تنسيق المرحلة الأولى..85.37% للعلمي و81.71% للشعبة الهندسية نظام قديم    موعد التقديم والمزايا.. المستندات المطلوبة للالتحاق بجامعة دمنهور الأهلية    البابا تواضروس يصلي القداس مع شباب ملتقى لوجوس    حروب تدمير العقول !    الحكومة: غلق جميع الفتحات فى الحواجز الوسطى والجانبية بالتحويلات المرورية    وزير السياحة: نستهدف شرائح جديدة من السياح عبر التسويق الإلكتروني    الشمس تحرق جنود الاحتلال بغزة.. إجلاء 16 مقاتلا من القطاع بسبب ضربات شمس    بوتين يعلن إعادة هيكلة البحرية الروسية وتعزيز تسليحها    الكونغو.. مقتل 21 شخصًا على الأقل بهجوم على كنيسة في شرق البلاد    تحقيق| «35 دولارًا من أجل الخبز» و«أجنّة ميتة».. روايات من جريمة «القتل جوعًا» في غزة    بعثة الأهلي تصل القاهرة بعد انتهاء معسكر تونس    رابطة الأندية تحدد يوم 29 سبتمبر موعدا لقمة الأهلى والزمالك فى الدورى    بيراميدز يكشف سبب غياب رمضان صبحي عن مباراة قاسم باشا    ليفربول بين مطرقة الجماهير وسندان اللعب المالي النظيف    جنايات الإسكندرية تقضى بالإعدام شنقا ل"سفاح المعمورة"    ننشر أسماء أوائل الشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء.. الطالبات يتفوقن على الطلبة ويحصدن المراكز الأولى    موجة شديدة الحرارة وسقوط أمطار على هذه المناطق.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس غدًا الإثنين    مدبولي يوجه بمراجعة أعمال الصيانة بجميع الطرق وتشديد العقوبات الخاصة بمخالفات القيادة    تأجيل محاكمة 108 متهمين بخلية "داعش القطامية" ل 28 أكتوبر    "أنا ست قوية ومش هسكت عن حقي".. أول تعليق من وفاء عامر بعد أزمتها الأخيرة    ب "لوك جديد"| ريم مصطفى تستمتع بإجازة الصيف.. والجمهور يغازلها    هل الحر الشديد غضبًا إلهيًا؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    بتوجيهات شيخ الأزهر.. قافلة إغاثية عاجلة من «بيت الزكاة والصدقات» في طريقها إلى غزة    بعد 11 عامًا.. الحياة تعود لمستشفى يخدم نصف مليون مواطن بسوهاج (صور)    تعرف على طرق الوقاية من الإجهاد الحراري في الصيف    ذكرى وفاة «طبيب الغلابة»    الغربية تستجيب لمطالب أولياء الأمور وتُخفض الحد الأدنى للقبول بالثانوي العام    محافظ دمياط يطلق حملة نظافة لجسور نهر النيل بمدن المحافظة.. صور    «فتح»: غزة بلا ملاذ آمن.. الاحتلال يقصف كل مكان والضحية الشعب الفلسطيني    نجوى كرم تتألق في حفلها بإسطنبول.. وتستعد لمهرجان قرطاج الدولي    غدًا.. وزير الثقافة ومحافظ الإسكندرية يفتتحان الدورة العاشرة لمعرض الإسكندرية للكتاب    يسرا ل"يوسف شاهين" في ذكراه: كنت من أجمل الهدايا اللي ربنا هداني بيها    وزير الثقافة يزور الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم بعد نقله إلى معهد ناصر    رانيا فريد شوقي تحيي ذكرى والدها: الأب الحنين ما بيروحش بيفضل جوه الروح    وزير الإسكان يواصل متابعة موقف مبيعات وتسويق المشروعات بالمدن الجديدة    رئيس اقتصادية قناة السويس يستقبل وفدا صينيا لبحث التعاون المشترك    لماذا تؤجل محكمة العدل الدولية إصدار حكمها في قضية الإبادة الجماعية بغزة؟    العثور على جثة شخص بدار السلام    الأردن يعلن إسقاط 25 طنا من المساعدات الغذائية على غزة    تجديد الثقة في الدكتور أسامة أحمد بلبل وكيلا لوزارة الصحة بالغربية    7 عادات صباحية تُسرّع فقدان الوزن    "البرومو خلص".. الزمالك يستعد للإعلان عن 3 صفقات جديدة    بعد عودتها.. تعرف على أسعار أكبر سيارة تقدمها "ساوايست" في مصر    أمين الفتوى: النذر لا يسقط ويجب الوفاء به متى تيسر الحال أو تُخرَج كفارته    قبل كوكا.. ماذا قدم لاعبو الأهلي في الدوري التركي؟    وزير البترول يبحث خطط IPIC لصناعة المواسير لزيادة استثماراتها في مصر    لمروره بأزمة نفسيه.. انتحار سائق سرفيس شنقًا في الفيوم    مجلس جامعة بني سويف ينظم ممراً شرفياً لاستقبال الدكتور منصور حسن    الجيش السودانى معلقا على تشكيل حكومة موازية: سيبقى السودان موحدا    «مصر تستحق» «الوطنية للانتخابات» تحث الناخبين على التصويت فى انتخابات الشيوخ    وزير التموين يفتتح سوق "اليوم الواحد" بمنطقة الجمالية    جواو فيليكس يقترب من الانتقال إلى النصر السعودي    مصر تنتصر ل«نون النسوة».. نائبات مصر تحت قبة البرلمان وحضور رقابي وتشريعي.. تمثيل نسائي واسع في مواقع قيادية    إصابة 11 شخصا في حادثة طعن بولاية ميشيجان الأمريكية    وزير الأوقاف: الحشيش حرام كحرمة الخمر.. والإدعاء بحِلِّه تضليل وفتح لأبواب الانحراف    «الحشيش مش حرام؟».. دار الإفتاء تكشف تضليل المروجين!    وسام أبو على بعد الرحيل: الأهلى علمنى معنى الفوز وشكرا لجمهوره العظيم    تأكيدا لما نشرته الشروق - النيابة العامة: سم مبيد حشري في أجساد أطفال دير مواس ووالدهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفصل الأول

قرعتِ الطبول. قرعتْ بتعاويذَ مرعبةٍ، ضاعَفَتْ مِنْ أثَرِ البَرْدِ الجبان الذي سيطر عليه مِنْ حنجرته حتي قدميه. اهتزّ الهواء الفاسد علي إيقاع الطبول، وتدافعت ظلال سريعةً فوق جَفْنَيْهِ. آهٍ لو كان بإمكانه الفرار! طفا شيءٌ ذو فَرْوٍ، يُشْبِهُ أذناً كثيفة الشَّعْرِ، أمام ناظريه. حاول فتح عينيه عن آخرهما، كي يتمكن من الرؤية، علي نحوٍ أفضَلَ، ولكن دون جدوي. مرَّتْ من بين رموشه ذات الظلال؛ هاجت أمامه. ما نهاية كل هذا؟ اللعنة! لقد هلكَ. استبدَّ به العطش. اندلعتْ النار في كل مكان، لهب، لهب. في أكوام السواد، علي حواف النور والظلام، ظهرت جثث حيوانات نافقة. وبأصابعَ معقودةٍ، انتفض الشامان؛ وقرعت الطبول. مال نحوَهُ أحدُ الأشخاص، ثم سأل إذا ما كان يريد أن يشرب أم لا، لكنه، لم ينتظر إجابةً؛ اختفي. طافَتْ أمامه مجدداً تلك الأذنُ ذاتُ اللحية، ذلك الطَّوْطَمُ القبيح ذو الشعر الكثيف. تمكَّنَ منه الشعور بالخطر، كغبارٍ في يومٍ صيفيٍّ حارٍّ. نما الخوف في روحه وتعالي صداهُ من حيث لا يدري، يحمله هواءٌ حارقٌ؛ تجدّل وتشابك؛ تسللٌّ للدم؛ نزع كل قوةٍ. دنَتْ، الظلال تراصت كتفاً بكتف. تلاحمت. فكَّرَ بالهَرَبِ؛ لكنه بدا عاجزًا. قرعتِ الطبول بغضبٍ متزايدٍ. سيطرتْ عليه رغبةٌ في الصُّراخِ: »كفي، أشعُرُ بالرُّعب!..»‬. ؟ ضربَ ميتْيَا بكفِّهِ علي الطاولة، لتنقلِبَ طفَّايَةُ السجائر وتتطاير سحب رمادية؛ استيقظ. رحل الوسواس، انقطع بفعل نشَّافة المدرسة، التي رسم عليها شياطين؛ فتح عينيه ثمّ اتَّجه نحو مطعمٍ مُعْتِمٍ صاخبٍ ذي أرضيّةٍ قذرةٍ.
أتريد شرابًا؟
نعم.
حاولت حمامةٌ- تغطيها القذارة- أن تتعلَّق بالزجاج الباكي.
رُبط فوق القضبان هيكلًا كاملًا لجهاز راديو كاسيت بشريطٍ أزرقَ اللون. تنبعِثُ من السماعات أصواتٌ عاليةٌ، تُحْدِثُ إيقاعًا صاخبًا.
سقطتْ قطعة قماشٍ متَّسخة أمام الكوب. يد سيدةٍ عجوزٍ. انغرس الخاتم في اللحمِ. تمكَّنَ بالكادِ أن يسحب يده حركتينِ، سريعتينِ، ومتباعدتينِ. البقعة التي خلَتْ مِن قطعة القماش، صارت كما بعد البكاء، تلمع من أثر ندًي شفافٍ، تسقط قطعة القماش علي الطاولة التالية.
تضغط الحمامة علي الزجاج مجددًا، لتخفي العين الزجاجية في الريش. غطي الغبار المشرب بالمطر فوق الزجاج الحمَامَ حتي بدا دون رقبةٍ، ليصيرَ أشبَهَ بجسد المنطاد. ربَّماأصابه المرض. ما من مشهدٍ أكثرَ إيلامًا من طائرٍ يئِنُّ.
في المقابل - الأذن ذات الشعر. الأذن ذات اللحية.
اسمع، أيها الزعيم، الجو هنا خانقٌ. أين قوسك، جعبتك، سهامك؟
لم يُبْدِ هياواثا أي ردّ فعلٍ. بدا أن ميتيا لم يعد يُثِيرُ الشفقة في نفسه. لم يكن لدي ميتيا أية رغبةٍ اليوم في التنازل. قرر أن يهرب. هوب! – هرب الرجل، طار. قرر أن يكون نفسه: أفعل ما تشاء، ستدرك حينئذٍ، ماذا تريد. لكن الغريب– أنه لكي، تصبح نفسك، يجب أن تملك صحبة ملائمة، وهو ما لم يكن متوافرًا: لم تُتَحْ الفرصة أن يعرف، هل أصبح بالفعل نفسه أم لا؟
صُبّ!
صبَّ هياواثا واستدار، لكن من باب الحيطة، لمس كأسه بأظافره السميكة المعقوفة. نظر ميتيا للمشهد الجانبي الأحمر للزعيم – وبشكلٍ أدقَّ، في أذنه، بفضول سائحٍ شابٍّ، يحاول أن يسيطر علي احتقاره للسكان المحليين. في الحقيقة، بسبب تلك الأذن المدهشة فقَطْ أجلسه ميتيا علي طاولته.
لم يستطع أن يفهم تمامًا، لماذا شذَبَ السوالف بهذا الحرص – مثل شجيرات حديقةٍ إنجليزية – طالما نمت في أذنيه تلك العناقيد، تلك النافورات الصوفية. كان الشعر رماديًا. وصل طوله خمسة سنتيمترات. طلَّ الشعر من الأذنين في حزمٍ سميكةٍ، تجعد متجهًا لأسفل وانتفش برفق، راقدًا فوق السوالف. ربما، مشطه في الصباحات. ما إن وقعت عيناه علي شكله الذي يشبه الهنديَّ، المتوَّجَ بالريشِ، ممسكًا بغليون السلام، وعبارة »‬الأمريكي الحقيقي» المكتوبة علي قميصه الرياضي، الذي يرتديه تحت سترته، حتي ارتسمت الابتسامة علي وجه ميتيا. فهم علي الفور: هياواثا – ثم انتقل إلي الشعر الحر.
انفتح باب المدخل، محدثًا صريرًا. دخلتْ مجموعةٌ من حليقي الرأس.
تمتم هياواثا : لقد عادوا.
قال ميتيا: اعلم صديقي أحمر الشعر، - محركًا سيجارته التي لم ينته منها بعد، بحماس، - كل شيءٍ في هذا العالم رديءٌ. هجرنا الغراب الحكيم. طار اللعين ليلحق بأسلافِهِ. أنا وأنت موتي اليوم، إيييه. ليت اللعنة تصيبك أيها الغراب الحكيم. هأنذا أوبخك بلغةٍ بذيئةٍ ، أيها الغراب الحكيم، كر - كر - كر!
التفت حليقو الرؤوس إلي ميتيا إثْرَ قوله »‬كر – كر – كر».
فودكا مغشوشة– قال هياواثا علي الطاولة.– لن يشتريها أحدٌ. يتاجرون في الفودكا المغشوشة.
اقترب شابٌّ هائجٌ، مرسومٌ علي كلتا يديه صليبٌ معقوفٌ. نظر علي نحوٍ، بدا كأن بإمكانه أن يقلب عينيه ويري نفسه. نزع كرسيًّا من أمام طاولة ميتيا، وحمله إلي داخل البار.
مغشوشةٌ. طبعًا – مغشوشةٌ.
صُبّ، أيها السيد، مغشوشةٌ! – قال ميتيا آمرًا. – فلنحترق أيتها الفئران.
رزازٌ منعشٌ. اشرب، كأسٌ مملوءةٌ عن آخرها. – تمتم هياواثا محدثًا كأسه.
ثم، - رفع ميتيا الكأس بوقارٍ- في صحة وجودك داخل الحدود حتي عام 1492!
بالطبع، لاحظ ميتيا كيف ينظر هياواثا للمحيطين بحذرٍ، حيث يري الجميع وجهه، وما كان هناك من شيءٍ يربطه بذلك التافه. لكنه دعاه للشراب، وعليه أن يتحلي بالصبر. شعر ميتيا بالإهانة، لكن كان عليه أن يصبر هو الآخر. ولدفع مقابل هذا الاحتقار السافر لم يبق سوي تلك الأذن المهيبة ذات الشعر الكثيف.
كان من الممكن تضفير الشعر. أو ربَّما لفه ببكرات الشعر طوال الليل. إنها لحًي استقرت في أذن الأقزام. أقزام هنودٍ، علي قبعاتهم ريش نسرٍ، تعلو وجوههم ابتسامةٌ شرسةٌ، وأياديهم تحمل فؤوس التوماهوك. في وقت الخطر، عليك ببساطة أن تشدهم من لحاهم
نعم، سيدي، أعرف علي وجه الدقة. أعرف تمامًا – لكني لا أذكر، ما أعرفه. هيا، لنشرب.
طرق هياواثا بأظافره علي الزجاجة الفارغة.
كلا. أتسمع؟ - دفعه بركبته. – عليك بأخري.
أخرج ميتيا مائة روبل من جيبه الصدري.
وضع هياواثا المائة روبل في يده وذهب إلي طاولة العمل. تحولت أذناهُ ذات اللحي إلي ذيل حصانٍ رماديٍّ عجوزٍ، يغادر وقد تملَّكَهُ حزنٌ عميقٌ وسط ضبابٍ كدخان السجائر. »‬ربما لا أوافق روحه، - فكر ميتيا، - ربما اللهجة مجددًا».
لهجةٌ جورجيةٌ، يطرحها فمه تحت تأثير بخار الكحول، تخذل ميتيا دومًا في تواصله مع الغرباء. فضل عادةً ألا يشرب في حضرة الغرباء: يرتعبون، ينظرون بريبة – ومع مظهره الذي يبدو شبيهًا بأهل ريزان، يشرع فجأةً في التحدث بلكنةٍ مكسورةٍ، وتخرج من لسانه كلماتٌ روسيةٌ عاديةٌ لترقص الليزجينكا.
فجأةً تملَّكته الرغبة في رؤية لوسيا. سرَّته هذه الأمنية. إذا ما حضرته هذه الذكري وهو في حالةٍ كهذه، يتذكر لوسيا، لم يخسر كل شيءٍ.
في ركنٍ بعيدٍ، جاء صوت تحطم زجاج كأسٍ بصوت عال. قفز حليقو الرؤوس من علي مقاعدهم صارخين. طارت الكراسي باتجاه البار. ارتطمت رشاشة الفلفل بالجدار، لتسقط خاليةً، وينفك القفل ببطء. اقترب شابٌّ من ميتيا، علي كلتا يديه رَسَمَ صليبًا معقوفًا، وبعزمٍ شديدٍ صفعه في ذقنه.
تطايرت الكراسي فوقه، والأباجورات البلاستيكية، التي تناثر منها الحطام والشرر. كادت أصوات الارتطام تسبب الصمم. دقت الطبول في رأسه. صرخ شخصٌ ما بصوتٍ أجشَّ »‬الشرطة». كان ميتيا راقدًا قرب الجدار، مستندًا برأسه علي الزهرية المقلوبِة، شاخصًا ببصره إلي السقف عبر الأوراق الكبيرة الملفوفة. سادت رائحة السماد. استفاق بشكلٍ كاملٍ، نهائيٍّ. أخيرًا، صار في الإمكان إعادة النظر في كل شيءٍ. عندما يوجه لك غريبٌ لكمةً في الفك، ترقد لا تحرك ساكنا تحت الطاولة، من الحماقة أن تتخفي من أفكارك الخاصة. كان المدخل – مثل مسودَّةٍ لإدوارد ليمونوف. الجمل الفنية تمامًا مثل »‬فلنبدأ الحياةَ من جديدٍ» امتزجت مع كلمة روسية كلاسيكية من ثلاثة أحرف. وتعلقت أجزاءٌ من بيوت العنكبوت، التي هجرها منذ بعيدٍ. أحد أبوابٍ ثلاثةٍ، تؤدي إلي ردهة مسقوفة، - باب موظفي الجوازات. أوراقٌ مهترئةٌ لجداول أعمالٍ، أرقام حساباتٍ، توارت في الظلام علي أية حالٍ، لتصعب رؤيتها. طابور انتظارٍ من الساعة الثالثة – الرابعة ليلًا، قائمةٌ من نسختين، الاستقبال يوم السبت، من التاسعة حتي الواحدة. تغيير جوازات السفر. وكما هو معتاد في مثل هذه الحالات، ولدت الإشاعات: قريبًا ستصبح الجوازات القديمة غير صالحةٍ، من يحملها سيتم تغريمه. كان من المفروض القيام بهذا منذ فترةٍ طويلةٍ، لكن للأسف نقضي أوقاتًا طويلة في العمل الشاق – يرسل الناس في مهمات عمل، دون إجازاتٍ. لكن كان لابد من القيام بتسجيل الإقامة. كان علي أمي أن تنتقل مجددًا من نزل روضة الأطفال – طوارئ كاملة – إلي النزل الخاص بمصنع الدعامات – طوارئ بنسبة خمسين بالمائة. عاش ميتيا مستقلًّا منذ بعيدٍ، هنا، أو هناك – استأجر شقةً، لكن الأم هي من عانت التشرد. من المستحيل العيش دون تسجيل الإقامة. الحياة دون تصريح بالإقامة – شيءٌ تعيسٌ ومحبطٌ. جواز سفر دون تصريح بالإقامة – مواطنون بلا قيمةٍ: »‬فلنلعب الاستغمَّاية، أيها السادة رجال الشرطة». كان الأمر كذلك دومًا. في الحقيقة، تغير المسمي في عصر التغيير الديمقراطي من »‬الإقامة» إلي »‬التسجيل». دون التسجيل – مستحيل. الحياة دون تسجيل – شيء تعيس ومحبط.
وهكذا خرج ميتيا من نزل روضة الأطفال، ولم يلحق بأمه في نزل المصنع.
الأم أصابها الانكسار: تعال، احصل علي جواز سفر. لابد أن تتسلَّمُهُ شخصيًّا. لكنَّ الأمر لم يَبْدُ علي هذه الدرجة من الأهمية. خاصةً أن وقت الفراغ - يومان في الشهر : هناك كثيرٌ من العمل، استقال اثنان من الموظفين، حصل آخر علي إجازةٍ. أخيرًا، حملوا جوازات السفر. وقفوا لمدة أربع ساعاتٍ، اخترقوا الصفوف، سلموها.
الآن، يجب الوقوف لمدةٍ مماثلةٍ، حتي نتسلَّم الجوازات – القديمة، السوفيتية – مع الإقامة الجديدة، ثم، وَضْعُ كلِّ ما هو ضروريٌّ: الإيصالات، الصور، الاستمارات، تسليم الجوازات، السوفيتية القديمة مع الإقامة الجديدة، حتي نستبدلهم بالجوازات الروسية الجديدة، حينئذٍ، تدفع مجددًا الرسوم الحكومية في سبير بنك، ثم تملأ استمارة طلب الإقامة، تسليم هذه الجوازات الروسية الجديدة من أجل تسجيل الإقامة.
أين دورك في الطابور؟
السيدة التي ترتدي نظارات، أين ذهبت؟
عليك بالبحث عن السيدة إذن.
هناك فتحة في ركن الغرفة عليها غطاءُ طردٍ بريديٍّ، ثبت في السقف بمسامير. من فتحةٍ أخري، قريبة من منتصف الجدار، تتدلي ماسورة صرفٍ، بجوارها دولابٌ به بطاقاتٌ مفهرسةٌ، مال نحو الأرض. وضعت موظفة الجوازات جوازه السوفيتي علي الطاولة، حيث برزت من بين صفحاته استمارةٌ مطويةٌ.
لم يسجلوا إقامتك، - ثم خفضت عينها. عينها اليمني مصابة بحول شديد، لذا فهي دائمًا تجلس ناظرةً لأسفل.
كيف؟
قالوا أيضًا، أنهم لن يغيروا جواز السفر.
ابتسم ابتسامةً مطاطيةً، أخذ الاستمارة ونظر فيها. »‬تسجيل إقامة»، - كتبت بالقلم الأحمر خطَّ فوقَها بقلمٍ رصاصٍ أحمرَ. المعدة، كالمعتاد، وكرد فعلٍ علي الخبر المزعج، زمجرت غاضبة. وضع ميتيا الاستمارة مكانها، ووضع جواز السفر في اليد الأخري.
ولماذا؟
كانت بالطبع تنتظر هذا السؤال. ردت بإجابة جاهزة:
اذهب إلي المدير، سيشرح لك كل شيءٍ.
صر الباب. أحس بأنفاس التالي له في الدور في ظهره.
لا، قولي الحقيقة، لماذا؟
سمع صوتًا آتيًا من خلفه:
ألم تقل لك: اذهب للمدير؟
استنشق ميتيا الهواء، وكأنه علي وشك الانفجار، لكن فجأةً انتابه شعورٌ حادٌّ وجارفٌ بالحزن، واستطاع بالكاد أن يكرر السؤال:
لماذا؟ تعلمين السبب، أخبريني.
كفاك! – قال أحد المنتظرين في الطابور متذمرًا. – لست وحدك هنا.
ننتظر هنا من ليلة البارحة. يا لك من أنانيٍّ!
قالت موظفة الجوازات:
لا يوجد لديك أية مدرجاتٍ: الإقامة في عام 92 – مؤقتةٌ.
ما المشكلة أنها مؤقتة؟ في عام 92 – ماذا يعني هذا؟...
وضعت يديها علي الطاولة مثل المدرسة.
صدر قانونٌ جديدٌ للجنسية.
فعلًا؟
تعالت العبارات الساخرة من الردهة:
ألم يسمع عن القانون!
قالت: وفق هذا القانون، لست مواطنًا روسيًّا.
زادت حدة التوتر خلف ظهره.
كيف؟ لست مواطنًا؟
بسطت كفيها علامة علي أن لا مزيد لديها لتقوله. امسكوا بميتيا من كتفيه.
انصرف، هيا! قالت لك – إلي المدير!
قالت الموظفة مؤيدة: حسنًا! أخرجوه!
فتح فمه ليطرح سؤالًا آخر. بينما تتعالي وتيرة الصخب في الردهة مع كل ثانيةٍ تمر. الفيلق الروماني الهائج انتظر صدور المرسوم. انتظر لثانيةٍ أخري – وستخترق الحراب كتفيك. أخيرًا تذكر:
ماذا عن جواز سفر أمي؟ هل سجلوا إقامة أمي؟ لديها مدرج.
سؤال عن أمه هذه المرة! قالها شخصٌ، ينتظر في الطابور خلفه.
سيقدمون استفسارًا عنها في القنصلية. فقد حصلت علي الجنسية في القنصلية.
آه؟ ربما، - تمتم ميتيا، دون أن يفهم شيئًا، لكنه لم يجرؤ علي معاودة السؤال.
استدار، سار نحو باب الخروج، لكنه دفع الرجل الذي حل محله في الطابور بشيء من التهور، وعاد ليقف أمام مكتب موظفة الجوازات.
كيف لا أكون مواطنًا، ها؟! كيف؟! أنا أعيش في روسيا منذ عام 87!
في هذا الوقت لم يكن لروسيا هذه أثرٌ علي وجه الأرض – بطول وعرض الاتحاد السوفيتي! حسنًا إذن! من أكون الآن؟ من؟ أحمل أية جنسية؟ موزمبيق؟َ!
أمسكوه من أكمامه، زفروا دخان التبغ في مؤخرة رأسه.
لماذا تصرخ في وجهها؟!
يا لك من شخصٍ كريهٍ! تثير أعصابنا علي مدار ساعةٍ، وعلينا أن نتحمل في انتظار دورنا!
سار ميتيا في الردهة المعتمة. مارًا بأناس متجمدين قساةً، وصل إلي المدخل، ومنه للبسطة. وجه كلب هجين راقدٍ فوق البسطة في الباحة، مغلق العينين، أنفه موجه نحوه. »‬حسنًا، فكر، ختموه بالشمع الأحمر». حينئذ، مثل شاحن بموصلٍ بطيءٍ، انفجر رأسه – وأدرك ميتيا بالفعل، ما حدث للتو. رقد، مائلًا للخلف، بينما يقترب منه صوت هديرٍ آتٍ من وراء ظهره. ملايين من الحوافر تطرق الأرض بقوةٍ، تمزقها، تسحقها لتحولها إلي غبار، كيف حدث هذا، أن تصادف وجوده في مسار هذا الهروب المدمر؟؟ حبس أنفاسه، تحرك للأمام ساحبًا رأسه من خلف الزهرية. وقف رجال الشرطة خلفه. بينما يدخنون، طرحوا أسئلة علي الموظفين دون ضجيجٍ. نظر الجميع لأسفل ناحية اليسار، خلف أحد الأعمدة. نظر ميتيا لذات الاتجاه، لكنه لم ير شيئًا، سوي زوجًا من الأحذية البالية، تعلقت في كعبيه سمكة »‬جوبي». جلس أحد رجال الشرطة علي كرسي البار العالي، فاردًا مرفقيه، وكتب شيئًا ما.
نظف ميتيا البقعة قبالته بحذرٍ من بقايا الزهرية، نهض وتحرك ناحية باب الخروج. حالفه الحظ، لم يلمس أي شيءٍ، كما لم يلتفت إليه أحدٌ.
صعق البرد القارس وجهه بقسوة. ما ورد بخاطره، أنه ربما دارت دردشة بين بعض الناس، وشعر بأنين ذقنه الثقيل. لمس ذقنه – الذي انتفخ قليلًا – ضحك.
تلألأ الليل بألوان إشارات المرور. لمعت أسفلها بقع غضة. مستديرة، منبسطة، ممدودة طولًا حتي منتصف الحي– حسب الزاوية. عند التقاطع، توقف ميتيا، متطلعًا، إلي إشارات المرور، وكيف تؤدي عملها الليلي. أحمر – أصفر – أخضر – أصفر. وكيف أصدرت عجلات السيارات صفيرًا علي الأسفلت المبتل، وهي تتوقف متبرمةً مع الضوء الأحمر. ومثل خنفساء كبيرة قوية داخل صندوق، قرعت بقوة، تراقصت أصوات الموسيقي. أحمر-أصفر-أخضر-أصفر. ارتدي الحراس ملابسًا تنكرية. في زاوية شوارع تشيخوف وبوشكين، وقفت سيارة شرطة مفتوحة الأبواب، بينما كان فريق الشرطة يشرب البيرة في علب، يناقشون بصوت مرتفع أمرًا مضحكًا. تسلل مسرعًا إلي الزقاق.
كان الوقت متأخرًا، لكن لم يكن لدي ميتيا أية رغبة في النظر إلي الساعة. ربما لو نظر في الساعة لاكتشف فجأةً أن الوقت متأخرٌ جدًا علي الذَّهاب إلي لوسيا في »‬أبارات» وبالتالي لن تفتح الباب بعد موعد إغلاقه. أين عليَّ أن أذهب إذن؟ إلي البيت، بجدرانه التي غطتها الزهور الأورجوانية؟ ألقي بنفسي فوق الأريكة أمام التلفاز، أرقد، أغير القنوات حتي أشعر بالملل من تلك الصور الناطقة. ثم ينتهي الإرسال، فيصدر التلفاز صفيرًا، تمامًا مثل صفير إطارات السيارات فوق الأسفلت المبتل. لكن يختلف صوت الإطارات في أنه، مفعمٌ بالحيوية، مثير، يحاكي ضجيج الأمواج. أما صفير التلفاز الرتيب فهو يسبب الاختناق. ترقد وتشاهد بعيني أرنب تلك الشاشة الفارغة، التي تبدو كمستطيل كبير كريه المنظر.
خشي ميتيا قضاء تلك الليلة في الحنين للماضي. والأسوأ من هذا – مشاهدة صور أبيض-أسود من الحياة الماضية.
أحب تصويرها.
مشهد جانبي لمارينا. مارينا بوجه كامل. مارينا، تتطلع خارج الخيمة، بوجه ناعس. لملمت شعرها في ضفيرتين، حقيبة نوم، تجمع مثل أكورديون. ابتسامة مارينا الهادئة، عند خروجها من القاعة بعد أن أنهت مناقشتها للحصول علي الدبلوم. سيقان مارينا، التي تبدو كأنها تتهادي علي الأرجوحة. جوارب بيضاء، حذاء تنس رياضي. هو ومارينا أمام مكتب الزواج. يوم أن قدموا طلب الزواج. في محاولة منهما أن تبدو وجوههما جدية: كادر للتاريخ. التقط الصورة عابر بشريط لاصق علي يده. أخذ الكاميرا رغم أن ذراعه مكسورةٌ، عندما ضغط علي الزر، انتفض من الألم. الصورة مغبشة. أشعر بالفضول، كيف صارت الحياة مع هذا العابر الغريب؟ بعد أن أرجع الكاميرا، وعلي بعد خطوتين فقط نسي أمر الشاب، والفتاة التي تقف علي عتبة مكتب الزواج، بينما بقيت الصورة للأبد. والذي كان شابًا، وصار اليوم ناضجًا، يتطلع إلي الصورة، ويتذكر الشريط اللاصق، وارتجافه ألمًا، عندما ضغط علي زر التصوير. وربما، الأمر ليس كذلك. ربما، تسبب الزوجان أمام مكتب الزواج في يقظة ذكري ما عند العابر الغريب، لعلهما قد ذكراه بالجبس والتكشيرة. ولسبب ما ظل العابر يذكرهما طيلة حياته. ويجلس الآن في مكان ما، يربت علي ألمه القديم الذي يعاوده متأثرًا بحالة الطقس، ويفكر: أتساءل، ماذا حل بهذين الزوجين، اللذين التقطت لهما صورة في ذاك اليوم، عندما خرجت من المستشفي؟ كيف حالهما يا تري؟
كل شيء، سيكون كالمعتاد. حتي وصل إلي الصور التي تحمل فيها مارينا في يدها الصغير فانيا، خفق قلب ميتيا بضراوةٍ. ذهب إلي الشرفة للتدخين وبعدها لملم روحه، قبل العودة للحجرة مجددًا، كأن ما ترك علي الأريكة ليس مجموعةً من الصور، إنما بشَرٌ من لحمٍ ودمٍ.
كلا، لا يمكن. تجنب النظر إلي الصور بأية طريقة. في الصباح، بدت عيناه مسحوقتان كعيني كلب هجين، بينما في العمل بدت وجوه المحيطين – مثل الأبواب التي أغلقت بقوة أمام الأنوف. عليه أن يجد طريقه إلي لوسيا. دائمًا ما يجد عندها الخلاص.
لو أمكنه الدخول إلي »‬أبارات» في تلك اللحظة، التي تغني فيها، لوقف عند المدخل. حتي لا يظهر، أو يرتبك – كذلك لأنه، يحب أن يتأمل الجماهير، وهم يتجرعون الكوكتيلات، والفودكا علي أصوات البلوز.
وبمجرد أن لمحته، بالكاد لوحت له بيدها التي غطاها قفاز رمادي طويل. أو قفاز موف طويل. أحيانًا تحييه فقط بأن ترفع إصبعها من علي الميكروفون. بينما يلعب هاينريش شيئًا من ألحان جيرشوين، ستأتي لوسيا إليه في الردهة، تجلس قبالة الطاولة. تلمس ذقنه بذات الطريقة الدافئة التي تفعلها في البيت، تسأل: »‬أين أنت؟»، وبالطبع، يهز كتفيه – لا شيء، أمور الحياة التافهة. تهز لوسيا رأسها – مفهوم، لا شأن لأحد، ها؟ تملك القدرة دومًا علي منح أي رجل فرصة أن يشعر بالجدارة. حتي لو صارت عشيقته، فإنها قادرةٌ علي أن تظل صديقة.
لوسيا دائمًا قريبة منه. أو هكذا بدا له. وبعد مرور ست سنوات كاملة لم يتقابلا خلالها، لم يلتقيا ولو لمرة واحدة حتي علي سبيل المصادفة، في الطريق، أو في المواصلات. ستة أعوام؟ ثلاثة زائد ثلاثة. ثلاث سنوات مع مارينا وفانيوشا ثلاث أخري– مع فانيوشا دون مارينا.
توقف علي مقربة من »‬أبارات» وأشعل سيجارة، بعد أن بحث في جيوبه عن لبان. اختفت الشرائط المطاطية– فقدها. انتابته رغبة شديدة في التدخين، قررأن لا شيء– سيتآكل. كلا، لم يقلع عن التدخين، كما أخبر كافة معارفه. لم يتحمل ذلك لمدة أسبوع. لكنه لم يرد أن يعترف بذلك. دعهم يعتقدون أنه قويٌّ. هدأ البيانو والجيتار، ليتبادلوا حديثًا جادًّا. انتهي حفل لوسيا. ابتعدت عن الميكروفون، أمسكت كأس الكوكتيل من فوق البيانو، وسحبت رشفة من الشفاط. وقف ميتيا، مستندًا بظهره علي حلق الباب. كان الجمهور قليلًا. وفي ركن بعيد، حيث تتواجد سيدة جذابة، تتناول الآيس كريم، كان أرسين ثملًا. رقد أرسين، كالعادة، فوق الطاولة، عاجزًا عن السيطرة علي رأسه. فكر ميتيا - » السيد يلهو».
رأته لوسيا. رفعت سبابتها: »‬مرحبًا». بعد أن استمع إلي النغمات تخبو، ذهب ميتيا إلي الطاولة، أومأ في طريقه للساقي. ميتيا قليل الحديث مع »‬فئة» الساقين، كأن الغطرسة معيارٌ لاختيارهم، غارقون في عالَمٍ خاصٍّ مغلق، وكأن طاولة البار عزلتهم عن العالم من حولهم. فوق كل طاولة، الخالية منها والمشغولة، اشتعلت أضواء أباجورات متدليّة صغيرة. وضعت الأباجورات علي نحوٍ يجعل دائرة ضوئها مسلطةً فقط علي مساحة الطاولة. فكر: »‬لسوء حظه أنه لم يذهب مباشرة إلي »‬أبارات» لتناول الشراب في الدفء، علي أنغام الموسيقي. هكذا – بعيدًا عن الناس، الجماهير. كان أفضل له: ما كان لينحشر، حيث لم يدعُهُ أحدٌ.
بعد أن سحبت رشفتين من خلال الشفاطة،أعادت لوسيا الكوكتيل إلي مكانه فوق البيانو ثم انحنت، همست بشيءٍ لهاينريش. عقد هاينريش حاجبيه، لوي شفتيه. خمن ميتيا: ستغني شيئًا ليس علي هوي هاينريش. لكِنْ بينهما اتفاقٌ: أنها ستغني ما يحلو لها مرةً كل أسبوع.
سيسوقني التعجل دون طريق، بلا أثر إلي أغنيتي المفضلة »‬ميراني».
نادرًا ما أدت لوسيا »‬ميراني». حتي أن هاينريش يعتقد أن غناء البلوز بالروسية – تمامًا مثل صهيل الحصان. لكن لوسيا أصرت، فدون هاينريش بعض النغمات ليلعبها علي المفاتيح. فهو ينفذ ما تطلبه. هاينريش من أولئك، الذين لا يمنحون أو يأخذون شيئًا علي سبيل الدَّيْنِ، إنما من هؤلاء الذين يمكنك أن تسأله أن يعطيك سيجارة بعد تمهيد طويل المدي. لكن عندما تقول لوسيا: »‬هاينريش، ألم يكن باستطاعتك أن تفعل؟» – يبدو، أن هاينريش بإمكانه أن يفعل أي شيء. حينما يكون ميتيا ثملًا ومسرورًا حدَّ الألم. لم يكن لديه من يلقي عليه مرحه، أتي إلي لوسيا. لكنَّ »‬أبارات» مغلق الآن للإصلاحات. في الحجرات الخلفية، سمع صوت المطارق، وارتطام شيءٍ مسطَّحٍ علي الأرض، وتباينت فترات تردد الصدي الآتية من أغطية الأرض نتيجة للارتطام. في الصالة، باستثنائه هو ولوسيا، كان الجميع من الموسيقيين: هاينريش، ستاس، فيتيا – فارينيك. اجتمعوا لعمل بروفة، وسمحوا له بالجلوس لكن بهدوءٍ، علي ألا يعطلهم. لم يلتزم. قاطع محاولته الطويلة المضنية أن يلعب توزيعه الخاص ل »‬أوان الصيف»، هدوء عصبي ونكات بلهاء متبادلة.
مر هاينريش بأصابعه علي المفاتيح، وكأنه كان يريد العثور علي شيء تحتها. انكسر اللحن وتغير حتي صار غريبًا. وقفت لوسيا ليس ببعيد، لتسوي شعرها بالمشط. عند حدوث أي موقف صعب، فإنها تلهي نفسها بشعرها علي الفور. صعِدَ ميتيا إليهم علي المنصة، سحب الميكروفون بهدوء، مستغلًّا اللحظة، وشرع في الغناء:
تأخذني العجلة دون طريق، بلا أثر إلي ميراني.
التلفت الجميع ناحيته. تبادل ستاس وهاينريش النظرات، وهز هاينريش كتفيه بلا مبالاة.
سأل ستاس - ما هذا؟
باراتاشفيلي.
من؟ اه، لا يهم. – رفع ستاس الهارمونيكا إلي فمه.- حسنًا! ربما لا يبدو الأمر سيئًا. هيا، استمر شفيلي، - ثم لوح بشكل معبر لهاينريش، قائلًا، لا شأن لك، اعزف.
رغم أن هاينريش بدا عابسًا، فإنه بدأ العزف، بينما ميتيا، لأول وآخر مرة في عمره، تحت أصوات المطارق خلف الجدار، و علي أنغام البلوز، غني قصيدة مألوفة من أشعار باراتاشفيلي. »‬أسرع، عزيزي ميراني، لن نوقف حريتك ولا عنادك. انثر النسيم علي أفكاري السوداء».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.