داخل أسرة بسيطة بحى المنشية بالأسكندرية لأب يعمل صانع أحذية و أم بسيطة كل همها هو زوجها و إبنها الكبير محمد وشقيقته الصغرى .. هذه الأسرة البسيطة لم يخطر ببالها أن تكون حياة إبنها مليئة بالمآسى و الصعاب كما حدث له .. كره الجنس الآخر محمد لم يكن إنسانا خارقا و لم يكن شخصا غريبا بين زملائه بل هو شخص عادى يحمل بداخله أحلام .. لكنه لم يتخيل أنه فى يوم ما سيتحول كرهه الشديد للجنس الآخر لهذه الدرجة من الحب .. لم يحلم بأن تآسره فتاة وتمسك بتلابيبه ليعيش معها قصة حب أقل ما توصف به أنها خرافية أو أنها قصة و لا فى الأحلام .. كره محمد للجنس الآخر لم يكن بسبب عقدة نفسية أو لفشله فى تكوين علاقات مع الجنس الآخر بل كان لسبب آخر فهو كشاب تربى فى مجتمع شرقى و أسرة تعرف جيدا العادات و التقاليد كان يتضايق كثيرا من المشاهد التى يجدها من بعض البنات سواء فى اللبس أو فى الإنحرافات الأخلاقية .. ودائما ما كان يستفزه مشاهدة شخص يسير أو يجلس بجوار فتاة فى الشارع و يتحول الكلام بينهما إلى علاقات غير شرعية و كأنهما متزوجان .. كرهه للبنات لم يكن سببه ذلك فقط بل لأنه كان يرى أنهما السبب الأكبر فى كل المشاكل و الخناقات التى تحدث بين الشباب و الطلاب فى المدارس و الجامعات .. عموما محمد تكونت عنده عقدة من البنات .. نعمة كلمة السر " نعمة " هى كلمة السر أو الترياق الذى أنقذ محمد من عقدة البنات لكنها فى النهاية كانت السم الحلو الذى أرقده فى حلم لا يستطيع أن يصل إليه وفى نفس الوقت لا يملك أن ينساه .. علاقة محمد بنعمة لم يكن مخطط لها من كلا الطرفان فلم يحلم أحدهما بالإرتباط بالآخر لأسباب عديدة أهمها العامل المادى الذى كان يقف عائقا أما طموحات محمد ثانيا الرغبة فى تكوين علاقة عاطفية .. لكن الرياح دائما تأتى بما لا تشتهى السفن .. فقد تكررت زيارات محمد و أخته لنعمة بحكم الجيرة و الصداقة التى تربط نعمة بشقيقة محمد .. الزيارات كانت عادية و الكلام بينهما لم يكن يتطرق لأى عواطف لكنهما كانا يتحدثان مع بعضهما البعض فى أمور عادية و يحكى كلا منهما للآخر بعض المشاكل و الهموم فى هذا الوقت كان عمر محمد 18 عاما وكان يستعد للإلتحاق بكلية الهندسة جامعة إلمنيا ، نعمة أيضا كانت تستعد للإلتحاق بأحد المعاهد العليا الخاصة .. المهم توالت الزيارات دون أن يعرف أحدهما أن هناك بركان خامد لكنه ينتظر من يوقظه من ثباته العميق .. الصدفة حولت الصداقة لحب و فى يوم و ليله تتغير الأحوال وتتبدل الصداقة و الجيرة لحب و يتحول الشاب الخجول إلى بطل همام و تتوه الحمرة التى كانت ترتسم على خديه إلى جرأة لم يعهدها فى نفسه من قبل .. تسافر نعمة لزيارة أقاربها فى الفلاحين و تتحول السفرية إلى منشط ليثير البركان الخامد داخل محمد .. غابت نعمة ليوم و إثنين و ثلاثة زادت المدة لأسبوع تخطته لشهر وهو يتسأل عن السبب لكنه لا يفهم ما يحدث و لا يستطيع أن يبوح لأحد عن ما يدور بداخله حتى أنه لا يستطيع الإتصال بها لدرجة أنه وصل لحالة من التوهان و كاد يشعر بإنتهاء حياته بسبب أن دائما مخنوق و كأن الزمان توقف به .. لكن سرعان ما عادت حياته للتحرك من جديد فقد عادت نعمة بعد شهر غياب .. عادت و لا تعرف ما ينتظرها و لا تتوقعه .. لم ينس محمد هذا الموقف طيلة حياة و لن ينساه لكنه لا يعرف كيف فعل ذلك فقد تخيل أن شخصا غيره هو الذى قام بالمهمة .. فبعد أن رجعت نعمة من سفرها شعر محمد بالإرتياح و سرعان ما إستعجل شقيقته ليذهب لزيارة محبوبته و بمجرد أن تقابلت عينيه مع عيناها لم يشعر بلسانه وهو ينطق كلمة وحشتينى و لم تكد نعمة تفيق من الصدمة إلا و محمد يصدمها بكلمة أخرى ويقول لها أنا بحبك ليترك المكان دون إستئذان .. ترك المكان ليس خوفا و لكن خجله الذى عاد إليه بعد أن تخلى عنه للحظات .. ثلاثة ايام مرت على هذا اللقاء الذى إعتبره محمد إما أن يكون شهادة ميلاد لحياة جديدة سيخوضها أو شهادة وفاة لصداقة كان يتمنى أن لا يخسرها .. مرت الثلاث أيام و محمد يفكر فيما فعله هل أخطأ أم أن هذا هو عين الصواب .. لم يجد أمامه بديلا سوى أن يذهب إليها مرة أخرى ليعتذر لها عن ما قاله لتفاجئه هى الأخرى بردها .. بعد ثلاثة أيام ذهب محمد لنعمة و أعتذر لها عن ما بدر منه و ما قاله لها وقال لها : لا أعرف من أين أتت لى هذه الشجاعة و أخذ يبرر لها موقفه لتقطع هى كلامه بكل ثقة و ترد عليه أنا فكرت فى الموضوع كويس و أنا أيضا أبادلك نفس الشعور و أحبك لكنى كنت منتظره أن تبدأ أنت بالكلام .. ضحى بالهندسة من أجل نعمة هذه ليست النهاية مثلما يحدث فى الأفلام العربى بل هى البداية وقتها تخيل محمد أن الدنيا فتحت له ذراعيها ليطير فيها بلا أجنحة لم يتوقع أن يسقط ابدا أو يقف شيئا عائقا أما تحقيق حلمه بعد أن كسرت نعمة عقدته مع البنات ووجد هو الآخر ضالته التى كان ينشدها .. لذلك لم يكن فى موقف يحسد عليه كلاهما أخطر من الآخر إما أن يضحى بمستقبله الدراسى و إما أن يترك حبه يضيع منه !! هنا وقف محمد أمام مفترق طرق بين خيارين كلاهما مر لابد أن يترك أحدهما لكن كلاهما لن يتحقق له فى وجود الآخر ، لكنه أخذ القرار و فعل ما لا يستطيع كل الشباب أن يفعله ترك دراسته !! ترك كليه الهندسة من أجل نعمة وضع مستقبله العلمى و المهنى تحت قدمه من أجل محبوبته .. ترك محمد الكلية لأن أسرته بسيطة لا تستطيع أن توفر له تكاليف الكلية و فى نفس الوقت تكاليف الزواج كما أن محمد كان هو المتكفل لمصاريف نفسه فقد كان يعمل فى فترة الدراسة و يساعد أسرته فى تحمل أعباء المعيشة .. أخذ محمد قراره بترك الكلية عرض الأمر على نعمة فقابلته بعاصفة من الرفض وقالت له أنها ستنتظره مهما طال الزمان لكنه أقنعها فى النهاية بأن أحواله المادية لا تسمح له بأن يستمر فى الدراسة فهو سيعمل ليوفر أموالا حتى يستطيع الزواج منها ، وبالفعل بدأ محمد رحلة الكفاح ليجهز نفسه حتى يحقق حلمه مع محبوبته فكان يعمل فى كافتيريا من بداية النهار حتى الرابعة عصرا يحصل و من السادسة مساء حتى الثانية عشر بعد منتصف الليل يعمل فى سنترال .. شقة وكمان شبكة بعد سنة واحدة وضع محمد لنفسه خطة و قرر أن يتقدم لخطبة نعمة بعد سنة من إعلان كلاهما حبه للآخر و بالفعل بدأ محمد يعمل ليل نهار ولم يكن يعرف شيئا سوى العمل و النوم لساعات محدودة حرم نفسه من كل شىء عمل فى مهن عدة "شيال" رمل سباك و غيره الكثير ، لم يمر عام حتى تمكن من دفع مقدم لشقة تمليك .. ليس هذا فقط بل تمكن محمد من جمع ثمن الشبكة كل هذا لا تعرف عنه نعمة شيئا ، وفى أحد الأيام خرج محمد مع نعمة و تقابلا معا فى كافتيريا دهب بمنطقة سيدى بشر و التى شهدت أول لقاء بينهما وكانت المكان الرئيسى الذى يجمعهما و بعد أن شربت نعمة عصير المانجو الذى كانت تحبه .. نظر إليها محمد بإبتسامة رقيقة وقال لها فى مفاجأة و أخرج لها عقد الشقة و كادت نعمة تطير من الفرحة لكن صمتت للحظات و تغيرت معالم وجهها لتبدى زعلها من حبيبها فأخبرها أنه فعل ذلك كمفاجأة جميلة لها ، فرحت نعمة و إزداد فرحها عندما أخرج لها محمد دفتر توفير و أخبرها بأن جمع فلوس الشبكة و أنهما سيذهبان معا لسحبها لتخبر هى والدها و يخبر هو أسرته ليتقدم غدا لخطبتها فلوس الشبكة إتحرقت تركت نعمة حبيبها والدنيا ترقص أمام عينها لم تكد تصل لعمارتها التى تبعد بضع مترات عن عمارة محمد حتى سمعت صوت الصراخ بسبب الإنفجار الهائل الذى حدث فى المنطقة لتنزل للشارع مهرولة لتجد الكارثة التي ألمت بحبيبها .. كل شىء ضاع فى لمح البصر .. محمد نجا من الموت بأعجوبة .. بمجرد دخول محمد لبيته ودخوله الحمام إنفجرت أنبوبة الغاز فى المنزل لم يشعر إلا و النار تدخل عليه الحمام ليصاب بحروق فى جسده ويحرق المنزل تماما ويحترق معه تحويشة العمر التى كان ينوى محمد أن يحضر بها الشبكة لحبيبته نعمة .. المهم أنه بعد أن أصيب محمد فى الحريق ذهبت معه نعمة للمستشفى ولم تفارقه طوال 6 شهور هى فترة علاجه كانت حريصة على إطعامه بنفسها و إعطائه الأدوية .. بعد أن تعافى محمد و عاد ليقف على قدميه بدأ رحلة كفاحه مرة أخرى ليجمع أموال الشبكة و تكاليف الزواج وبدأت لقاءاتهما تعود من جديد لقاءاتهما على الكورنيش لم تنقطع ومقابلاتهما فى كافتيريا دهب لم تنته بعد ، لكنها لم تستمر فقد إنقطعت المقابلات فجأة ولم يعد العاملين بالمقهى ولا رواده الذين تعودوا مشاهدة نعمة و محمد و شهدوا ولادة قصة حبهما لم يعد يشاهدون الشاب و حبيبته .. لماذا ؟! ماتت نعمة !! ماتت نعمة .. نعم نعمة التى لم يتخط عمرها العشرين ربيعا لاقت ربها صباح يوم 30 / 2 / 2007 .. هاتف محمد يرن صديقة نعمة تخبره بأن نعمة تعرضت لحادث أثناء ذهابها للمعهد فقد صدم الترام الميكروباص الذى كانت تقله نعمة وعدد من صديقاتها هرول محمد إلى المستشفى و كل ما يشغل باله هو ماذا يستطيع أن يفعله لينقذ حبيبته لديه إستعداد تمام أن يتبرع بأى جزء من أعضائه لتعيش هى وهو يموت بدلا منها دخل للطبيب وقال له مستعد أعمل أى حاجة لتعيش هى لكن القدر كان أسرع لم يصدق محمد ما قاله له الدكتور بأن نعمة فارقت الحياة ليصف محمد هذا اليوم بأنه أسود يوم فى حياته .. ماتت نعمة لكن حبها لم يمت من قلب محمد فارقت الدنيا لكن روحها و صورتها لم تفارق خيال محمد .. القصة لم تنته ! القصة لم تنته بعد لأن محمد لم يضع لها نهاية فهو مازال يتذكر أول لقاء يتذكر أول هدية أحضرها لنعمة عندما اشترى لها ملابس و أول هدية أحضرتها له وهى ميدالية فضة مكتوب عليها إسمه مازال يذكر إحتفالهما معا بعيد ميلادها ما زال يتذكر التاريخ الرابع من أغسطس .. القصة لم تنته عند هذا الحد فمحمد مازال يتقابل مع نعمة يذهب إلى قبرها كل يوم جمعة بعد الصلاة و يجلس معها لمدة ساعتين يتحدث معها و يشكو لها همومه هو متخيل أنها تعيش معه و أن روحها لم تفارقه ليس هذا فحسب بل إنه كلما جد جديد فى حياته يذهب لنعمة و يحكى لها .. محمد لا يريد أن يضع نهاية لقصة حبه ولا يريد أن يحب مرة أخرى لأن كل البنات بالنسبة له نعمة محمد أنهى حديثه معنا و الدموع تنهمر من عينه مؤكدا أنها لم تجف منذ مفارقة نعمة و أنها لن تجف أبدا .. فكم محمد بيننا الآن ؟ و هل يوجد نعمة تستحق هذا الحب ؟!