قام المصريون القدماء بالتعامل مع المحاصيل الزراعية الوفيرة بطرق مختلفة، وذلك بتحويلها إلي مواد أكثر فائدة وقبولاً للإنسان باستخدام عدة تكنولوجيات تمكن من ابتكارها. أحد أهم هذه التكنولوجيات هي تكنولوجيا طحن الحبوب وتحويلها إلي مسحوق ناعم (الدقيق). كانت آلة الطحن الأولي التي استخدمها الفلاح المصري القديم عبارة عن كتلتين من حجر الصوان توضع الحبوب بينهما ويتم تحريكهما باليد حتي يتحول الحب إلي مسحوق. تطورت آلة الطحن هذه لتصبح عبارة عن كتلة مسطحة من الحجر كبيرة نوعاً ومائلة قليلاً. توضع الحبوب في الطرف الأعلي من المسطح وفوقها كتلة صغيرة من حجر الصوان أيضاً بيضاوية الشكل يتم تحريكها باليد (22 و23) حتي يتم طحن الحبوب فيتجمع الطحين بسبب ميل المسطح في وعاء فارغ يوضع في نهاية الطرف الآخر المنخفض نوعاً. ابتكر المصريون القدماء المناخل ذات الثقوب المختلفة الأحجام لفصل مكونات الطحين عن بعضها البعض بحسب الحجم وكلها تكنولوجيا مازالت تستخدم بنفس المفاهيم حتي وقتنا هذا. استخدم المصريون القدماء الطحين في صناعة أنواع مختلفة من المواد الغذائية أهمها بدون شك هي صناعة الخبز. تعتبر صناعة الخبر من أهم التكنولوجيات التي ابتكرها المصري القديم والتي تمت علي عدة مراحل بدأت بعمل العجين بإضافة الماء إلي الدقيق وعلي مدي فترة من الزمن ليست بالقليلة، تعرف فيها المصري القديم علي أهمية عملية تخمير العجين ليكتسب قواماً وطعماً أكثر قبولاً. والتخمير هو عملية بيوكيميائية توصل إلي معرفتها المصري القديم واستخدمها في صناعات أخري سيتم التعرض لها لاحقاً. كان للمرأة المصرية القديمة دور في صناعة الخميرة اللازمة لصناعة الخبز، فكانت تقوم بعمل العجين وتضعه مكشوفاً فوق أسطح المنازل في يوم معين من السنة حتي الفجر يسمي يوم النقطة فتتخمر العجينة وتنتفخ فيتم حفظها وذلك بلفِّها في لفائف من القماش. تضاف قطعة من هذه الخميرة إلي العجين في كل مرة يتم فيها عمل الخبز. أثبتت البحوث العلمية التي تمت منذ عدة سنوات في وحدة تكنولوجيا الخبز بمركز البحوث الزراعية في وزارة الزراعة بإشراف الأستاذ الدكتور / أحمد خورشيد في ذلك الوقت، أن في هذا اليوم من السنة بالذات في وقت معين قبل الفجر يتواكب وظهور نجم معين في السماء يتكاثر نوع معين من البكتيريا بدرجة كبيرة ومتسارعة هي التي تسبب عملية التخمير. ويعتبر الخبز أشهر مادة غذائية أساسية عند أغلب شعوب العالم حتي وقتنا هذا، ويصنع بنفس مفهوم التكنولوجيا المصرية القديمة. ابتكر المصريون القدماء تكنولوجيا في منتهي البساطة لعصر بعض أنواع الفاكهة للحصول علي مشروبات أكثر جاذبية. كانت العصَّارة الأولي عبارة عن جوال أسطواني الشكل مثبت من كلا الطرفين في عمودين رأسيين من الخشب وتوضع فيه الفاكهة المطلوب عصرها ويغلق الجوال. يقف عند كل طرف من العصَّارة عامل يقوم بلي الجوال في اتجاه عكس الاتجاه الذي يقوم به العامل الآخر، وبزيادة الضغط تخرج العصارة من الجوال المصنوع من قماش معين يسمح بخروجها في شكل سائل يتم تعبئته في أوعية لحفظها. تم استخدام هذه التكنولوجيا البسيطة في استخراج الزيوت من الزيتون والسمسم والخروع وبذر الكتان وهي الزيوت التي مازال العالم يستعملها إلي الآن. تمكن المصري القديم أيضاً من استخلاص المواد السكرية من بعض الفواكه مثل البلح والتين والخروب، كما ابتكر تكنولوجيا التقطير لاستخراج بعض المواد من نباتات معينة عطرية للحصول علي نكهات مختلفة بمزجها بعصائر الفاكهة وبمواد غذائية أخري مثل أنواع الخبز والحلوي لتعطيها مذاقاً أكثر جاذبية وكان مبتكرو هذه النكهات يحتفظون بسرها ولا يبوحون به وهو ما يمكن وصفه بأن قدماء المصريين قد توصلوا إلي مفهوم الملكية الفكرية التي يعرفها الآن العالم وتمكن من تقنينها بعد آلاف السنين. استخدم المصريون القدماء تكنولوجيا التخمير للحصول علي أنواع أخري من المشروبات وكانت البداية هي تخمير البلح الغني بالمواد السكرية ويحتوي أيضاً علي الكائنات الدقيقة (البكتيريا) اللازمة للتخمر وبعد أن يتم تخميره يتم عصره للحصول علي عرق البلح. استخدمت أيضاً نفس التكنولوجيا للحصول علي مشروب العنب المخمَّر (النبيذ) وكذلك للحصول علي عصير الشعير المخمر (الجعة) الذي كان من أكثر المشروبات قبولاً لدي المصريين القدماء وكان يتم تخمير الشعير بعد إنباته برشه بالماء ويترك لعدة أيام ثم يضاف إليه المزيد من الماء ويتم عصره. كانت كل هذه المشروبات تحفظ في أوعية خاصة بها (انظر تكنولوجيا صناعة الأوعية والأواني). ابتكر المصريون القدماء عدة طرق لحفظ المواد الغذائية من خلال تكنولوجيات في منتهي البساطة منها التمليح باستخدام الملح الذي تمكنوا من الحصول عليه من المياه المالحة وقاموا بتمليح الأسماك واللحوم وأيضاً توصلوا إلي حفظ المواد الغذائية بواسطة التدخين أي معالجة الأسماك واللحوم بدخان النار بمعزل عن الهواء وأيضاً تم حفظ العديد من المواد الغذائية سواء كانت لحوماً أو أسماكا أو فاكهة أو خضراوات بواسطة التجفيف في الشمس أي باستخدام الطاقة الشمسية وكلها تكنولوجيات مستخدمة حتي وقتنا هذا.