محافظ شمال سيناء: طرح رفح الجديدة وقرى الصيادين والتجمعات التنموية أمام المنتفعين    عيد القمح    نائب محافظ البحيرة تبحث مع الصيادين وتجار السمك دراسة إدارة تشغيل ميناء الصيد برشيد    مقترح أمريكي لاستخدام عوائد الأصول الروسية المجمدة لدعم أوكرانيا    المغرب يستنكر بشدة ويشجب اقتحام متطرفين باحات المسجد الأقصى    الصين ترسل طاقما مكونا من ثلاثة أفراد إلى محطة تيانجونج الفضائية    الدوري السعودي، رياض محرز يقود أهلي جدة أمام الرياض    "كسر رقم جوزيه ومعادلة الترجي".. أرقام قياسية تنتظر الأهلي في مباراة مازيمبي بدوري الأبطال    "أنا مشجع كبير".. تشافي يكشف أسباب استمراره مع برشلونة    الأهلى يخسر أمام بترو الأنجولي فى نصف نهائى الكؤوس الأفريقية لسيدات اليد    طاقم تحكيم نسائي بالكامل لإدارة مباراة في الدوري الإيطالي    التصريح بدفن مدرس لقي مصرعه داخل أسانسير في المرج    عامل يتهم 3 أطفال باستدراج نجله والاعتداء عليه جنسيا في الدقهلية    بعد تكريم والدها.. ريهام عبد الغفور تتصدر التريند    الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    «القطر مش هيتأخر».. مواعيد القطارات المتحركة بالتوقيت الشتوي بعد تطبيق الصيفي    وزارة التخطيط تشارك في الدورة العاشرة للمنتدى الأفريقي للتنمية المستدامة    10 ليالي ل«المواجهة والتجوال».. تعرف على موعد ومكان العرض    يمنحهم الطاقة والنشاط.. 3 أبراج تعشق فصل الصيف    الأسواق الأوروبية تغلق على انخفاض .. وارتفاع أسهم التعدين 1.9%    في اليوم العالمي للملاريا.. أعراض تؤكد إصابتك بالمرض (تحرك فورًا)    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    "إكسترا نيوز": معبر رفح استقبل 20 مصابًا فلسطينيًا و42 مرافقًا اليوم    دعاء يوم الجمعة.. ساعة استجابة تنال فيها رضا الله    استجابة لشكاوى المواطنين.. حملة مكبرة لمنع الإشغالات وتحرير5 محاضر و18حالة إزالة بالبساتين    سبب غياب حارس الزمالك عن موقعة دريمز الغاني بالكونفيدرالية    بيان مشترك.. أمريكا و17 دولة تدعو حماس للإفراج عن جميع الرهائن مقابل وقف الحرب    وزير الرياضة يشهد انطلاق مهرجان أنسومينا للألعاب الإلكترونية    تفاصيل اجتماع المجلس الأعلى للمستشفيات الجامعية برئاسة وزير التعليم العالي    دعاء الاستخارة بدون صلاة .. يجوز للمرأة الحائض في هذه الحالات    مدرب صن دوانز: الفشل في دوري الأبطال؟!.. جوارديولا فاز مرة في 12 عاما!    رد فعل غير متوقع من منة تيسير إذا تبدل ابنها مع أسرة آخرى.. فيديو    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    التحقيق مع المتهم بالتحرش بابنته جنسيا في حدائق أكتوبر    إصابة سيدة وأبنائها في حادث انقلاب سيارة ملاكي بالدقهلية    جامعة حلوان توقع مذكرتي تفاهم مع جامعة الجلفة الجزائرية    تداول 10 آلاف طن بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    طريقة عمل مافن الشوكولاتة بمكونات بسيطة.. «حلوى سريعة لأطفالك»    ضبط عامل بتهمة إطلاق أعيرة نارية لترويع المواطنين في الخصوص    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    وزارة العمل تنظم فعاليات «سلامتك تهمنا» بمنشآت السويس    الكرملين يعلق على توريد صواريخ "أتاكمز" إلى أوكرانيا    مشايخ سيناء في عيد تحريرها: نقف خلف القيادة السياسية لحفظ أمن مصر    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    "ميناء العريش": رصيف "تحيا مصر" طوله 1000 متر وجاهز لاستقبال السفن بحمولة 50 طن    أبطال سيناء.. «صابحة الرفاعي» فدائية خدعت إسرائيل بقطعة قماش على صدر ابنها    «التعليم» تستعرض تجربة تطوير التعليم بالمؤتمر الإقليمي للإنتاج المعرفي    مستقبل وطن: تحرير سيناء يوم مشهود في تاريخ الوطنية المصرية    محافظ قنا: 88 مليون جنيه لتمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر خلال العام الحالي    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    افتتاح وتشغيل 21 سرير عناية جديد بمستشفي الكرنك في الأقصر تزامنا ذكرى تحرير سيناء    حدث ليلا.. تزايد احتجاجات الجامعات الأمريكية دعما لفلسطين    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    أول تعليق من ناهد السباعي بعد تكريم والدتها في مهرجان قرطاج السينمائي    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    اختيارات النقاد.. بعد سيطرة الكوميديا ما هى الأفلام الأنسب لموسم العيد؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد صادق سعد.. مفكر من طراز فريد
نشر في أخبار السيارات يوم 16 - 02 - 2019

في مطلع عام 1983، كنت أعمل أنا والصديق الشاعر والناقد والمسرحي محمود نسيم مع الشاعر الراحل حلمي سالم، وذلك في المركز العربي للإعلام، وكان هذا المركز يملكه الكاتب الصحفي مرسي النويشي، وهو أحد أساتذة حلمي سالم المباشرين، وذلك في بلدته »الشهداء« قبل أن يأتي إلي المدينة، وكنا نحاول بقدر الإمكان أن نبحث عن موضوعات صحفية ذات طبيعة خاصة وجادة ومفيدة، وفي الوقت نفسه تناسب هوانا الفكري والثقافي والأيديولوجي، وكانت تتوزع تلك المواد بين حوارات مع أعلام فكرية وأدبية وسياسية، أو تحقيقات حول ظواهر ثقافية أو فنية بارزة، أو عروض كتب لها طبيعة خاصة، مثل كتاب «تطور الحركة السياسية في مصر 1945/1952» للأستاذ طارق البشري، وكانت قد صدرت طبعته الثانية عن دار الشروق آنذاك، وشهدت هذه الطبعة تراجعا أو مراجعة حادة وجادة لطارق البشري عما كان قد ورد في الطبعة الأولي عام 1972، أو علي الأقل تصحيحاته الشهيرة _ من وجهة نظره _ التي جاءت بعد عشر سنوات من نشر الطبعة الأولي، وكتب للطبعة الجديدة مقدمة طويلة، وبلغت من الصفحات ثمانيا وستين صفحة، وقد استفاض البشري في توضيح أن اكتشافات جديدة أبرزتها مستجدات معاصرة، جعلته يغيّر من تقديراته للقوي التي كانت فاعلة في عقد الأربعينيات من القرن العشرين، وكان قد رأي أنه بالغ في دور الماركسيين بما لا يتناسب مع الدور الفعلي الذي قاموا به في تلك الفترة، كما أنه كان قد بالغ في توجيه اللوم لجماعة الإخوان المسلمين، ونوّه إلي أنه لن يستفيض أكثر من ذلك، لأنه أنجز ذلك في كتاب ضخم أسماه «مسلمون وأقباط في إطار الشريعة الوطنية»، وكان هذا الكتاب، ومقدمة كتاب «الحركة السياسية..»، يشيران بشكل واضح وجلي إلي التحول أو الانقلاب الأول، أو تصحيح المسار لوجهة نظر القاضي والمستشار والمؤرخ طارق البشري، ومن ثم كان من الضروري أن نعرض لهذا الكتاب بالعرض والتفصيل، وقد استغرق ذلك العرض آنذاك عدة حلقات نشرت تباعا في المجلة التي كانت تراسلها الوكالة.
عدا ذلك، كانت هناك قضايا فكرية قد تفجّرت في أواخر عقد السبعينيات بين صفوف اليساريين، وكانت القضية الأشهر آنذاك تحمل اسم «نمط الإنتاج الآسيوي»، وقد كانت أشهر القضايا، وهي قضية نظرية إلي حد كبير، ولكنها شغلت الكتّاب والباحثين والمفكرين الماركسيين علي وجه الخصوص، وشهدت تلك المرحلة صراعا ضاريا بين الماركسيين الجامدين أو العقائديين علي وجه الخصوص، وبين الماركسيين الذين يرون بأن الماركسية منهج جدلي لا عقيدة صارمة وجامدة، وكان كارل ماركس وفردريك إنجلز قد أرسيا نظريتهما وأفكارهما ومنهجهما في القرن الثامن عشر، ومن أهم ما قالا به، هو تطور أنماط الإنتاج الخمسة، بداية من المشاعية إلي العبودية، إلي الإقطاع، إلي الرأسمالية، نهاية بعصر الاشتراكية العظيم، ولكن كارل ماركس كان قد ذكر في بعض مؤلفاته، وعلي وجه السرعة، ودون بحث مطول، أو ودرس معمق كدأبه المعروف، بأن هناك نمطا من الإنتاج يختلف شكله عن تلك الأنماط الخمسة، وكان ذلك النمط يخصّ البلاد النهرية، في الهند الصينية مثلا، وذكر ذلك في كتابه «الأيدلوجية الألمانية»، والذي كتبه ماركس في مرحلة شبابه، وكان هذا الكتاب ينتمي إلي المرحلة التي يطلق عليها مرحلة «ماركس الشاب»، وهي مرحلة وصفها الباحثون بارتباكات كثيرة، أو عدم وضوح الرؤية بشكل ساطع، وتم تصحيحها في المراحل اللاحقة، وكذلك جاء ذكر نمط الإنتاج الآسيوي في كتابه عن حروب الهند الصينية، ولكنه ذكر عابر، دون فحص أو تحليل أو تعميق، ومن ثم لم يلتفت أحد إلي هذه القضية علي الإطلاق.
ولكن مفكرا إنجليزيا يدعي هوبزباوم، كان قد كشف عن كتابات كانت لم تنشر لماركس من قبل، وظلّت مخطوطة لعقود عديدة، حتي نشرت في عقد الأربعينيات، وأشهر تلك الكتابات وثيقة تحمل عنوان «أشكال إنتاج ماقبل الرأسمالية»، هذه الوثيقة فجّرت القضية علي نطاق واسع في العالم، وزعم كثيرون في هذا العالم، أن لكارل ماركس كتابات كثيرة لم تنشر علي وجه الإطلاق، لأنه كان يكتب بأكثر من لغة، وهناك بعض من تلك الكتابات كتبها بالألمانية علي وجه خاص، ومازالت قيد مكتبات خاصة في ألمانيا، وخضعت هذه الكتابات لرقابة مشددة من قبل الحكومات المتتالية التي كانت معادية للفكر الماركسي بشكل حاد، ومن الممكن أن تكون هناك تفصيلات في قضايا ذكرها ماركس بشكل عابر، وعلي رأسها قضية القضايا «نمط الإنتاج الآسيوي».
وعندما تناول الماركسيون في شتي أنحاء العالم هذه القضية بالتحليل والتفصيل، انقسموا إلي فريقين، فريق انتصر لوجود مثل هذا النمط بالفعل، وله أشكال وخصوصيات تجعله مستقلا ومختلفا تماما عن كافة أنماط الإنتاج الخمسة، أما الفريق الثاني كان محتجا ومعترضا بقوة علي وجود هذا النمط «الاختراع» والمفتعل لأسباب تتعلق بالعداء للفكر الماركسي، ووصفوا الفريق الأول بأنه يريد هدم علم الاجتماع الماركسي، وأنه فريق تحريفي، وضالع في التخريب، وبالتالي ضالع في هدم النظرية الماركسية بشكل كامل، وكشفت هذه المعركة الضارية عن أشكال كثيرة من الجمود العقائدي لدي كثير من الماركسيين، وبالطبع تبادل الماركسيون -آنذاك -كافة الخلافات الأخري، والتي تناولت قضايا جانبية عديدة، وتم تبادل اتهامات من طراز التحريفية وهدم علم الاجتماع الماركسي من جهة، ومن جهة أخري كان الطرف الآخر يتهمهم بالجمود والعقائدية.
في ذلك الوقت برز اسم المفكر والمناضل أحمد صادق سعد عاليا في تبني وجهة النظر التي تقول بوجود نمط إنتاج مستقل يحمل صفات خاصة، هو نمط الإنتاج الآسيوي، وكانت قد صدرت له عدة كتب في غاية الأهمية، أبرزها دراسة ضخمة تحت عنوان «في ضوء النمط الآسيوي للإنتاج.. تاريخ مصر الاجتماعي الاقتصادي»عن دار ابن خلدون ببيروت، في يونيو عام 1979، وبلغت صفحات الكتاب ما يزيد علي خمسمائة صفحة، واستفاض فيها الرجل استفاضة منهجية وعلمية صارمة، سوف نعود له لاحقا، وبعدها صدر له كتاب آخر ينطوي علي تفصيلات وملاحق تخص الأمر ذاته تحت عنوان «في ضوء النمط الآسيوي للإنتاج.. نشأة التكوين المصري وتطوره»، عن دار الحداثة في بيروت، يونيو 1981، ويأتي هذا الكتاب استكمالا للكتاب الأول، ولم يصمت صادق سعد عن البحث والتنقيب والترجمة فيما يخص هذه القضية، لأنه أراد أن يصحّح تاريخا رآه ناقصا أو معتلا من ناحية، كما أنه أراد أن يعطي درسا عميقا وشاملا وجريئا في منهجية التعامل مع الفكر الماركسي، في مواجهة العقائديين.
بالطبع لم تكن قضية «نمط الإنتاج الآسيوي»، هي التي أبرزت اسم أحمد صادق سعد، فالرجل له تاريخ طويل ومعروف ومشرّف منذ عقد الأربعينيات من القرن العشرين، وكانت جهوده الأولي مرتبطة ارتباطا واسعا وعميقا بمجلة «الفجر الجديد»، التي صدر عددها الأول في 16 مايو 1945، وتحمّل عبء إصدارها وتحريرها مع رفيقه النشيط أحمد رشدي صالح، ونشر فيها صادق سعد مقالات في غاية الأهمية، وتعرّض بسببها للحبس والتحقيق عدة مرات، ولكنه ظل مستمرا في تحرير المجلة، حتي أغلقها رئيس الوزراء الدكتاتور إسماعيل صدقي في 10 يوليو 1946، وكان قد صدر منها اثنان وأربعون عددا، لعبت فيهم المجلة دورا محوريا في تطوير الصحافة الثورية، وفي مرحلة شديدة النوعية، وقدّمت المجلة وجبات سياسية وفكرية وبحثية ذات طبيعة خاصة جدا في ذلك الوقت.
وفي عام 1976صدر كتاب «صفحات من تاريخ اليسار المصري في أعقاب الحرب العالمية الثانية 1945-1946» لصادق سعد، وكتب له مقدّمة تحليلية المؤرخ الدكتور عبد العظيم رمضان، وتعرّض فيها رمضان لتاريخ صادق سعد، وتوقف عميقا أمام محطة مجلة «الفجر الجديد»، واحتوي الكتاب علي معظم ما كتبه صادق سعد من مقالات في المجلة، وتوزعت المقالات بين مواجهة الاستعمار الانجليزي لمصر في ذلك الوقت، كما أن بعض المقالات تعرضت لقضية فلسطين والصهيونية، ومنها تكوّن كتابه «فلسطين بين مخالب الاستعمار»، وكان قد صدر عن لجنة القاهرة للتأليف والنشر عام 1947، وهو من أوائل الكتب التي تصدّت لقضية فلسطين والصهيونية بقوة.
لم تقتصر معرفتنا كجيل سياسي في السبعينيات علي هذه المعلومات فقط، بل كانت مقالات الرجل في مجلتي الطليعة والكاتب المصريتين تتواتر بين الحين والآخر، وكانت مقالاته التي أتت بشكل مقلّ، ولكنها مكثفة، تعالج قضيتين رئيستين، الأولي تخصّ الصراع الطبقي في إسرائيل، وبالتالي كان لابد أن يتعرض للقضية الفلسطينية، وصدر له كتاب مشترك مع الباحث والمؤرخ الفلسطيني عبد القادر يس عنوانه «تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية» عام 1975 عن دار ابن خلدون، أما القضية الثانية التي كانت تشغل مقالات ودراسات صادق سعد، هي قضية الاشتراكية العربية وفق المنهج الماركسي.
لم تكن لديّ أدني علاقة شخصية، ولم يحدث بيني وبينه أي لقاء، ولا أعرف كيف وصلت إليه وهاتفته، وإن لم تخني الذاكرة، ربما أكون حصلت علي رقمه من صديقي الشاعر رفعت سلام، حيث إن رفعت سلام كان قد تزوج المترجمة راوية صادق ابنة صادق سعد، وربما يكون الصديق رفعت سلام هو الذي مهّد لذلك اللقاء آنذاك، وعندما هاتفته كان الرجل لطيفا للغاية، والتقيت معه علي مقهي «زهرة البستان»، ودار حوار طويل بيني وبينه.
كان غرض اللقاء هو إجراء حوار معه للوكالة، ثانيا محاولة فكّ اشتباك بينه وبين الرفيق صالح محمد صالح، وهو الاسم الحركي للكاتب والباحث والمترجم خليل كلفت، وكان قد أصدر كتيبا صغيرا عن دار ابن خلدون حول «نمط الإنتاج الآسيوي»، وكان صالح محمد صالح الذي ربطتني به علاقة فكرية وسياسية آنذاك، أحد الشاجبين الأساسيين لفكرة نمط الإنتاج الآسيوي، واعتبر الحديث حول أنه نمط إنتاج مستقل، نوعا من التخريب للمنهج الماركسي، وما يعتبره صادق سعد «نمط إنتاج مستقل»، ولم تفرد له أدبيات الفكر الماركسي الأولي شروحا أو سرودا واضحة ومطولة، ماهو إلا «نمط إنتاج عبودي» في شكل شرقي، وما اعتبره صادق سعد تعاقبا طبقيا، اعتبره خليل كلفت تطورا، وتمددا حسب تعبيراته في الكتيب الذي صدر أولا في نشرة حزبية نظرية، ثم صدر بعد ذلك في بيروت عن دار نشر معلنة.
عندما حاولت أناقش الرجل فيما هو مطروح، لم يباغتني بتعقيباته العميقة ذات الإحاطة الشاملة بالقضية، وكان هادئا إلي حد بعيد، وتوزعت موضوعات الحوارات إلي طرق شتي، ورغم أن مقدمة المناقشة كانت حول قضية «نمط الإنتاج الآسيوي»، إلا أننا عرجنا علي دراسة كان قد نشر قسمها الأول في العدد الثاني من مجلة «الثقافة الوطنية»في يناير 1980، وكانت تحت عنوان «مدخل لدراسة الطوباويات المصرية»، وهي ردّ مطول علي مقال كان قد كتبه فريد زهران في العدد الأول من المجلة ذاتها.
ورغم أن الرجل كان قد جاوز الستين من عمره، إلا أنه كان حاضرا بقوة، ومحاورا شابا عميقا محيطا وعلّامة، وظللت معه ما يقترب من ساعتين أو أكثر، وكانت بداية صداقة عامرة، دعاني بعدها الرجل إلي بيته في الجيزة، خلف أكاديمية الفنون أو قاعة سيد درويش كما كان يطلق عليها آنذاك، حيث أنه كان يعقد جلسة أسبوعية مع رفاق قدامي، وكان أبرزهم القائد العمالي التاريخ طه سعد عثمان، وكانت تربطهما علاقة نضالية منذ عقد الأربعينات، وتحت سقف بيت أحمد صادق سعد، قضيت أجمل الأوقات، واستمعت إلي حوارات عميقة ومكثفة ومنهجية، بالإضافة إلي العلاقات الانسانية الحميمة بين رفاق الأمس، وأصدقاء ذلك الزمن، وتظل حضرتهم طازجة وحميمة في وجداني ماحييت، إنهم معلمون من طراز فريد، وخبرات فكرية ونضالية وانسانية عامرة بالدأب والإنتاج في كل مراحل حياتهم.
ولد أحمد صادق سعد في 29 يناير 1919 في القاهرة، تلقي تعليمه الأوليّ في مدارس فرنسية - كما يكتب سيرته محمد دكروب -، وككثير من العائلات التي تنحدر من أصول أجنبيي، ولكنها تمصّرت، كانت اللغة الفرنسية هي اللغة الرئيسية، التي يتحدث ويكتب بها، وظلّ هذا الأمر يرافق صادق سعد حتي تخرجه، وفي أكثر من شهادة له، كان يقول بأن احتدام الحركة الوطنية التي تفجرت في عام مولده 1919، وتطورت باطراد، جعلته ينخرط في صفوفها، ويقرر الانتماء لها، وكان هذا الانتماء يحتّم عليه أن يتعلّم اللغة العربية قراءة وكتابة وحديثا، وبالفعل تعلّمها وأتقنها في وقت سريع، إذ كانت استعداداته جاهزة، حتي صار يكتب المقالات والبيانات والأبحاث العلمية.
وفي عام 1934 كانت القاهرة تمور بحركات ثقافية وسياسية عارمة، ولأنه كان مايزال متأثرا بثقافته الفرنسية، وكانت هناك جماعات ترعي الثقافة الفرنسية، وجد نفسه منغمسا في تلك الجماعات والجمعيات والحلقات الصغيرة ذات الطابع الفكري والثقافي الطليعي، والتي كانت ترفع شعارات السلام والتضامن مع الشعوب المظلومة، وانخرط عام 1935 في اجتماعات «اتحاد أنصار السلام»، ومن خلالها تعرّف علي بعض المثقفين الذين يعتنقون الفكر الماركسي التروتسكي، ومن المعروف أن هؤلاء المثقفين كانت لهم إبداعات فنية ذات طابع سوريالي، وكان علي رأسهم الشاعر جورج حنين، والذي شكّل فيما بعد جماعة الخبز والحرية، ثم غيّر اسمها إلي جماعة الفن والحرية، وأصدرت هذه الجماعة عام 1939 مجلة التطور، والتي حمل مسئوليتها بشكل رئيسي المثقف والشاعر أنور كامل.
كانت هذه هي البداية التي دفعت صادق سعد إلي الحركة الوطنية ذات الطابع التقدمي والطليعي، وكذلك بدأ يتعرّف علي الثقافة الماركسية، ويقرأ كراسات في الاقتصاد السياسي، وكتابات زعيم ثورة أكتوبر الروسية فلاديمير لينين، ودفعته الحركة إلي تشكيل حلقة أطلق عليها «مجموعة الدراسات»، وكانت هذه الجماعة بمثابة الحاضنة الأولي للفكر الثوري التقدمي في ذلك الوقت، وانضم إلي هذه المجموعة بعض من الفاعلين في الحركة الثورية، ويقتبس محمد كروب فقرة لصادق سعد يقول فيها : «إن هذه المجموعة أصدرت كتيبا عن تاريخ مصر، كسبيل لتقديم دراسات عن مصر وتاريخها ونضالها إلي مجموعات الأجانب والمتمصرين وجنود الاحتلال الانجليزي، فقد كانت مجموعة الدراسات هذه، تهتم بعقد صلات مع جنود الاحتلال، ومناقشتهم حول ضرورة تحقيق الأماني القومية للشعب المصري، وذلك انطلاقا من وهم بأن هذا اللون من النشاط يساعد في تحرير الشعب المصري»، وبعد هذه الجماعة كوّن مع بعض رفاقه «لجنة الثقافة الحديثة» عام 1941، وكانت هذه اللجنة تعقد ندوات يحضرها مثقفون يساريون، لهم نضالات مرموقة آنذاك.
وفي عام 1943- نحن ننقل السيرة بتصرف عن محمد دكروب من كتاب «دراسات في الاشتراكية المصرية» لصادق سعد -، حصل صادق سعد علي بكالوريوس هندسة من جامعة القاهرة، وهكذا أصبح متفرغا للعمل الفكري والسياسي والثقافي، فشارك بعد التخرج مباشرة في تأسيس «جماعة الشباب للثقافة الشعبية» التي وجهت نشاطها الثقافي والتحريضي إلي الفلاحين ، وظلّت هذه الجماعة تتابع نشاطها حتي العام 1945، وبالطبع كان صادق سعد بدأ ينخرط في النشاط السياسي اليساري، والذي كان يحرّضه دوما علي تشكيل لجان وجماعات وتنظيمات ذات طابع كفاحي بارز.
هذه الفترة حمل صادق سعد مع رفاق له النضال السياسي علي عاتقه، عبء الحركة الوطنية المصرية ذات الطابع التقدمي والطليعي، وكان أول ما أصدره المناضل الشاب هو كتابه «مشكلة الفلاح»، ويكتب عنه الكاتب والمترجم بشير السباعي في مجلة «أدب ونقد» العدد 44فبراير 1989 «هذا الكراس يعتبر أول معالجة ماركسية مصرية للمسألة الزراعية في مصر - حسب وصف الباحثة السوفيتية فيرا بانوفا - وقد دعا في هذا الكراس إلي تحديد حد أقصي لملكية الأرض الزراعية لا يزيد علي خمسين فدانا، وإلي مصادرة الأراضي التي تزيد عن هذا الحدّ وتوزيعها علي الفلاحين المعدمين، وإلي إنشاء تعاونيات زراعية ، وربط المؤلف أجزاء هذه التحولات بتحول جذري في الهيكل الاجتماهعي الاقتصادي للبلاد».
وبعد هذا الكتاب أصدر صادق سعد كتاب «مأساة التموين» عام 1945، ويطرح فيه صادق سعد مجموعة مشكلات اقتصادية محضة، وكما كان كتاب «مشكلة الفلاح» جديدا في توجهه، يصدر أحمد صادق كتابه الثالث «فلسطين في مخالب الاستعمار» عام 1947، وكانت مشكلة اليهود آنذاك متفجرة بشكل متفاقم، وكان هذا الكتاب بمثابة جرس إنذار قوي لكل الأطراف المعنيين، ولم يعتبر صادق سعد أن مشكلة فلسطين، قضية تخص الفلسطينيين فقط، بل هي مشكلة تتعلق بالاستعمار البريطاني، الذي يريد أن يحلّ ويصدر مشاكله للمنطقة العربية، علي حساب الشعوب الفقيرة، لذلك يصدر الكتاب بتقديم قصير يقول فيه : «قد يظهر غريبا للقارئ أن نكتب عن مشاكل فلسطين في حين أننا في مصر نجتاز مرحلة من أدق مراحل تاريخنا، ولكن الحقيقة أن قضية فلسطين ليست مختلفة في جوهرها عن قضية بلادنا، فهي أيضا قضية التحرر من الاستعمار الأجنبي ، وهي أيضا قضية التحرر من الحكم الرجعي المفروض علي الشعب فرضا، بل لعل التأمل في قضية فلسطين وتطوراتها يفيد الوطني المصري إفادة مباشرة، إذ أنها قضية واضحة جلية ومجردة عن كثير من المناورات التي تجري وراء الكواليس، كما هي الحال عندنا ، فمن هذه الناحية تستطيع قضية فلسطين أن تعطي لدارسها الخطوط الرئيسية لقضيتنا نحن المصريين».
المقدمة جاءت واضحة ونافذة، وهي تلخّص الجهد الريادي الذي بذله صادق سعد في صياغة التحليلات والأفكار والمصطلحات التي كانت جديدة آنذاك علي الحياة الفكرية والسياسية، وجدير بالذكر أن صادق سعد كان مدفوعا أكثر من غيره لمهاجمة الصهيونية، ولا حرج لديّ الآن أن أقول بأن الرجل كان سليل أسرة يهودية، وقد اعتنق الإسلام، وتمسك بمصريته بشكل حاسم وصارم، وظلّت قضية تشريح مفهوم «الصهيونية ربيبة وقرينة الاستعمار» قضية حياته، وظلّ يكتب عنها، ويضيف عناصر جديدة في كل مرحلة لتأكيد ذلك المفهوم، وراح يؤكد علي أن يهود العالم كانوا ضحية الاستعمار الذي استخدمهم استخداما مريبا لتنفيذ مصالحه الاقتصادية والسياسية الفجة، ويكتب في الفصل الأول من الكتاب قائلا : «لا يكفي لفهم قضية فلسطين أن يحلل الاستعمار عامة- والاستعمار البريطاني خاصة - تحليلا علميا، فالاستعمار قد استعمل فلسطين وسيلة ليرسخ قدمه في ذلك البلد الشقيق، والحقيقة أن لفظة وسيلة لا تفي دائما- في هذه الحالة - بالمعني المضبوط، لأن الصهيونية ليست أداة في أيدي الاستعمار البريطاني في فلسطين (وربيبته)، يتبادل كلاهما المساعدة ويتقاسم (المنفعة) ، ويحاول الاستعمار البريطاني أن يصوّر مساعدته للصهيونية تصويرا أخلاقيا ومثاليا عاليا باسم (المساعدة) لليهود (المضطهدين) ، الفقراء ، ليستقروا في مأوي مأمون بعيدا عن الضغط العنصري..»، ويعرض صادق سعد كل المعطيات والذرائع التي يطرحها الاستعمار والصهاينة في آن واحد، ثم يناقشها بشكل مفصّل وعميق، مستفيدا من دراسته الهندسية العلمية، وكانت البعد العلمي يحدو صادق سعد في كل مراحل حياته البحثية والنضالية، فهو يطرح المعطيات، ثم الشروح والتحليلات، ثم النتائج والأهداف، وفي هذا الكتاب أثبت أن كل المعطيات التي طرحها المستعمرون والقادة الصهاينة، مجرد أكاذيب وذرائع لتمرير المشروع الصهيوني، وتنفيذه في بلادنا، وحدث بالفعل كل ما حذّر منه صادق سعد في هذا الكتاب المهم، والذي دجّجه الباحث بأدلة وأسانيد وأرقام ومفاهيم تكاد تكون صالحة حتي الآن، طالما أن القضية الصهيونية مازالت مرفوعة كسيف في منطقتنا العربية، ولا أعتقد أن الذين جاءوا بكتابات تدرس القضية الصهيونية، أضافوا الكثير للمفاهيم، فقط التفاصيل التي تثبت ماجاء به صادق سعد مبكرا للغاية.
قبل صدور هذا الكتاب، أسلفنا بأن صادق سعد كان قد ناضل مع رفيقه أحمد رشدي صالح في إصدار مجلة «الفجر الجديد» عام 1945، وكان صادق سعد في ذلك الوقت يهيمن أو يقود كمسئول سياسي إحدي الحلقات الماركسية كما يروي ويوثّق عبد العظيم رمضان في مقدمة كتاب «صفحات من اليسار المصري»، هذه الجماعة التي تطورت بشكل عملي، وأصدرت مجلتي «الضمير» و«الفجر الجديد»، وفي سبتمبر 1946 تحولت هذه الحلقة إلي تنظيم شيوعي باسم «الطليعة الشعبية للتحرر»، ثم تغيّر اسمها إلي «طليعة العمال»، ثم إلي «حزب العمال والفلاحين الشيوعي المصري» عام 1957.
وصدر العدد الأول - كما أسلفنا - في 16 مايو 1945، وتصدرت العدد قصيدة للشاعر «عبد الرحمن الشرقاوي المحامي» عنوانها الفجر الجديد، جاء في مطلعها:
(أيها الضارب في الليل .. هنا الفجر الجديد
أيها الحائر في اليم ..هنا البر السعيد
ياثكالي الأمس ..كفكفن.. فإن اليوم عيد
ياعذاري ...ضجت النشوة في قلب الوجود
قمن فاسكبن علي الدنيا جمالا وبهاء
زالت الغمة فاملأن دجي العيش ضياء
سيعود العاشق النائي ويرتاح الشريد
ويغني راكب الليل علي الفجر الجديد)
وكتب أحمد رشدي صالح رئيس التحرير وصاحب الامتياز مقدمة عنوانها «مهمة الكاتب»، جاء في مطلعها : «مهمة الكاتب مبطونة الترابط بالمجتمع وتطوره، ومهمته الآن في مصر، محدودة بالدرجة التي بلغها المجتمع في حركته إلي الأمام - بما بقي في طريقه، ليخلص إلي الحرية - محدودة بالمثل، بتضارب المصالح في المجتمع، وبالنضال المستمر لتنتصر الحرية والعدالة، وبالنشاط الذي يبديه الرجعيون أعداء الحرية ، محدودة بتنبيه الأذهان إلي القيم الديمقراطية الوليدة والراسخة ، ومحدودة بتنبه أعداء الحرية ، إلي اضطراد مد الحرية.. مهمة الكاتب في أن يجعل من قلمه ذروة الآلام العامة، والرجاء العام واللفتة الموجهة للنضال المشرد في دروب الحياة، ونفثة المناضل المخلص لتتحرر الحياة أن يجعله تعبيرا عن ذاته غير المنفصلة عن ذات المجتمع.. عن كفاحه غير المنعزل عن كفاح المجتمع..».
واستطردت المقدمة التبشيرية بكاتب جديد، كاتب من نوع آخر، كاتب يفلّ حديد الرجعية، ويركن إلي الشعب المتألم والمطحون، ذلك الكاتب الموزع بين شاعر وقاص وروائي ومحلل سياسي ومسرحي وزجال، ويفنّد رشدي صالح مهمة الكاتب الجديد، ليبشر مثل الشاعر عبد الرحمن الشرقاوي بعصر جديد، عصر سيكون عصر الكادحين والثكالي والمطحونين والعمال والفلاحين، وبالطبع إذا كانت قصيدة الشرقاوي ومقدمة رشدي صالح جاءتا علي هذه السخونة، فإن بقية مواد المجلة كانت علي الخط نفسه.
جاءت ترجمة لبيان عنوانه «قاتلوا من أجل فرنسا»، وفي هذا البيان ينتصر الموقعون لحرية الشاعر والكاتب لويس أراجون الذي كان يعاني من بعض المضايقات والمطاردات التي لاحقته أينما ذهب، خاصة أنه كان نشيطا ومناضلا آثناء الحرب العالمية الثانية ضد النازي ومن أجل فرنسا، ونشرت المجلة أول قصة للطالبة الآنسة لطيفة الزيات، كان عنوان القصة «الله يريد»، كما ترجم علي الراعي مقالا مهما يتحدث عن الاستعمار الانجليزي الأمريكي، وهناك موضوع مترجم تحت عنوان «من الأدب الانجليزي» نقله نور شريف، كما أن الكاتب «أبو سيف يوسف» كتب مقالا عنوانه «الفن والطبيعة والمجتمع»، ورغم أن أحمد صادق سعد كان المحرر الأول للمجلة، أو المحرر الأنشط لمادتها، إلا أن اسمه لم يظهر بشكل صريح في الأعداد الأولي، واتضح فيما بعد أن موادا كثيرة جاءت دون توقيع، كان هو محررها، أو مترجمها، أو صائغها، ثم بدأ من العدد ينشر بغزارة منذ العدد السادس، بعدما استقرت المجلة، ورسخت أقدامها، وراح صيتها يعم الآفاق، وكان مقاله الأول عنوانه «في قضايا التحرر الوطني والديمقراطي .. تعديل المعاهدة المصرية الانجليزية»، وذلك في العدد السادس، والصادر في 1 أغسطس عام 1945، وكان هذا المقال يصيب عدة أهداف دفعة واحدة، إذ بدأه سعد بقوله :«يدهشني أن أري الحديث حول المعاهدة -إبقاؤها أي تعديلها أو إلغائها- يدور حول بنودها المسجلة حبرا علي ورق، يدهشني هذا الحديث لأنه يتجاهل أساسا أن المعاهدة التي أبرمت بين مصر وانجلترا لم تكن في المقام الأول_ عن علاقات نسبية بين قوتين كانتا تتصارعان وقتئذ، ولا تزالان كذلك إلي الآن: الأمة المصرية الهادفة إلي الحرية والاستقلال، والاستعمار الهادف إلي الاستغلال والاستبداد..».
بعد هذا المقال التأسيسي لأشكال من الجدل بين فرقاء سياسيين عديدين، بدأ اسم ومعني صادق سعد يكبر بسرعة، وأصبح رقما في المعادلة الفكرية والثقافية والسياسية، وأدرك البوليس السياسي خطورته، فقبض عليه في قضية «الشيوعية الكبري» التي دبرها إسماعيل صدقي، وتم القبض علي عدد كبير من الكتّاب والمثقفين والباحثين، منهم سلامة موسي ومحمد مندور وأنور عبد الملك وغيرهم من الذين كانوا مناهضين للسلطات الاستبدادية والمستغلة آنذاك، وجاء في تقرير النيابة : «واتهمت النيابة العامة صادق سعدبأنه ألّف مقالا بعنوان (ثورة أكتوبر مرحلة تحول في تاريخ البشرية)، وقد نشر هذا المقال في العدد الثالث عشر من السنة الأولي لمجلة الفجر الجديد بتاريخ 22 نوفمبر سنة 1945 الذي طبع ووزع علي الجمهور، وقد حبّذ المتهم في مقاله هذا الشيوعية وكفاحها الثوري عن طريق امتداح ثورة أكتوبر سنة 1917 قائلا:
(إن طبقة العمال وطبقة الكادحين استولت في هذه الثورة علي الحكم السياسي في روسيا وأفسحت هذه الثورة لأول مرة في التاريخ المجال أمام العمال وخلق مجتمع جديد لا تستولي طبقة طفيلية فيه علي جهد الكادحين...)». وهكذا تم توجيه الاتهام إلي صادق سعد بترويج أفكار شيوعية تؤدي إلي قلب نظام الحكم، وقضي بضعة شهور في السجن، ليخرج ويناضل وينخرط أكثر وأكثر في العمل السياسي المقاوم، ويتم اعتقاله مع رفاقه في مطلع العام 1959، ليقضي خمس سنوات كاملة، ويخرج في 1964 ليواصل النضال السياسي والفكري، وله رصيد بلغ ثمانية أعوام من الاعتقال تحت التعذيب والتنكيل والحرمان من الحياة الانسانية العادية.
لم يكن صادق سعد مناهضا للسلطات السياسية فقط، ولكنه كان مقاتلا ضد الجمود العقائدي الماركسي، وكان ينتقد زملائه ورفاقه بوضوح شديد، وكانت ثقافته الواسعة والعميقة والشاملة تساعده علي ذلك، وفي السنوات العشر الأخيرة في حياته قدم للساحة الفكرية سلسلة كتابات وترجمات فريدة في تجديد الخطاب الماركسي، ولم يكن يأبه بتلك الاتهامات الجزافية التي كانت توجه ضده، ورغم أن كتابه في التاريخ المصري علامة فريدة في المنهجية والموسوعية، كان بارزا ومثيرا، إلا أن كتابه «دراسات في الاشتراكية المصرية» كان مثيرا كذلك، وعندما قابله الكاتب اللبناني محمد دكروب رئيس تحرير مجلة «الطريق»، وعرض عليه أن يكتب لهم في المجلة، أفضي إليه صادق سعد بأن كتاباته لن ترضي الماركسيين لأنها كتابات انتقادية، ولكن محمد دكروب رحب بتلك الكتابات، وجمعها ونشرها في الكتاب الذي صدر بعد رحيل صادق سعد في 30 نوفمبر 1988، بعد أن كتب مقدمة هذا الكتاب في فبراير 1988، أي قبل رحيله ببضعة شهور، وجدير بالذكر أن هناك أشار إليها محمد دكروب في مقدمته التفصيلية لم تنشر علي وجه الإطلاق، ومنها سيرة ذاتية، ومجموعة دراسات في تصحيح المسار الماركسي.
ومن أبرز ما احتواه الكتاب دراسته حول «حركة الجماهير التلقائية في المنهج المصري لكتابة التاريخ المعاصر.. مع التركيز علي فكر طارق البشري»، ولفت سعد في هذه الدراسة الانتباه إلي أن الباحثين المصريين القوميين أو الماركسيين لا يعتبرون الانتفاضات التلقائية ذات تأثير كبير في التغييرات السياسية، ولكنهم ينظرون طوال الوقت إلي السلطات الفوقية، أو الأحزاب السياسية، ولا ينظرون إلي الحركات الجماهيرية العفوية والتلقائية إلا بعين فلكلورية مندهشة فقط، ولكنهم لا يعتبرون الجماهير إلا خادمة للفكر والمناهج السياسية الفوقية، وهكذا ينتقد منهج طارق البشري، وكتب حول الطوباويات السياسية المصرية للقادة السياسيين، ومن ثم فالجماهير وانتفاضاتها تسبق هؤلاء القادة والأحزاب الذين يهرولون خلفهم بقوة، وكانت انتقادات صادق سعد للمؤرخين الماركسيين حادة، لذلك لا نجد أي احتفاء حقيقي بكتاباته من قبل اليسار علي وجه الإطلاق.
أما جهوده في التأريخ من خلال موضوعة أو قضية «نمط الإنتاج الآسيوي»، فهي جهود تصل إلي حد الاكتشاف، فهو لا يتوقف عند مرحلة ما من التاريخ المصري، ولكنه يعود إلي العصر الفرعوني، مرورا بالفاطمي، وصولا إلي العصر الحديث، وبالطبع لا تصلح مثل هذه السطور لعرض أفكار صادق سعد، والتي تصل إلي مستوي «نظرية كاملة» في تأريخ النظم المائية عموما، ومن بينها مصر، وهو يرصد منذ بداية تاريخ البشرية في تلك المجتمعات كافة التكوينات الأولي، حيث توافرت علي ضفاف الأنهار مجتمعات تعاونية صغيرة، تلك المجتمعات كانت تحتاج إلي سلطة تنتخبها تلك المجتمعات، كانت السلطة في البداية تنظيمية، وكانت تختار من الشيوخ الكبار ، ولكن مع تطور المجتمعات، بدأت تلك السلطات تفرض أنواعا من العمل، وتوسع من أجهزة الإدارة، وكان الحاكم أو جهاز السلطة يخترعا نوعا من الديانات لكي يحمي سلطانه، ويكتشف صادق سعد ومنظرّو فكرة سلطة المجتمعات النهرية، أن تلك السلطات كانت تعمل علي تسخير الشعوب التابعة «وهم في مقام العبيد في المجتمعات الغربية التقليدية»، ويكمن الاختلاف بين عبيد المجتمعات الغربية النموذجية، عن عبيد المجتمعات الشرقية النهرية، أن العبد النموذجي، كان مملوكا للسيد، ولكن العبد في المجتمعات الشرقية كان مملوكا للدولة، أو لجهاز الحاكم، وهذه الخصائص، تحتّم تغيير أساليب الإنتاج بدرجات كبيرة، ومن ثم فلا يجوز أن نقول بأنه نمط إنتاج عبودي في شكل شرقي، بل إنه نمط إنتاج كامل، فالحاكم تختلف وسائل قمعه وديانته ومدي التوسع في فرضها، واستعباد العبيد علي نطاق واسع في بناء مقابر ضخمة مثل الأهرام لتخليد الحاكم، وهذه الأمور كافة، لم تحدث في المجتمعات الأوروبية النموذجية، وأشار صادق سعد إلي مراسلات كانت بين كارل ماركس وإنجلز، تفضي بأنه لم يكتب نظريته وفق تطور المجتمعات البشرية قاطبة، ولكنه كتبها وفقا للمجتمع الغربي الذي كانت مادته متوفرة لديه.
هذه عجالة لأفكار عاش يكدح فكرا ونضالا وانسانية طوال حياته وتاريخه المشرف، نأمل أن تحتفي به الأوساط الفكرية في مئويته التي مرّت دون أي تلويحة من رفاقه الكثيرين، والذين اختلف معهم وانتقدوه، وكانت بينه وبينهم حوارات وسجالات عديدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.