وأنت تتقدّم فى قراءة رواية «السايكلوب» لإبراهيم عبد المجيد وتلجُ فصولها الأربعة عشر تجد نفسك إزاء سيمفونيّة من الأصداء تتردّد داخلك، أصداء أقوال ومواقف وأحداث تختلف من شخص إلى آخر باختلاف مُحصّلة التجارب والمعارف، ولكنّها تُمثّل خلفيّةً للقراءة لا محالة. ومن تلك الأصداء قولان ظللتُ أستعيدهما منذ طرقتُ باب الرواية ومررتُ بعتباتها الأولى (العنوان والإهداء والإشارة والاستهلال) إلى أن لفظ السرد أنفاسه الأخيرة. وأوّل القولين عبارة للكاتب الفرنسىّ الشهير ألبير كامو كنتُ قرأتها عَرَضًا ضمن مختاراتٍ من أجمل أقوال الأدباء لكنّها انغرست فى نفسى وبرعمت حيرة وتماهيًا مع مَتنها: «ما أقسى أن يعيش الإنسان فقط مع ما يعرف ويتذكّر، محرومًا ممّا يرجو ويأمَلُ». ولقد لبثت تحت وطأة ذاك التصريح زمنًا حتّى سطعت أمام ناظرىّ من بين دفّتى كتاب «فى حضرة الغياب» لمحمود درويش كلمات أربع أشبه بحبل ممدود لأسيرٍ فى جُبّ: «من يكتب شيئًا يملكه» ودون تردّد آمنت وسلّمت، ففى المُحصّلة إذا كانت جملة «كامو« إحالةً على مأزق آخر من مآزق الوجود فإنّ ما خطّته يدُ درويش ذاتَ شِعرٍ مُقترحٌ للخلاص وجيهٌ. وإنّى لأحسب رواية «السايكلوب» على ما انكشف لى من أمرها تجسيدًا مثاليًّا لهذا المُقترح وهى المحكومة من ألِفها إلى يائها بثنائيّة الفقد والتعويض بالكتابة. وأمّا وَالحالُ فَقْدٌ، فشوقٌ إلى أمكنة وأزمنة وأشخاص وأشياء، وإلباسٌ للماضى لبوسَ الكمال، حتّى إذا شقّته ذكرى أحزانٍ وأكدارٍ لا يُمكن إنكارها تكفّل الحنين برتقه وإكسابه كلّ ألق. *** وأمّا والحالُ تعويضٌ، فبعثٌ وإحياء موتى واستحضار للمرغوب لا يعقِلُه منطق ولا تحدّه قوانين الطبيعة، ولا عجب ورأس رواة الرواية «سعيد صابر» من عالم الأموات قادم، وكذلك باقى جوقة السرد: «البهىّ» و «زين» والنساء الخارجات من المقبرة...حتّى لكأنّنا فى قرية «كومالا» الطافحة بحكايات الأشباح والأطياف! ولكُلٍّ خُطّته لتعويض ما فاته أو استعصى عليه،بدْءًا بالكاتب «سامح عبد الخالق» سيّد المصائر والمُحرّك الأوّل للأحداث واعترافِه لسعيد صابر منذ الاستهلال بأنّ تميمة استدعائه وبعضِ شخصيّاتِ رواياته من عالم الغياب هى شوقه إليهم وقد أجّجه عجزه عن كتابة روايات جديدة وخلق أشخاص جُدد، ثمّ إقراره له فيما بعد بأنّه يودّ التكفير عن إهماله لشخصيّات لم تحظَ فى رواياته السابقة بالحيّز الذى تستحق، راجيًا من بطله الورقىّ منحَها ذاك الحيّز فى رواية من تأليفه. وما كان رجاؤه ليتسنّى لولا أن سبقته رغبة سعيد فى كتابة رواية تُحوّله من شخصيّة محكومة بإملاءات الراوى إلى كاتبٍ حاكمٍ بأمره يفعل ما يشاء، وتلك سبيله للتعويض. وليس سامح وسعيد وحدهما الراغبين فى التعويض بل كذلك «البهىّ» و «زين»، فالأوّل -وهو عمّ سامح عبد الخالق- مات شابًّا وابن أخيه لم يولد بعد، فلمّا جاء سامح إلى الدنيا وكبُر وصار كاتبًا جعله شخصية فى إحدى رواياته لكنّه أماته سريعًا محاكيًا ما جرى فى الواقع دون داع يُذكرُ، والثانى رفيق دراسة لسامح فى المرحلة الابتدائية التقاه مًجدّدًا وهو يخطو خطواته الأولى على درب الكتابة الروائيّة فمنحه من الحكايات ما قد يُغرى أىّ كاتب لكنّه أبى واختلق الأعذار لا لشىء إلاّ لأنّ زين الطفولة قد ارتبط فى ذاكرته ب»القرف». ثمّ قُتل زين وظلّت حكاياته نسيًا منسيًا، فقام طيفه وطيف البهىّ يلحّان على سامح ليُعيد إليهما الاعتبار ويُلحقهما بمصافّ الرواة. وما يؤلّف بين كلّ هؤلاء فضلًا عن الرغبة فى التعويض هو نُطقهم بالفصحى حتّى فى حواراتهم مع باقى شخصيّات الرواية المتحدّثة بالعاميّة وما أبعد ذلك عن الاعتباط، بل ما أسلم أن يكون اللّسان الفصيح مطيّتهم إلى خرق نواميس الوجود، وما أطرفَه من خيارٍ له فى ثقافتنا جذور ووقعُه فى النفوس أثير. أَوَلَيْسَ القرآنُ ذروةُ الفصاحةِ مُعجزةَ الرسول الأكرم الممتدّةَ عبر المكان والزمان؟ زد على ما سلف أنّنا لو أمعنّا النظر لألفينا هذا التنافر فى المنطوق خطَّ فصلٍ بين عالمين مُتقابلين،إذ ثمّة أوّلاً عالم الرواة «الأرباب» ذوى القدرات الخارقة المُجرين لتصاريف القصّ وفق مشيئتهم، يُحيُون ويُميتون ويمنحون ويمنعون بجرّة قلم ، وإنّهم وعلى رأسهم سامح عبد الخالق لأشبه بآلهة الأوليمب «زيوس» وأبنائه «آريز» و«أبولو« و«هيرميز» وغيرهم... ولست فى تشبيهى هذا مؤوِّلاً بل مُصادقٌ على قول سعيد صابر بخصوص سامح: «مُؤكّد أنّه سيكون مثل زيوس، لقد كًنّا كلانا مُغرمين بالأساطير اليونانيّة». وفى مقابل ذلك ثمّة عالم «الآخرين» إن جاز التعبير، وفى صدارتهم حبيبات الرواة وهنّ عندهم قرينات أرواحهم ومُنتهى مرغوبهم، ولهم جميعًا منهنّ نصيب وإن اختلف من حيث العدد والحضور، فلسامح حسبَ المُصرَّح به أربع حبيبات شَغَلن مراحل مختلفة من حياته، وقد استدعى منهنّ «رندا» مُكنّاةً ب«يارا» و«صفاء الأولى» و «صفاء الثانية» واكتفى بذكر «كاريمان» عرضًا، ولزين حبيبة واحدة هى «تحيّة»، وللبهىّ فيلق من العاشقات، وليس ذلك عليه بغريب وقد خُصّ منذ ولادته بوجه تُجلّيه هالة من النور، والعاشقة الرمز بينهنّ «بهيّة» رفيقة مرقده فى مقبرته وصنوه فى الاسم شأنها فى ذلك شأن «سعديّة» مع سعيد وهى حبيبته الوحيدة إن سلّمنا بأنّ علاقته بحكمة التونسيّة كما أعلن «لا آفاق لها». ولعبة تشابه الأسماء هذه علامة لا تُخطَأُ من حيث الدلالة. أمّا باقى الآخرين فأشخاص من رحم الواقع وإن تصرّف فيه الأدب إلى حدٍّ ما، تجد فيهم الأمهات والآباء والشباب والشرطىّ والصيّاد واللاجئ السورىّ والصيدلىّ وسائق «التاكسى» والمُبحرين على الإنترنت وغير ذلك... وفق ما يقتضيه السردُ. *** وممّا يُحسب لهذه الرواية تعدّد مفارقاتها، والمُفارقة من روافد الطرافة كما هو معلوم، فهذا سعيد الشخصيّة القادمة من روايةٍ لسامح عبد الخالق يغدو كاتبًا لأخرى عنه وعن معارفه وحبيباته! وتلك صفاء الثانية بعد أن كانت فى نظر سامح مُجرّد وسيلة لنسيان صفاء الأولى تنقلب حُبًّا خالصًا فتُصبحهى بمنظار القلب «الأولى» والأخرى لا شىء، وأولئك الجميلات التوائم الأربع اللواتى تربّى زين بينهنّ: «تحية» و «لواحظ» و«روما» و«فرنسا» وقد تبيّن ويا للعجب أنّ لهنّ فى الحىّ الذى تسكنه سعديّة نظائر وبالأسماء ذاتها! ولنا أن نتوقّف أيضًا عند التناظر المُحكم بين شخصيّتَيْ سعديّة والبهىّ وتصويرهما كقوّتى جذبٍ هائلتيْن للمُعجبِين من الجنس المُغاير، مع لمسة فنّية أضفت على كلّ منهما خصوصيّة تتقاطع وخصوصيّة الآخر فإذا هما كقطعة نقد هى وجهها الشبِق وهو وجهها المُتعفِّفُ. لِتبقى المفارقة الأبدع والأمتع حسب تقديرى هى المُراوحة المُستمرّة على امتداد نصّ الرواية بين ضربين مُتضاربين من التعامل مع الشخصيّات الراوية أكسباه حيويّة وتوهّجًا، ذلك أنّ الأعاجيب الصادرة عن سامح المُتنقّل بين أعمار مُختلفة والمُستحضر لأشخاصٍ وأحداثٍ من غياهب الفقد، وعن سعيد العابر للأمكنة والأزمنة فى طرفة عينٍ، وعن زين ذى القوّة الخارقة المُتناقضة مع حجمه، وعن البهى المُشعّ نورًا، ونسائه الخارجات من المقبرة، كلّ تلك الأعاجيب المُبهرة خلّفت ما خلّفت من المواقف المُتباينة إزاءها وإزاء أصحابها، فهلّل المهلّلون للبهىّ فى موكبه وشاركوه ونساءَهُ الإنشاد، واعتبره تُربيُّ مقبرتِه وليّا يستأهل التقدير والإجلال، ورأت سعديّة فى سعيدٍ ساحرًا عظيمًا جديرًا بحبّها، وأظهرت إحدى نساء حيّها إعجابها بزين هاتفةً: «مَعْقُولْ المَفْعُوصْ دَا يِعْمِلْ كِدَا! كانْ فِينْ مِنْ زَمَانْ؟!»، وتآلفت صفاء الثانية مع إعادة سامح لها شابّة فراحت تزوره كلّما عنّ لها ذلك، والقاسم المُشترك بين هؤلاء جميعًا أنّهم يمكن وضعهم فى خانة المُعجَبين والمُؤيّدين، وفى مقابلهم نجدالمُتضرّرين والمُرتابين، ممّن بدا لى حالهم، والحقّ يُقال، كحال أهالى موسكو فى رواية المُعلّم ومارغريت ل»بولغاكوف» حين داهمهم الشيطان «فولند» وزمرة مُساعديه: «فاغوت» و«بيهموث» و «عزازيلو« وعبثوا بهم وأفقدوهم صوابهم فطفقوا يستنكرون ويتوعّدون ويهذون غير قادرين على التصدّى لما يجرى ولا حتّى تفسيره، وفى طليعة هؤلاءرجال الشرطة عمومًا، ومن بعدهم زوج صفاء الثانية، وركّاب الباخرة «علاء الدين»، وعدد من المُعلّقين فى الفايسبوك. *** ومن مآثر هذا الذى تقدّم أنّه أضاف إلى التباين الحاصل بين عالم الرواة وما سواه تباينًا آخر داخل عالم من سمّيتهم «الآخرين» كشَفَ شوق البعض إلى زمن الأنبياء والأبطال وخوف البعض الآخر من كلّ مُستجدّ غريب وكلا الموقفين يشِيان بحالة التململ الاجتماعىّ السائدة، وهو مازاد دلالات الرواية تفرّعًا وبنيتها إحكامًا. وكم كان مُلفِتًا من الكاتب أن جعل شخصيّة سعديّة تنتمى لسانًا إلى عالم العوامّ وخيالاً إلى عالم الرواة، وكأنّه أراد القول: «إن الأصل فى الكتابة الروائيّة هو الخيالُ وكلّ ما دونه يُمكن اكتسابه» وأحسب تجسيدَه لهذه القناعة فى رواية «السايكلوب» نفسها لا يحتاج إلى برهنة أوتدليل. والمغزى، أنّ تلك المرأة البسيطة، وماهى إلاّ عيّنة من طبقته الاجتماعيّة، بوسعها إذا راكمت المعارفَ أن تنتقل من مقام «قوى الإبداع النائمة» إلى مقام الرواة الخلاّقين، وقد جاء ذلك فى النصّ صريحًا على لسان سعيد إذ قال لها: «فى كلّ مرة أتأكّد من أنّك تستطيعين كتابة الروايات والله يا سعديّة» وفى هذا القول على بساطته إحياء للآمال عظيم وما أكثر الموهوبين المُتردّدين والمُحبَطين فى بلادنا العربيّة. وإنّه لَمِنْ تَمَام الحِذق أن اُختيرت سعديّة دون غيرها لتكون أوّل من يتحدّث عن السايكلوب بل وتتّخذَ منه شعارًا لصفحتها فى الفايسبوك، ونحن نعلم أنّه عنوان الرواية، والعنوان مفتاحُ الدلالة ومكمنُ السرّ. ولقد حاولت تقصّى رمزيّته فذهبتُ فى ذلك مذاهب شتّى، وكان أوّل ما خطر لى أنّ المقصود هو الإرهاب، وما أشبهه، ولا مِراء، بالوحش الكاسر الذى أُفلت من عُقاله فطالت أنيابُه ومَخالبُها لجميعَ وإن بنِسب مُتفاوتة، وقد دفعنى إلى هذا الاعتقاد -فضلاً عن جلاء الشبه- ما لاحظته من تواتر حضوره فى نصف الرواية الأوّل تلميحًا وتصريحًا رسّخا فى روعى أنّه القضيّة الأكثر تأريقًا للكاتب،حتّى إذا تقدّمتُ فى القراءة أدركتُ أنّه لا يؤرّقه كقضيّة مُنعزلة بل كجزء من كلٍّ، وهذا الكلُّ هو الانحطاط والتردّى، ذلك أنّنا فى مُجتمعاتنا العربيّة قد ألِفنا لفظة «التخلّف» من مُنطلق أنّها تخلّف عن ركب الحضارة عُمومًا وليس هذا عنّا بجديد، أمّا عبارتا «الانحطاط» و«التردّى» فمرجعهما إلى مُقارنةٍ يتفوّق فيها ماضينا على حاضرنا وبهذا المعنى ليس غريبًا أنْ يكون السايكلوب مُرادفهما الرمزىّ وفى النصّ ما لا يُحصى ولا يُعدّ من مُؤيّدات ذلك بدءًا بغلاء المعيشة وما يُوازيها من تفشّى الفقر وصولاً إلى تفاقم العمليّات الإرهابيّة وحالات الانتحار، وكلاهما موت! إلاّ أنّنى سأكتفى بالإشارة إلى قولٍ وفعلٍ يُغنيان عمّا دونهما، أمّا القول فعبارة ألقاها سامح ثمّ تذكّرها سعيد فكرّرها وكأنّه يُصادق على صحّتها وقد وَرَدَتْ حين رأى سامح وصاحبه جثّة فتاة كانت قد ألقت بنفسها فى البحر فعلّق قائلاً: «ما عاد بحر الاسكندريّة من دموع المُحبّين بل صار من دمائهم». وأمّا الفعلُ فمُبادرة البهىّ بالرجوع إلى مقبرته طوعًا وتهديدُه بقتل سامح إن حاول بعثه من الموت مرّة أخرى لا لشىء إلاّ لأنّه لم يجد الحياة التى تركها فى فترة الحرب العالميّة الثانية، وما أقساها من فترة! فهل بقى أوْجع من هذا دليلٌ على انحطاطنا وتردّينا؟! *** وإزاء هذين المؤيِّديْن وغيرهما كثيرٌ كدتُ أُسلِّم بصواب استنتاجى لولا أن أخذتُ بعين الاعتبار مقاطع وفقرات كثيرة نقد فيها الكاتب فترات مُختلفة من الماضى نقدًا لاذعًا بلغ حدّ السخرية المريرة فانتهيت إلى أنّ ميْله إلى الماضى إن صحّ ميل طفيف يدعمه الحنين، وشككت فى أنّ المُراد ما خمّنت. فهل «السايكلوب» هو التسليم والخنوع يلتهمان شعوبنا التهامًا حتّى استوت عندنا الحياة والموت؟ أم هو ورطة الوجود فى حدّ ذاتها، مُجسّدةً فى صرخة كاليغولا الشهيرة وهى ممّا ورد فى الرواية: «الآن أنا على يقين من أنّ هذا العالم على النحو الذى وُجد فيه غير مُحتَمل. لهذا السبب أنا أحتاج إلى القمر، أو إلى السعادة أو إلى الخلود. شىء مّا قد يبدو شيطانيًّا لكنّه ليس من هذا العالم»؟ أم تُرى «السايكلوب» ليس إلاّ الخيال نفسه وهو فى روايتنا عمودها؟ وما أعتاه من وحش لا حدّ لسُلطانه يدكّ حصون الحقيقة ويبطش بالمُسلّمات، أو يلبس قناع اللطف فيؤجّج الشوق إلى منشود والحنين إلى مفقود، ويفعل بالنفس الأفاعيل. ومهما يكن من أمرٍ فقد طبعنى السايكلوب بطباعه فرُحتُ أنهب سطح الرواية وألتهم سطورها التهامًا حتّى أتيت عليها وما أزال بعد أستزيد!