حين أنجز روايته الأشهر »عزازيل»، تخيلنا أنها ستظل اللعنة التي ستطارده إلي الأبد، فيوسف زيدان هو عزازيل، وعزازيل هي يوسف زيدان، ومهما أنجز سواها، فلن يُذكر سوي بها، تماماً كمحمد شكري وروايته »الخبز الحافي». لكن تأتي روايته الفارقة »فردقان» لتُثبت أن الموهبة لم ينل منها شيء، وأن المبدع لقادر علي إنتاج أروع الأعمال طالما ظل يتنفس. الرواية الصادرة عن دار الشروق أكتوبر الماضي، تحكي عن أشهر العلماء المسلمين، الطبيب والفيلسوف »ابن سينا»، والذي لُقِّب ب»الشيخ الرئيس»، و»الوزير الحكيم» و»المُعلم الثالث». و»ابن سينا» هو لقب عائلته، وكنيته »أبو علي»، واسمه كاملاً »الحسين بن عبد الله بن سينا»، المولود عام 370 ه في قرية أفشنة قرب بُخاري (تقابل حالياً أوزبكستان) لأب شيعي وأم سنية، والمتوفي في همذان عام 428 ه. تبدأ الرواية من أواخر عهد الدولة السامانية، مروراً بالبويهيين واستغراقهم في الصراع وتجاهلهم لتهديدات الغزنوي، حتي سقوط إماراتهم (أصفهان وهمذان والري وقزوين) ومن قبلها بلاد الهند في يد السفاح محمود بن سُبُك تكين الغزنوي. عنوان الرواية هو اسم القلعة التي احتُبِس فيها ابن سينا معتقلاً مدة مائة وخمسة وعشر يوماً تهدئة وامتصاصاً لغضب العسكر والمماليك والجند، حيث تستعرض الرواية سبب الاعتقال، فقبل ذلك بسنوات، في همذان، ألَّف ابن سينا كتاباً عن تنظيم أمور الجند والعسكر وكتب فيه أن المماليك والمسالحة حين يبتعدون عما اعتادوه من خوض المعارك وسُكني الحصون والثغور، ويساكنون الناس في القري والمدن، يصبحون من الأراذل وشرار الخلق، وينسون ضوابط الجندية، ثم يرون الناس غنيمة، فيسعون إلي مزيد من تحصيل المنافع ولو بالظلم، ويتمنون الإمارة والسلطة والسلطنة، فبدأ الجند في التشنيع عليه والنيل من مكانته كوزير للأمير »شمس الدولة أبي طاهر البويهي»، فاقتحموا منزله ونهبوه وحبسوه وأرادوا قتله، لكن الأمير أجابهم بأنه سينفيه، لكنه لم يمتثل واختبأ في منزل صديقه »ابن دخدوك»، وبعد أحداث عدة مات الأمير، وأتي من بعده ولده »سماء الدولة» وأراد أن يستوزر ابن سينا، فاستعفي منه وأراد أن يرحل إلي أصفهان ليكون بصحبة أميرها »علاء الدولة بن الكاكوية»، لكنه لم ينجح في ذلك، لينتهي به الأمر إلي القبض عليه وحبسه في تلك القلعة التي تتبع إمارة همذان. في تلك الرواية البديعة، نطَّلع علي فترة مضطربة وشائكة من تاريخ المسلمين، ف »دولة الإسلام قد صارت شذرات ممزقة. فالخلافة في بغداد أمست منذ فترة طويلة اسماً بلا رسم، وشكلاً لا دلالة له. الخلفاء يتنعمون بالملذات في قصورهم، وينتظرون الفيء والهدايا من أمراء استقلوا بالبلاد شرقاً وغرباً. ففي الجانب الشرقي البويهيون وبنو الكاكوية، ومن قبلهم السامانيون وقابوس ومأمون بن المأمون، والآن محمود بن سُبُك تكين. وفي الجانب الغربي الحمدانيون في حلب، والخلفاء الفاطميون في مصر، وآل زياد في زبيد، وأمراء الطوائف في المغرب والأندلس.. الكيان الذي كان كلياً، يتفكك، لكن الناس تعيش في ظلاله دون أن تدري لأنه يذوي ويزوي، وسوف يسقط قريباً ويضمحل. كما نري الغزوات الدموية المتتالية لمحمود الغزنوي السنيّ الأشعري لنشر الإسلام في بلاد الهند، حيث أريق فيها دماء الآلاف من النفوس، وقُتل فيها الرجال، وسبيُت النساء، ونُهبت فيها ربوع البلاد، وهُدِّمت المعابد. ويتساءل الكاتب: »ألا ُينصر الدين، ويشيع المذهب إلا بسفك الدماء!» ثم نري زحف الغوريين »السُنة» من الشرق، ومن الشمال كذلك هبط المسلمون السلاجقة »السُنة» علي مُلكِ أبناء محمود الغزنوي »السُنيّ». ابن سينا، الشاب النابه الذي حفظ ما تحويه المكتبة الضخمة لسلطان بخاري في عمر الثامنة عشر، اضطر في عمر الثانية والعشرين لهجر بخاري بعد موت سلطانها، ثم موت أبيه، وثورة الأمراء البخاريين علي مليكهم الجديد الضعيف، وكان ذلك قبل وصول الغزنوي، و ارتحل إلي »كركانج» بخوارزم ليعيش في كنف أميرها »مأمون بن المأمون» الذي احتوي بلاطه نصف علماء الأرض، لكن يأتي أمر محمود الغزنوي بشحن كل أولئك العلماء إلي قصره في غزنة (يقابلها الآن كابُل)، ليتباهي بهم في بلاطه. ويفر ابن سينا من هذا المصير، وهنا يقول قوله الشهير: »لما غلا ثمني، عدمت المشتري». وفي ارتحالاته التي دامت عشرين عاماً، طوًّف ابن سينا بأنحاء خوارزم وبلاد فارس، وخلال تجواله لم ينقطع عن الكتابة والتأليف يوماً واحداً. كان البحث والعلم والكتابة ضروراته لمجابهة وعورة الحياة، وقد ألف أكثر من مائة كتاب، منها: »الأرصاد الفلكية»، »المبدأ والمعاد»، »الهداية في المنطق»، ومن أشهرها: »الشفاء» الذي اختصره لاحقاً في كتاب بعنوان »النجاة»، »القانون في الطب» إذ رأي أن للتوازن قانوناً واجب المراعاة في أحوال البدن، مثلما هو لازم في شئون الناس بالقري والمدن، وله »رسالة في القولنج» لم يتمها، ومن الكتب التي فٌقِدت »البر والإثم»، »الحاصل والمحصول»، »الحكمة العروضية». الرواية تعج بالعلاجات الطبية، خاصة فيما يخص القولون، والجهاز الهضمي، وحشو الأسنان، وحصوات الكلي، وأمراض النساء، وحتي العلاج النفسي. وتستعرض العديد من العلماء والعباقرة المسلمين المجايلين لابن سينا والذين سبقوه، وكذلك منتوجهم العلمي والبحثي. لنكتشف أنه كان العصر الذهبي للعلم والبحث في تاريخ المسلمين كله وحتي الآن. كما تستعرض منهج ابن سينا العقلي حيث يؤمن بأنه »لا يجوز الاحتجاج بالنقل لدحض الحجج العقلية، لأن العقل مقدم بالضرورة علي النقل، باعتبار كونه مناط التكليف وشرطه الأول. وأن النصوص النقلية وردت في الشرائع لخطاب العوام والجمهور، لا للخواص والعلماء، لكن كثيراً من الفقهاء قطعوا علي العوام طريق الترقي في الفهم بإيهامهم أن النقل مقدم علي العقل، وأنه لا اجتهاد لما ورد فيه نص. وهذا يعني منع العقل عن النظر في ظاهر النص وباطنه، وهذا ما ترتب عليه الخلط في الاعتقادات. وهذا مزلق خطير». لكن منهجه العقلي هذا فتح عليه وعلي غيره أمثال الفارابي، والرازي، والكِندي، وابن الهيثم، وغيرهم ممن اتبعوه، لاحقاً، أبواب الاتهام بالكفر والزندقة، مع أنه كان محافظاً علي صلواته، وبرهن علي وجوب النبوة، وفي كتابه »الهداية» يبدأ بالبسملة والصلاة علي نبي الرحمة. هنا التاريخ يعيد استنساخ نفسه، بالسيناريو ذاته المُتَّبع منذ أكثر من ألف عام وحتي الآن مع أي مفكر أو مجتهد يحذو حذواً مخالفاً للمجموع و»المعروف بالضرورة». تبيَّن لنا الرواية الفرق بين مذهبه المشهور في مسائل الأخرويات وما يتعلق بالبعث والمعاد (يوم القيامة)، والذي أوضحه في كتابه »المبدأ والمعاد»، وبين مذهبه المستور في المسائل ذاتها والمنبني علي فلسفته »المشرقية» التي تبناها لاحقاً، والتي تعتمد علي إشراق العقل بالرياضة الروحية، فبكثرة الإشراق تكثر الأنوار الإنكشافية، وتتولد الحقائق الصادقة، وكيف أن الأولي التي تتبني الفلسفة »المشًّائية» لأرسوط تناسب العوام، أما الثانية فهي للخواص. »فردقان» لا تتبع خطاً زمانياً مستقيماً، فأحياناً نحن في الحاضر، وأخري في الماضي، كما تتبني تقنية الفلاش باك، والمتكلم هو الرواي العليم. وهي مقسمة لسبعة فصول، ستة منها بأسماء شخصيات تماست مع ابن سينا، والفصل الأخير حمل عنوان »حي بن يقظان» وهي قصة فلسفية رمزية شهيرة هو أول مؤلف لها، وقد نسبت أيضاً لابن طفيل والسهروردي، وتأثر بها الأدب الإنجليزي لاحقاً، فتحولت لقصة »روبنسون كروزو». الكتابة عند يوسف زيدان أقرب لأساليب المتصوفة، دونما تعقيد أو ترميز مكثف. الأسلوب شاعري، والعبارات تحوي موسيقي داخلية، مثالاً: »حنو المنح»، »أفعوانية الدلال المفعم بالعنفوان». دراسة الروائي الفلسفية، بالإضافة إلي عمله وما أتاحه له من اطلاعات علي المخطوطات القيمة والنادرة، ومباحثه العديدة في التصوف وأساطينه، ألقت بآثارها هنا. فكل ما سبق حاضر في تلك الرواية. لكن لم يطغ أي من ذلك علي جسدها فحوَّلها لأطروحة فلسفية، أو جعلها استعراضاً وسرداً لما ورد في كتب ابن سينا، فيكفي أن يُلمِّح زيدان إلي العلاقة الندية والجدلية، وربما المتوترة بين ابن سينا والبيروني، لنبحث فنعرف أنه كان بينهما رسائل متبادلة تبحث المسائل العلمية في هيئة أسئلة وأجوبة، وقد فنًّد فيها ابن سينا أقوال البيروني الذي هاجم أرسطو، وانتصر فيها ل»المعلم الأول» (أرسطو) حيث كان يعتنق وقتها (أي في شبابه) فلسفته »المشَّائية». ويكفي أن يطرح مصطلح »الفلسفة المشرقية» لنعرف أنها فلسفة »الحكمة المتعالية»، أو تعبير »العقول العشرة» لندخل في نظرية الفيض. هو لا يكف أبداً عن لعبته الأثيرة، وهي إثارة عقلك ودفع فضولك للتنقيب والبحث عن معاني الأشياء، وولوج مناطق تجهلها تماماً. يضع يوسف زيدان الرواية بين راحتيك، ويقول لك اقرأ واغترف من العلم، يناولك طرف خيط، فتظل تتلمسه حتي تصل لنهايته. فطوبي لتلك الروايات التي تفتح أمامنا آفاقاً لا نهائية من المعرفة والتحليق.