تكمن القيمة الأساسية للمستعرب الفرنسى «مكسيم رودنسون» فى أنه متعدد ميادين البحث. فهو مؤرخ وعالم اجتماع ومستشرق. وقد مارس عمله البحثى فى هذه الميادين من موقع الفكر الماركسى المستقل، أى غير المنتمى عقائدياً إلى ماركس وغير المنتمى حزبياً إلى الحزب الشيوعى الفرنسى إلاَّ خلال فترة محددة فى المرحلة الأولى من حياته السياسية والفكرية. إذ كان قد انتسب إلى هذا الحزب فى عام 1937، ثم انسحب منه فى الستينات. ففى ذلك التاريخ شهد الحزب صراعات بين اتجاهات فكرية هنا واتجاهات فكرية هناك قادت الفيلسوف هنرى لوفيفر إلى الخروج من الحزب، وقادت الحزب إلى إخراج روجيه جارودى من عضوية القيادة. وظلَّ رودنسون منتمياً على طريقته ووفق منهجه إلى بعض أفكار ماركس الأساسية محرراً نفسه من أى انتماء إلى أية أيديولوجيا، بما فى ذلك ما كان يعتبر أيديولوجية ماركسية. إذ هو اعتبر أن الماركسية، كمحصلة لعلوم إنسانية عديدة، لا يمكن أن تكون إيديولوجيا ثابتة وإلاَّ تحولت إلى دين جديد، وهو ما كان يتناقض مع فكر ماركس الذى رفض تحويل الأفكار إلى عقيدة جامدة. لذلك ظلَّ رودنسون ماركسياً على طريقته، يبحث عن الحقيقة وسط تعرجات مسار حركة التاريخ، ووسط التحولات التى كان يشهدها العصر فى مراحله المختلفة، ووسط الاكتشافات العلمية التى ما انفك العلماء فى ميادين أبحاثهم كلها يقدمون الجديد منها على أنقاض القديم، أو بالاستناد إلى ذلك القديم وبالارتقاء فى تجاوزه وفى التمايز عنه. يقول رودنسون فى تحديد علاقته بالماركسية فى مقدمة كتابه «الإسلام سياسة وعقيدة»: «... يجب عليّ أن أحدد باختصار من أى موقع أتكلم. فثمة كثير من سوء الفهم على هذا الصعيد. وغالباً ما يطلب من كتّاب اليوم هذا النوع من بيان الموقف. يعرف الكثيرون أنى كنت ماركسياً معلناً خلال عشرين عاماً وأنى ولدت فى أسرة وعالم فكريين ماركسيين. وقد ساعدت الأحداث شيئاً فشيئاً وببطء شديد، وربما ببطء أكثر مما يجب، على انفصالى عن هذا المنظور الفكري. وقمت بعملية فرز. وأستطيع أن آخذ عنوان كتاب بنديتو كروتشه الشهير «ما هو حى وما هو ميت فى فلسفة هيجل». وهى وجهة النظر التى توصّلت إليها الآن مما يسمى «الماركسية». أصدر رودنسون الكثير من الكتب فى مجالات اهتمامه العلمية. لكن معظمها تمحور حول العالم العربي، تاريخه القديم وتراثه الحضارى والتحولات التى شهدتها مجتمعات بلدانه المختلفة عبر العصور، والقضايا الجديدة التى واجهتها شعوبه فى تطورها الحديث بعد حصولها على الاستقلال. فهو، بهذا المعني، مستشرق ومستعرب. ويكاد يكون عربياً فى أفكاره ومشاعره واهتمامه بقضايا العرب كافة. ذلك أن ما كان يبتغيه من أبحاثه كمفكر ماركسى مستقل ومجدد هو معرفة الحقيقة حول هذا العالم العربى أولاً، وحول العالم الإسلامى بالتالي، انطلاقاً من معرفته بأن الانتماء الدينى إلى الإسلام قد شمل معظم بلدان تلك المنطقة. وقد تميزت أبحاثه بالموضوعية. الأمر الذى جعله يختلف بمفهومه للاستشراق عن كثير من المستشرقين، وحتى عن كثيرين من العرب الذين تناولوا فى أبحاثهم مسألة الاستشراق، بمن فيهم إدوار سعيد فى كتابه المهم «الاستشراق». كان رودنسون يرى أن إدوار سعيد قد بالغ فى الحديث عن المركز والأطراف، وعن دور الباحثين الغربيين فى شئون الشرق، إلى الحد الذى جعله يعتبر فيه كارل ماركس واحداً من أولئك المستشرقين الذين نظروا إلى بلدان الشرق عموماً، ومنها البلدان العربية وإلى دياناتهم وإلى علاقاتهم الاجتماعية، كبلدان متخلفة بالمعنى المطلق للتخلف، رغم أهمية حضاراتهم القديمة. الأمر الذى أعطى للاستعمار الذى حكم تلك البلدان دوراً إيجابياً، بمعنى من المعاني، إلى جانب دوره الاستعمارى المرتبط بالهيمنة على بلدان هذه المنطقة. وفى الإشارة إلى دور الاستعمار فى كلام إدوار سعيد ارتباطاً بالمستشرقين تلميح مقصود «ربما» لما ورد فى كتابات ماركس وإنجلز فى مطالع الخمسينات من القرن التاسع عشر(1858) حول بلدان الشرق، الصين وإيران والهند وأفغانستان ومصر والجزائر التى وردت فيها إشارات إلى دور معين للاستعمار الأجنبى فى محاولة تحديث تلك البلدان وإخراجها من تخلفها. لقد رأى مكسيم رودنسون ، فى قراءته لتاريخ العالم العربى الحديث علاقة قوية بتاريخه القديم. وهى علاقة لم تستطع شعوبه أن تتجاوزها، وهى تحاول الدخول فى الحضارة المعاصرة. لذلك كانت أبحاثه شبيهة فى مقاصدها بأبحاث أى مفكر عربى مهموم بقضايا بلاده، ساعياً إلى فهم مشاكلها، عاملاً على فتح الأبواب أمامها لكى تجتاز عقبة التخلف وتدخل فى تحولات العصر الحديث. وهكذا نستطيع أن نلحظ بوضوح كم كانت هذه الهموم بارزة فى كل كتابات رودنسون. وكان من أولى كتاباته المهمة، بل المهمة جداً، ثلاثة كتب هى «محمد» و«الإسلام والرأسمالية» و»الماركسية والعالم الإسلامي». وهى قد صدرت فى الستينات من القرن الماضي. ثم تبعتها كتب أخرى فيما بعد لعلَّ أكثرها إثارة للاهتمام كتاب «جاذبية الإسلام» الذى صدر فى أواخر السبعينات من القرن الماضي، و«الإسلام سياسة وعقيدة» الذى صدر فى عام 1993. يعتبر كتاب رودنسون «محمد» فى نظرى أهم كتبه على الإطلاق. فهو قد حاول فى هذا الكتاب أن يقدم قراءة موضوعية لسيرة شخصية تاريخية استثنائية. لم يتعامل معه كنبيّ. وهذا من حقه كمفكر وكعالم وكأجنبى غير مسلم. ولم يكن لانتمائه الدينى كيهودى بالولادة أى تأثير على بحثه. ولأنه أحبَّ شخصية النبى محمد وأعجب بها فقد حاول أن يدخل فى تفاصيل سيرته الشخصية والفكرية، ثم فى سيرته كصاحب رسالة دينية وقومية عربية فى الوقت عينه. وقاده اهتمامه بظاهرة النبى محمد إلى البحث، أو محاولة البحث، فى معنى الوحي، ليس كعلاقة قدسية وألوهية بين النبى وبين ربه، بل كحالة بشرية. وكان يرمى من وراء دخوله فى هذا البحث حول هذا الجانب بالذات من سيرة وشخصية النبى إلى تأكيد الجانب العبقرى البشرى فى شخصية النبى من دون أن يتطاول على الدين ذاته. بل هو أبدى كامل الاحترام للإسلام وإلى الذين انتموا إليه. لكنه، فى كتابه هذا وفى كتبه الأخرى عن الإسلام، آثر الحديث بالتفصيل عن المسلمين من دون الدخول فى موضوع الدين ذاته، ليرى كيف تجلّى الإسلام فى علاقته بالمسلمين وفى علاقة المسلمين به. فذلك ، بالنسبة إليه، هو ميدان البحث الفكرى والاجتماعى الأكثر واقعية والأكثر جدوى فى مجال المعرفة التاريخية والسوسيولوجية. فهو رد غير مباشر على بعض الذين انتقدوه فى كتابه عن النبى محمد. فأصدر كتابه «جاذبية الإسلام» الذى وضّح فيه فهمه للإسلام، ليس بالضرورة كدين بل كظاهرة تاريخية وكانتماء دينى واجتماعى وفكرى وسياسى لشعوب منطقة بكاملها، ولعلاقة هذه الشعوب ودولها فى مراحل مختلفة من تاريخها مع العالم الغربي. وقد عشت فى وسطه سبع سنوات كاملة دون انقطاع (وولد فيه اثنان من أولادي). ودرست لغته بعناية وثقافته وتاريخه. ونشرت عدداً من المقالات والكتب تتناول قضاياه وألقيت محاضرات متعددة وأعطيت دروساً فى جامعات عربية من الخليج إلى المحيط.. لا ريب أن دراساتى قابلة للنقد. وكثير من هذا النقد قام به فعلياً أشخاص من العالم العربي. ويبدو لى أن من المرجح، وأنا أعى جوانب الضعف الإنسانى وجوانب ضعفى بوجه خاص، أن عدداً من تلك الانتقادات مقبول جزئياً على الأقل». إلاَّ أنَّ رودنسون لم يكتف فى أبحاثه بهذا الميدان وحده. بل هو انتقل إلى الحديث بالملموس عن القضايا الشائكة التى واجهت العالم العربى فى تطوره الحديث. وكان من أكثر القضايا التى شغلته قضية فلسطين بالتحديد. وكان من أولى وأهم كتاباته فى هذا الموضوع بحثه الذى نشر فى عام 1953 فى مجلة «نوفيل كريتيك» التى كان يصدرها الحزب الشيوعى الفرنسي. وكان عنوان المقال «الاشتراكية والصهيوينة». ثم أتبع بحثه هذا ببحث آخر نشر فى المجلة ذاتها فى السبعينات من القرن الماضى بعنوان «من هم الفلسطينيون». وأهمية هذين البحثين أنهما، إذ يدخل فيهما رودنسون عميقاً فى الجذور التاريخية للقضية الفلسطينية ولقضية اليهود أيضاً، فإنهما يتجاوزان ذلك البحث إلى الراهن من الأحداث، وإلى التطور الذى اتخذه الصراع بين العرب واليهود حول فلسطين بعد قرار الأممالمتحدة بإقامة دولتين عربية ويهودية فى فلسطين. واهتمام رودنسون بالتاريخ فى هذه المسألة المعقدة يبدو لافتا للانتباه. فهو حين يذهب عميقاً فى التاريخ القديم يكاد لا يولى أهمية للأخبار التى تناولتها الكتب بما فى ذلك الكتاب المقدس، لوجود اليهود فى فلسطين بعد خروجهم من مصر. ويؤكد، فى السياق ذاته، أنه لا وجود لقومية يهودية بالمعنى الدقيق للكلمة. وما كان قد حصل عبر التاريخ هو، فى نظره، تكوّن مزيج من القومية والدين ساهمت فى صنعه الأحداث التى وقعت فى مراحل مختلفة من التاريخ القديم والحديث، مضافة إليها مصالح كانت تتكوّن عند الحركة الصهيونية الجديدة المرتبطة بهرتزل وجماعته، التى يؤكد رودنسون علاقتها بالمصالح الاستعمارية فى القرنين الماضيين التاسع عشر والعشرين. ويؤكد رودنسون، فى هذا السياق ذاته، أن الهجرة اليهودية من أوروبا إلى فلسطين خلال الحرب العالمية الثانية وفى أعقابها إنما كانت قسرية فى الكثير منها. وهو يصر على أن يهود أوروبا كانوا أكثر ميلاً للبقاء حيث هم فى بلدانهم التى يشكلون جزءاً منها ومن تاريخها، وترتبط مصالحهم بها من دون أى ريب ومن دون أى زيف. وإذ يأخذ رودنسون فى الاعتبار التطورات التى حصلت عبر التاريخ الحديث فإنه لا يجد حلاً للقضية المستعصية إلاَّ بقيام دولة ثنائية القومية عربية ويهودية فى فلسطين. وجاءت دعوته تلك قبل قيام دولة إسرائيل. والجدير بالذكر أن والدى رودنسون اليهوديين قد ماتا فى أحد معسكرات النازية خلال الحرب العالمية الثانية. وظلَّ يرفض على الدوام أن يجرى التعامل معه كيهودي، ليس تنكراً لأصله، بل لأنه كان يعتبر نفسه مواطناً فرنسياً. ولم يكن يرى فى أصوله اليهودية ما يستدعى منه الجهر بها أو الاحتماء بإعلان الانتماء إليها لأى سبب من الأسباب. فهو كان يقدم نفسه للعالم ويعرّف عن نفسه بأنه، فى جذوره المعرفية، مفكر ماركسى علمانى عقلاني. يقول رودنسون فى الكتاب الذى يحمل عنوان «الجندى المستعرب» الذى يتحدث فيه عن فترة وجوده فى لبنان كضابط احتياط فى الجيش الفرنسى خلال الحرب العالمية الثانية: «.. فى الواقع نسبى هو يهودي. لكننى لا أنتمى إلى الدين اليهودي، ولا إلى أى دين غيره. أنا دهرى بدون ديانة. وهويتى هذه معروفة فى فرنسا. ولا تطرح مشكلة. لكنها صعبة الفهم فى الشرق الأوسط». لعل أطرف وأغنى مراحل حياة رودنسون فى مطلع شبابه هى المرحلة التى قضاها فى لبنان عندما جاء مع الجيش الفرنسى خلال الحرب العالمية الثانية كضابط احتياط. والأهم فى هذه المرحلة هو ما ارتبط بالأحداث الخاصة به التى تبعت تحرره من ارتباطه بالجيش بعد هزيمة حكومة فيشى على يد القوات البريطانية وحكومة فرنسا الحرة بقيادة شارل ديجول فى عام 1941. إذ تحوّل ضابط الاحتياط مكسيم رودنسون إلى معلم مدرسة. وكانت أولى تجاربه فى التعليم فى مدينة صيدا فى جنوبلبنان. تعرّفت إلى رودنسون فى باريس فى عام 1982. واستمتعت بالحديث معه باللغتين العربية والفرنسية. وفى أواسط التسعينيات أرسل لى الكتاب الذى أشرت إليه عن ذكرياته فى لبنان الذى كان قد أصدره بالتعاون مع فيصل جلول وحمله لى جلول مع إهداء بتوقيع رودنسون وإلى جانبه توقيع جلول. من بين المفارقات التى طبعت حياة رودنسون، كما يحب أن يقول هو، أنه كان يكسب معيشته من معرفته باللغة الإثيوبية. وقد استمر ذلك لمدة أربعين عاماً. وهو يقول فى هذا الصدد: «... لقد اخترت ذلك بوعى كامل. كنت أعتبر أننى لو اخترت تدريس تاريخ الإسلام أو علم الاجتماع أو أنثروبولوجيا الشرق الأوسط فإن هذا الاختيار كان سيأتى بخمسين طالباً، وسيكون عليَّ بالتالى إدارة خمسين أطروحة. فى حين أن تدريسى الإثيوبية واللغة الحميرية (العربية الجنوبية القديمة) كان يأتى بخمسة أو ستة طلاب، ويعود عليَّ بالتالى إدارة خمس أو ست أطروحات. وهذا الأمر كان يوفر لى الوقت لمراجعة أبحاثى وكتاباتي...». لمزيد من مقالات كريم مروَّة