( التاريخ يعيد نفسه من جديد ) .. هذه هي الجملة الأكثر منطقية التي تملك أن تقولها عندما تقرأ عن قضية المصروفات السرية والتي اتهم فيها عدد من عمالقة الصحافة المصرية سنة 1952 , وفي الوقت نفسه تقارنها بقضية ظهرت بعدها ب60 عاما وهي الخاصة بالتمويل الأجنبي والمتهم فيها عدد من منظمات المجتمع المدني .. القضية الأولي عرض فيها إحسان عبدالقدوس ومحمد التابعي وفاطمة اليوسف وآخرون للاتهام بتلقي أموال من الخارج لتخريب البلاد والكتابة ضد الثورة , وانتهت القضية كما بدأت ولم يتم إدانة أي صحفي , وفي السطور القادمة سنعرض تفاصيل هذه القضية ونترك لكم حرية اختيار ما إذا كانت قضية تمويل منظمات المجتمع المدني سوف تنتهي بنفس الشكل .. أم ستكون النهاية مختلفة ؟ ! الحكومات الحزبية التي توالت علي حكم مصر قبل ثورة 23 يوليو 1952 كانت تسعي للدعاية لنفسها من خلال شراء بعض الصحفيين بالمال , ووصل الأمر إلي وضع أسماء هؤلاء الصحفيين في كشوف واضحة أطلق عيلها في هذا الوقت اسم ' مساعدات اجتماعية ' أو إعانات ... وأحيانا تسمي مكافآت لبعض الصحفيين , وكان هؤلاء الصحفيون يتوجهون في أول كل شهر لتسلم المبالغ التي كانت مقررة لكل واحد منهم من خزينة وزارة الداخلية , بل وصل الأمر الي شكل شرعي جعل بعض الصحفيين يوقعون بأسمائهم في هذه الكشوف وبإمضاءات شخصية في كشوف هذه ' المصاريف السرية ' اعترافا منهم بتسلم ما كانت الحكومة تخصصه لهم , وكما ذكر الأستاذ جلال الدين الحمامصي في كتابه ' حوار وراء الأسوار ' فإن الغريب في المصروفات السرية أن البرلمان ممثلا في مجلسي الشيوخ والنواب كان يوافق علي هذا البند الخاص بالمصروفات السرية عند مناقشة الميزانية بدون أي اعتراض أو تحفظ , وكانت تختلف قيمتها من وزارة إلي أخري , وإن كانت تتراوح ما بين 150 ألفا وحتي 250 ألف جنيه في السنة الواحدة , وذكر أيضا أنه كان لكل حكومة قائمة بأسماء الصحفيين الذين يحصلون علي هذه المصروفات السرية , وكان بعض الصحفيين قاسما مشتركا في قائمة كل الحكومات . وحدث تحول كبير في المصروفات السرية عندما تولي توفيق نسيم باشا رئاسة مجلس الوزراء في عام 1935 , فقد كان شرطه الرئيسي لقبول تولي منصب رئاسة الحكومة هو إلغاء المصاريف السرية من ميزانية الدولة , وعندما اتخذ قرار الإلغاء , لم يرق موقفه للذين كانوا يتقاضون هذه المصاريف السرية .. فأخذوا يتصيدون الأخطاء لوزرائه ويهاجمونهم ; حتي يظهروه بموقف العاجز عن تولي منصب رئيس الحكومة . وعندما مرض نسيم وسافر إلي النمسا للعلاج تعرض لحملات صحفية حول ما ادعوه بخصوص قصة حب بين رئيس الوزراء العجوز وممرضته الشابة النمساوية ماري هوبكنز , وتعرض الرجل المريض لطعنات من الأقلام المسمومة , ولقي ما لم يلقه أحد من رؤساء الوزراء قبل الثورة , بالرغم مما كان معروفا عنه من نزاهة وأمانة . وكان للقصر الملكي قائمة تشمل عددا من الصحفيين الذين كان يطلب من رئاسة مجلس الوزراء ووزارة الداخلية أن تدفع لهم مبالغ شهرية ضخمة من ميزانية المصروفات السرية , وكان أبرزهمكريم ثابت المستشار الصحفي للملك فاروق وإدجار جلاد الصديق الشخصي له وصاحب جريدتي ' الجورنال دي إيجيبت ' والزمان , وكان كلاهما يحصل علي 1000 جنيه شهريا , ويروي الحمامصي بداية ظهور قضية المصروفات السرية بعد قيام ثورة 1952 بعشرين يوما , ففي 13 أغسطس 1952 دعا محمد حسنين هيكل لتطهير الصحافة في مقال نشره في ( آخر ساعة ) جاء فيه : إني أقولها بصراحة وأنا أعتقد أنها ستجلب لي متاعب الدنيا والآخرة إن بلاط صاحبة الجلالة في حاجة إلي تطهير كبير , إني لا أطالب بالحد من حرية الصحافة بل العكس أنا أعتقد أن الصحافة الحرة هي المعني الوحيد للديمقراطية , ولكن اسمعوا ما حدث في إنجلترا , وإنجلترا هي بلد حرية الصحافة مهما اختلفنا في الرأي حول سياسة الإنجليز , بعد الحرب العالمية الأخيرة ثار في مجلس العموم لغط حول الصحف البريطانية واتجاهاتها وقرر مجلس العموم تأليف لجنة برلمانية لفحص حالة الصحافة البريطانية ولهذا يجب تطهير أنفسنا قبل تطهير الآخرين ). وفي نفس العام دعا عباس محمود العقاد إلي تطهير عالم الكتابة في مقال بمجلة الهلال عدد نوفمبر 1952 بعنوان : ' عالم الكتابة والكتاب في حاجة إلي التطهير ' , وعالم الكتابة يشمل الكتابة في الصحف كما يشمل كتابة المصنفات والرسائل وكل كتابة منشورة علي العموم , مستلهما ما جاء في مقال هيكل من أفكار بعدما أضاف إليه المسئولية الاجتماعية لجماهيرالقراء في محاسبة كل كاتب علي كذبه وزوره وتضليله للرأي العام وأكد العقاد ضرورة فضح الأقلام المأجورة التي تسخرها الدول الأجنبية جواسيس علي أوطانها لتفسد سياسة أوطانها وتخدم مصالح تلك الدول . وبعد شد وجذب أصدر مجلس قيادة الثورة في 15 أبريل سنة 1954 قرارا بحل مجلس نقابة الصحفيين .. ثم أذاع مجلس قيادة الثورة قائمة نشرتها الصحف اليومية في صفحاتها الأولي في اليوم التالي بأسماء 23 صحفيا , عثر علي وثائق ومستندات تثبت تقاضيهم لهذه المصروفات السرية , وهم : حسين أبو الفتح ( نقيب الصحفيين ) مصطفي القشاشي ( سكرتير عام النقابة ) أبوالخير نجيب ( رئيس تحرير الجمهور المصري ) إحسان عبد القدوس ( رئيس تحرير روزاليوسف ) فاطمة اليوسف ( صاحبة مجلة روزاليوسف ) قاسم أمين ( زوج فاطمة اليوسف ) مرسي الشافعي ( عضو مجلس نقابة الصحفيين ومدير تحرير جريدة المصري ) ألبرت مزراحي ( صاحب جريدة التسعيرة والصراحة محمد عبد المنعم رخا ( عضو مجلس نقابة الصحفيين ) دكتور إبراهيم عبده ( أستاذ الصحافة دكتور حسني خليفة ( صاحب أول وكالة مصرية للأنباء ) كامل الشناوي إدجار جلاد ( صاحب جريدتي الجورنال ديجيبت والزمان ) كريم ثابت ( رئيس تحرير المقطم والمستشار الصحفي للملك السابق أحمد حسين ( المحامي ورئيس الحزب الاشتراكي وصاحب مجلة الاشتراكية ) عبد الرحمن دنيا ( عضو مجلس نقابة الصحفيين ) عبد الرحمن الخميسي ( الكاتب بجريدة المصري ) عبد الشافي القشاشي عبد الرحمن زايد ( المحرر بجريدة المصري ) أحمد محمود علي عصفور محمد خالد ( عضو مجلس نقابة الصحفيين ) محمد علي غريب ( عضو مجلس نقابة الصحفيين ) نعمة الله غانم . كما نشرمجلس قيادة الثورة في نفس الوقت قائمة أخري بأسماء الصحف والمجلات التي تقاضت مصروفات سرية وبيانا بالمبالغ التي حصلت عليها وهي : مجلة روزاليوسف 19281 جنيها , جريدة الجمهور المصري وكان صاحبها هو أبو الخير نجيب 2808 جنيهات , مجلة الصباح وكان صاحبها هو مصطفي القشاشي سكرتير عام نقابة الصحفيين 7222 جنيها , جريدة الأساس وهي الجريدة التي كانت لسان حال الهيئة السعدية 48000 جنيه , جريدة البلاغ وهي جريدة مسائية كانت معارضة للوفد ثم أصبحت مؤيدة له بسبب هذه المصاريف السرية 7900 جنيه , جريدة صوت الأمة وهي جريدة وفدية 2900 جنيه , جريدة النداء وهي جريدة أسبوعية وفدية 2200 جنيه , جريدة الحوادث وهي جريدة أسبوعية 4550 جنيها جريدة السوادي 25250 جنيها , جريدة السياسة وهي جريدة ناطقة بلسان الأحرار الدستوريين 15500 جنيه , جريدة الدستور 3900 جنيه , جريدة بلادي 5300 جنيه , جريدة التسعيرة والصراحة 1000 جنيه جريدة المقطم 7198 جنيها , جريدة الزمان 12500 جنيه . وبعدها انتهت القضية كما بدأت .. ولم يتم محاسبة هؤلاء الصحفيين أو إدانتهم بأي شكل , والآن وبعد مرور 60 عاما علي قيام ثورة 1952 يعيد التاريخ نفسه مع قضية التمويل الأجنبي لمنطمات المجتمع المدني , ويظل وجه التشابه بين قضية التمويل الأجنبي والمصروفات السرية أن كليهما جاء في ظروف استثنائية وعقب ثورات , ويعلق الكاتب الصحفي صلاح عيسي علي ما سبق قائلا : قضية التمويل الأجنبي سياسية من الطراز الأول , وهي عكس ما صورت الصحف تماما من أنها انتهاك للسيادة المصرية , فكما يقول المثل العربي تمخض الجبل فولد فأرا , وهي بالفعل تشبه قضية المصروفات السرية تماما خاصة وأن الصحف التي صدر ضدها إدانة في هذه القضية هي التي كانت تنشر حملات ضد مجلس قيادة الثورة وقتها , والقضية نفسها بها ملابسات غير مفهومة حتي الآن , فالموضوع كله كان هدفه فضيحة سياسية وتشويها لسمعة الصحفيين والانتقام من روزاليوسف , وكل ما أثير وقتها هو شبيه بما قيل عن كم الأموال التي تلقتها منظمات المجتمع المدني , فكان يقال إن هناك ' شنط فلوس ' تأتي لمصطفي وعلي أمين في الأخبار من القصر الملكي وأمريكا وبالطبع هذه روايات أمنية , لكن لم يأت اسماهما في قضية المصروفات السرية بسبب تأييدهما للثورة , وهذا ما حدث بالضبط مع جمعيات السلفيين وجماعة الاخوان المسلمين والتي يعرف الجميع أنها تتلقي تمويلا من دول عربية بعينها إلا أنه تم تجاهل الحديث عنهما في قضية التمويل بسبب أغلبيتهما في البرلمان وموقفهما من المجلس العسكري . ويضيف الكاتب الصحفي عباس الطرابيلي : قضية التمويل الأجنبي سوف تنتهي في أقصي الحالات إلي مخالفة وغرامة قدرها 50 جنيها علي كل منظمة تعمل بدون ترخيص لأنه من البداية هذه قضية سياسية وليست جنائية , فهذه المنظمات تعمل في مصر وبهذا الشكل منذ سنوات , ولا يمكن أن نكون استيقظنا فجأة وجدنا أن لها مخططات لتقسيم مصر وإثارة الفتن , إضافة إلي أن إثارة هذه القضية في هذا التوقيت هي نوع من توجيه الرأي العام نحو الاهتمام بقضايا فرعية وترك الموضوعات الرئيسية وقضايا التعليم والخبز والصحة والانشغال بمنظمات المجتمع المدني , وأيضا بث الفتن بين الحكومة والبرلمان والشعب , ووقت إثارة قضية المصروفات السرية كان لهم هدف واضح وهو تشويه كل الصحفيين الذين يكتبون ضد مجلس قيادة الثورة وينتقدون تحكمه في مقاليد أمور البلاد .