استسلمت لفضولي البشري، وأنا أذهب في رحلة قوامها أكثر من 30 يومًا، تتزامن مع شهر رمضان الكريم ثم عيد الفطر، واخترت القطار وسيلة للتنقل بين البلدان كونه أقدم وسيلة نقل يمكن أن يجوب بها المرء العالم وخاصة بعدما تطور وزادت سرعته بشكل كبير وبات يعبر في الماء أيضًا، وجعلت من الصين محطتي الأولي علي أن أحدد بقية محطاتي لاحقًا، وأصر الصديق نبروسكي أن يرافقني كدليل لخبرته الكبيرة ببلاد حضارة الشرق الأقصي الراسخة. جمال المراغيالصين، نعم الصين، »لماذا؟»، ربما لأنها أقدم حضارة علي الأرض استطاع أبناؤها أن يحافظوا علي تراثها حيًا فيهم، أو رد فعل لاهتمامها وحرصها حكومة وشعبًا علي التبادل الثقافي مع الشعوب العربية في السنوات الأخيرة، أو للوقوف علي حقيقة اضطهاد الصين للمسلمين الذي أخذت تلوكه بعض الصحف الغربية، أو ربما لكل هذه الأسباب معًا، أو لغيرها يخفيه عني اللا وعي. والحقائق التي لا جدال فيها، ولا يجب الوقوف عندها قبل الانطلاق، تقول أن في الصين ما يقرب من 25 مليون مسلم أي ما يزيد عن 1% من تعداد شعبها، وأن الإسلام عرف هذه البلاد منذ أكثر من 1200 عام وقدم مساجدها التي اقترب عددها من 40 ألف مسجد شاهد علي ذلك وعلي اهتمام أباطرة البلاد بالإسلام تاريخيًا، وحتي الوقت الراهن، فالحكومة هناك جعلت للدولة خمس ديانات أساسية الإسلام إحداها. تبدو بداية الرحلة محيرة نظرًا لكبر مساحة الصين واتساعها، وقد تعمل هنا بنصيحة البعض بأن تذهب إلي إحدي المدن يشكل فيها المسلمون الأغلبية، وإن كانت بكين وجهتك ففي قلبها حي كبير يقصدونه، وعقب مغادرة المطار، وهناك علامات خاصة تشير إلي »حي نيوجيه» بقلب العاصمة وضعت أثناء الاستعداد للشهر الكريم. بهذا الحي مسجد يحمل اسمه، ويعد من أقدم المساجد في الصين حيث تأسس عام 996 ميلادية، وعمل الصينيون علي الاهتمام به وتوسيعه حتي بلغت مساحته 650 مترًا مربعًا إضافة إلي ساحة كبيرة تابعة له أضعاف تلك المساحة، وأول ما ستلاحظه هناك هو حرص الصينيين علي الصلاة الجماعية في مجموعات قد تتجاوز الواحدة منها الألف وخلال كل الأوقات من الفجر وحتي العشاء. ويحرص عدد ليس بالقليل من الصينيين علي مشاركة المسلمين في الصوم طواعية، وعند أذان المغرب تجد البعض الآخر يشارك بحمل صواني بها تمر وفواكه مجففة وأكواب من اللبن، وعقب انتهاء الصلاة يصطف المصلون ويمرون علي الطاولات أعدت خلال دقائق، ليتناول كل منهم وجبة خفيفة من المعجنات المحشوة باللحم. تجد الصينيين في هذا الحي بل وفي كل مكان ستذهب إليه ببكين وغيرها من المدن التي يتواجد بها المسلمون يرددون طيلة الشهر عبارتي »رمضان كريم» و»السلام عليكم» بسعادة كبيرة، وأنهم ودودون للغاية، ويدركون جيدًا أن لديهم ما يجب أن يحافظوا عليه، جزء أساسي منه هو تماسك النسيج الشعبي والإسلام بدوره جزء أساسي منه، وهو ما يدفع بعضا من أبناء هذا الشعب للتعامل بحكمة مع بعض القرارات التي تصدر من الحكومة وتبدو غير مريحة للمسلمين، فيجعلونها مرنة إلي حد ما من جانب، ويوضحون أسبابها لهم من جانب آخر وأنها موجهة ضد المتطرفين بالأساس. بعد بضعة أيام من التجول السريع بين المدن والربوع الصينية؛ ستلمس مظاهر شهر رمضان في كل مكان تذهب إليه، والتي لا تخلو من سجادات الصلاة واللوحات المناسبة وكذا الساعات والملابس وغيره. تشارك العديد من المعابد أيضًا في الاحتفال بالشهر المعظم، وتراها تحث رعاياها علي الاهتمام به، وأنها وبعد سنوات طويلة من تدارس الحكمة التي وراء الصيام وما يعود علي الجسد والروح من فوائد، وأهمها فضيلة الصبر وضرورة غرسها في الأطفال، خاصة مع امتداد ساعات الصوم هناك لنحو 17 ساعة، لهذا توفر عددًا من البرامج الغذائية المناسبة، ومن تلك المعابد، »هانغتشو فينيكس» وهو أقدمها في الاحتفال بالشهر الفضيل، ولم يتوقف عن طقوسه حتي بعد بناء مسجد بالقرب منه، بل أصبح الأمر مشاركة بين المعبد والمسجد والساحة بينهما. ولا تخلو أي من موائد الافطار الجماعي هناك من البطيخ، حيث تشتهر به المنطقة سواء كثمار مقسمة أو كعصائر، ويبدأ الاستعداد لرمضان قبلها بنحو شهرين، وما يتعلق بتدابير النظافة والسلامة تحديدًا، خاصة مع الحشود المتوقعة، وكذلك دعوة المتطوعين لخدمة المحتفلين، ودعوة رجال الفكر والدين للحديث مع من يرغب في ذلك ومناقشتهم في الأمور التي تشغلهم، وتستغل المعابد هذه الأجواء الروحانية في جمع التبرعات من أجل الفقراء ليس لإطعامهم فقط ولكن لمساعدتهم في مختلف النواحي. تنضم بدورها الجامعات الصينية المختلفة لتحتفي بشهر رمضان، حيث تحرص كل منها علي عمل مقاصف توفر بها الوجبات التي يحبذها المسلمون، وتعد جامعة »شنغهاي» رائدة في ذلك، والتي سمحت أيضًا بعمل خيم بالجوار خارج الحرم الجامعي، وتعمل الجامعات علي التصدي لأي مشاكل عرقية وغيرها عبر نشطائها علي الانترنت، تجلي هذا بوضوح في العامين الأخيرين، ويقوم عدد من الاساتذة قبل حلول الشهر بتوعية طلابهم بكيفية التصرف خلاله، ولا تتوقف المناقشات خلال الشهر وما بعده بقليل. واللافت للنظر أن الوجبات الخاصة بالمسلمين أقل ثمنًا عن غيرها، إلي جانب التخفيضات التي تفرضها الجامعات خلال شهر رمضان، وهناك أخري مثل جامعة »فودان» تقدم وجبات مجانية لجميع طلابها خلال الشهر أيضًا. تشهد المدن الصينية وخاصة هانغتشو وبكين وما حولهما رواجًا لا مثيل له للفوانيس من حيث تنوع أشكالها والتي يُباع منها داخل البلاد أضعاف ما تستقبله الدول الإسلامية خارجها، وهي تختلف كثيرًا عنها، وتشبه ما يستخدمونه أثناء الاحتفال ببداية العام وغيرها من الأعياد، كما يكثر تداول الوسائد ذات الزخارف المميزة والمعبرة عن شهر رمضان وعيد الفطر. كما تعمل العديد من الفرق الفنية علي مشاركة المسلمين علي الاحتفال بشهر رمضان، ومنها فرقة »الفنانين الشعبيين للموسيقي التقليدية» بمدينة شينجيانج التي تقيم حفلاتها نهارًا وليلًا، وتقدم فيها مقطوعات وأناشيد خاصة بالشهر الكريم. تتحول الصين إلي ساحة ضخمة للقراءة وخاصة للأطفال في كل مكان، في المساجد والمعابد والخيم والميادين المفتوحة، وتشكل ما يطلقون عليها »حلقات السمر» قبل المغرب وعقب العشاء سواء للقراءة أو إلقاء القصص المناسبة لهم، والتي لا تخلو من سير الشخصيات الإسلامية والدينية بشكل عام، ومن المظاهر التي لا يمكن إغفالها أيضًا وخاصة في المناطق القريبة من البحيرات والسهول الخضراء والجبال؛ هي الجلوس قبل غروب الشمس وتأمل الطبيعة التي أبدع الرحمن في خلقها. ها هي الرحلة قد أوشكت علي الانتهاء، وتطبيق »أذان» جعل التليفون المحمول يهتز، وهو التطبيق المعد خصيصًا هنا للتذكير بمواعيد الصلاة، حيث اقترب موعد الإفطار الأخير، لأنطلق بعدها إلي محطتي التالية، إلي روسيا تكريما لصديقي نبروسكي مرشدي في هذه الرحلة.