صديقي العزيز أمجد ناصر أشواقي من فيينا حتى لندن، «رايح جاي»! أما بعد، [عزيزي أمجد ناصر عاطر تحياتي من فيينا، أرسل لك قصتي (في انتظار سارة) وأرجو أن تروق لك وتجد مكانها على صفحات جريدة «القدس العربي» التي نعتز بها وباسمها. تقبل سلامي وتقديري طارق الطيب، فيينا، سبتمبر 1991] كانت هذه رسالتي الأولى لك يا أمجد، أرفقت معها هذه القصة المذكورة والتي كتبتها في فيينا في فبراير 1988. مر على كتابتها حتى عامنا هذا 31 عاما؛ وعلى نشرها في «القدس العربي» 28 عاما. ما لم تعرفه يا صديقي يحيى أنني كتبت في تلك الفترة هذه القصة وغيرها من الكتابات، على الآلة الكاتبة التي صارت اليوم تحفة عتيقة تجمعها المتاحف. هذه الآلة الكاتبة العربية طلبتها -وأنا في سنواتي الأولى في فيينا- من السعودية لتصلني بعد أسابيع طويلة، لأجد مكتوبا عليها (Made in Czechoslovakia)أي (صُنِع في يوغسلافيا). يعني سافرَتْ تلك الآلة الكاتبة من البلد الجار على حدود النمسا لتحج في السعودية ثم تعود إلى النمسا، لتكون تكلفتها الضعف ربما دون أن أدري. لكني خلعت عليها لقب (الحاجة آلة)! في أواخر الثمانينات كنت أكتب القصص بيدي في دفاتر ثم أعيد طبعها على (الحاجة آلة)، ويا ويلي لو نسيت سطرا أثناء الطباعة! فليس هناك أي حل إلا إعادة الكتابة من جديد وبحرص مضاعف، أما الأخطاء البسيطة في حرف أو كلمة، فكنا نعيد الكتابة على الحروف نفسها بوضع «كَربونة» بيضاء تغطي الحروف السوداء بالبياض، ثم نضرب حروف الآلة على البياض من جديد. إنه تاريخ الكتابة والنسخ والطبع الذي لازمنا جميعا أبناء ذاك الجيل. من فيينا حادثتك تليفونيا مرات يا أمجد، وكانت تحيتك تصل عبر الهاتف بالحضن الدافئ للأصدقاء الحميمين. كنتَ مشجعا لأقصى درجة لأن أرسل لك دائما قصصا جديدة؛ فشاركتُ بغير القصص في استطلاعات أدبية، وأرسلتُ مقالات لها علاقة بالفن أو المسرح أو السينما أو الرأي أو ما كان يحدث على ساحة فيينا الأدبية والفنية آنذاك. كان لابد أن تسفر تربية أمجد الجمالية عن رسوخ فصحى رفيعة وذات بهاء خاص في الفترة من 1991 حتى 1993، وهي بالضبط خلال عامين ونصف، نشرتَ لي في «القدس العربي» إحدى عشرة قصة قصيرة غير المقالات، واستمر النشر لسنوات طويلة بعدها، ربما حتى قرب نهاية الألفية الثانية، فنشرتَ لي أكثر من عشرين قصة قصيرة جديدة، صدرت كلها فيما بعد في المجموعة القصصية الثانية (اذكروا محاسن ...). كنت يا يحيى ترسل لي نسخا يومية من جريدة القدس العربي على عنواني في فيينا. كانت تصلني الجريدة متأخرة ليومين أو ثلاثة أو قد تمتد لأسبوع. في بعض الأحيان كانت تتأخر أكثر لأن صديقا لي كان يعمل في مكتب بريد فيينا العمومي، وكان ينتظرها مثلي. كان يخفيها عن الإرسال من المكتب الرئيسي ويأخذها معه لبيته ليوم أو أكثر، ثم يعيدها لي عبر مكتب البريد الذي يعمل به وكأنها وصلتهم حالا، أحيانا كان يكتب لك بجانب العنوان: (مع أطيب تحياتي يا طارق- فلان). لاحقا رجوت صاحب محل الجرائد القريب بيتي في الحي السابع، أن يحصل لي على الجريدة من مركز التوزيع في فيينا؛ على أن أمر عليه في أي وقت للحصول على أعدادها. كانت فترة مهمة لي يا أمجد في مدينة لم يوجد فيها كتاب عربي أمامي؛ فلا مكتبة ولا بريد يصلنا بالكتب والمجلات من البلاد البعيدة ولا مال، فكنت في أيامي الأولى أقرأ أي حروف عربية أجدها كأنني وقعت على كنز: أقرأ الوصفات الطبية على «الروشتات» لو كانت بها ترجمة للعربية، كذلك محتويات العصائر المكتوبة بالعربية على كرتونة العصير أو المكتوبة على أي منتجات أخرى. العين كانت ظمأى لأي حرف عربي. كنت أفلّي جريدة القدس العربي من أولها لآخرها، قارئا ومُطّلعا على كل موادها، وطبعا كنت أسعد كثيرا حين أجد قصة لي منشورة في صفحة الأدب وقد زينتها بعض الرسوم أو التخطيطات لفناني الجريدة. صديقي الجميل أمجد أنت الحاضر هنا وأنا أكتب عن نفسي وعن فيينا وعن القدس العربي وعن الطباعة على الآلة الكاتبة، لكنك كنتَ المحفز والداعم لكي أستمر في كتابة منتظمة، وأن أنشر فيما بعد مجموعتي القصصية الأولى المعنونة ب (الجمل لا يقف خلف إشارة حمراء) وبها إحدى عشرة قصة من ضمن أربع وعشرين نشرت مسبقا في جريدة القدس العربي، التي كنت أنت يا يحيى مسئولا عن تحرير صفحاتها الثقافية، تلك الصفحات المميزة، التي عرفنا من خلالها الكثير من الأسماء من كل الدول العربية ومن المهاجر النائية، وتعارفنا بفضل الجريدة وتواصلنا واجتمعنا على صحيفة لها صوت بارز ومصداقية عالية واحترام كبير، وعليها أيضا منعٌ وتخوُّفٌ ومصادرة في بعض الدول المرتعشة. مقالاتك يا صديقي كانت صادقة ولماحة، كنتَ مُقِلا في نشرها في القدس العربي، ونحن نتمنى المزيد لكننا نعرف إيثارك للأصدقاء؛ فكنت رابئا وهذه شيمتك. قبل أيام قليلة كاتبتك بهذه السطور –أدناه- أيضا من فيينا، وبين أول رسالة في عام 1991 ورسالتي أدناه مر أكثر من ربع قرن يا صديقي وكأنها أربعة أسابيع. ما زلت أنت الصديق الشاعر العزيز النادر، صاحب المسئولية الثقافية الصادقة، وأُذَكِّرك أن فيينا ترسل لك تحياتها وما زالت تنتظرك! في انتظار ردك الجميل يا أمجد كن بخير دوما يا صديقي روحا وقلبا وجسدا! طارق الطيب، فيينا 19/5/2019 وإليك قصاصة كتابتي لك قبل أربعة أيام ومحبتي تسبقها أتعرف يا أمجد (ناصر) أراك تنظر إلينا كأمٍّ تقف في مطبخها تنقل قدميها في مساحة ضيقة تتأمل صغارها في الخارج من خلف زجاج يتصايحون يختلفون يضحكون أو يبكون وفي همِّها بِهم تجرح إصبعها تلعق الدم بغريزة الأرض وعيناها لا تفارقهم نحن الأطفال الجوعى خلف مطبخ لا ندخله إلا بإيعاز المعدة لا تكمل وجبتنا يا أمجد أطِل وقوفَك وابعد السكين عن كفك وتأملنا طارق الطيب، فيينا 15/5/2019