الله عليك يا بيروت ؟ البرد في دروبك يحمل رقتك وبهاءك. الجبال تكسوها الثلوج، والشوارع تغسلها الأمطار الكثيفة بقطراتها الفضية. بلا ترتيب، أو خطط مسبقة، أجد نفسي تحت المطر أتمشي في شارع الحمراء ببيروت، أحتمي بغطاء الرأس المثبت أعلي الجاكت، تصدر قطرات المطر الثقيلة صوتا حميما بينما ترتطم بأجساد البشر وأسقف البنايات والسيارت، النسمات الباردة تلفح وجهي بشلال من البهجة، أمضي في السير، أقطع الشارع من أوله إلي آخره، لا أريد أن أتوقف، لا تشدني المطاعم، ولا تغريني رائحة الطعام التي تفوح بأبخرتها الزكية، نعم أشعر بالجوع، لكني مأخوذة بإحساس خاص جدا لا أريده أن ينتهي، فأرجئ العشاء، وأفتح مسام روحي كي تمتلئ وترتوي بتلك اللحظات النادرة. يعلو صوت فيروز، تملأ نغمات أغنياتها كل الأرجاء،المطاعم، المقاهي، المحال التجارية، لتكمل اللحظة ألقا وجمالا. نحن والقمر جيران، بحبك يا بيروت، حبيتك بالصيف.. حبيتك بالشتاء، بعت لك يا حبيب الروح، حبيبي بده القمر والقمر بعيد، شتي يا دنيا، علي دير البوسطة، كيفك إنت. الله عليكِ يا بيروت؟ البرد في دروبك يحمل رقتك وبهاءك. الجبال تكسوها الثلوج، والشوارع تغسلها الأمطار الكثيفة بقطراتها الفضية. لم يسعفني الوقت لكي أشاهد بيروت كما يفعل السائحون، والغريب أنها المرة الثالثة لي في بيروت، يتصادف دائما أن تكون رحلتي إلي مدينة الجمال قصيرة جدا، وألا أجد إلا اليسير جدا من الوقت لأنتزع بعض اللحظات معها علي انفراد! في زيارة سابقة لبيروت العام الماضي ذهبت إلي الروشة وقضيت أمام البحر ساعة زمن متأملة لصخرة الروشة الشهيرة، وتمشيت قليلا في »الداون تاون». أما في زيارتي هذه فلم يكن لديّ وقت لأكثر من تلك التمشية الحميمة في شارع الحمراء في اليوم الذي وصلت فيه، قبل بداية مؤتمر »النساء في الأخبار». وزيارة منطقة »جعيتا» حيث كان العشاء الأخير للمؤتمر. رغم الجمال الطبيعي الساحر، لاتزال آثار الحرب الأهلية تترك آثارها علي جدران بعض المباني التي حرص الرئيس رفيق الحريري علي أن يتركها بلا إصلاح حتي يتذكر الجميع كوارث الحرب ومآسيها الإنسانية المروعة، وتصبح رعبا في أذهانهم يحرصون بكل إصرار ألا تتكرر أهوالها. أسماء المطاعم هناك لا تخلو من طرافة:»ملك البطاطا»..»ساندوتش ونص»..»ملك الطاووق»..»لقمة علي البلدي». أما أسماء محلات الجزارة وسوق السمك والدواجن »ملحمة».. »مسمكة»..»فروج». البطاطس عندنا يسمونها بطاطا، أما البطاطا عندنا فيسمونها بطاطا حلوة. القمة الأولي للمرأة في الأخبار الثلاثاء: علي مدي يومين متتاليين عقدت بالعاصمة اللبنانيةبيروت القمة الإقليمية الأولي لبرنامج »النساء في الأخبار» الذي تنظمه منظمة وان-إيفرا العالمية. ضم هذا البرنامج المهم علي مدي أربعة سنوات حوالي ثمانين صحفية من أربع دول عربية هي: مصر، لبنان، الأردن، وفلسطين. أما الهدف من البرنامج فهو تعزيز قيادة النساء والعمل علي تقوية أصواتهن في دوائر صنع القرار في مؤسساتهن الصحفية والإعلامية، ليس بالكلام الرنان والخطب الحماسية، إنما بتزويد الصحفيات والإعلاميات بمهارات واستراتيجيات، ودعم بناء شبكات مهنية بينهن وذلك من أجل إعدادهن للحصول علي المواقع القيادية داخل مؤسساتهن الإعلامية. تشاركنا الكثير من المعلومات الحديثة حول وضع الصحف في مواجهة الفضاء الالكتروني، ومنتجاته المتجددة، وناقشنا التحديات التي تواجهها- الآن- مهنة الإعلام بصفة عامة وسمعنا من متخصصين في أكبر الصحف العالمية نتائج دراسات وأبحاث مهمة حول مستقبل الصحافة في العالم. فاطمة فرج المديرة الإقليمية لمنظمة وان-إيفرا في منطقة الشرق الأوسط كانت الدينامو المحرك لتروس هذا البرنامج الجاد لتمكين المرأة في مجال الإعلام، بذلت جهدا كبيرا مع فريق عمل البرنامج في الإعداد لهذه القمة الأولي من نوعها. وقالت »أنا فخورة بما حققه البرنامج، وسعيدة بنجاح المؤتمر». وأضافت: لقد حرصنا علي حضور رؤساء تحرير من الرجال أيضا معنا حتي لا نتكلم مع أنفسنا، فتلك الأفكار والخبرات التي نطرحها تحتاج إلي التقاء وجهات النظر والتفاهم بين النساء والرجال في غرف الأخبار. من أجمل التجارب الشخصية التي رويت في المؤتمر كانت قصة لورا زالينكو وتشغل الآن منصب كبيرة المحررين التنفيذيين بشركة بلومبيرج للأخبار. قالت: واجهت صعوبة في العمل كمراسلة أجنبية عندما بدأت عملي في شرق أوروبا، كنت ألبس خاتم زواج رغم أنني في ذلك الوقت لم أكن متزوجة حتي لا يتم التحرش بي. بعض الأحيان كان علي أن أجري بعض المقابلات في فنادق، كان عليّ أن أرتدي ملابس بسيطة جدا، وماكياج بسيط وأوجه الأسئلة بصورة مباشرة، جادة، كنت في براغ، ثم تزوجت من زميلي وبينما كنت حاملا طلب مني السفر إلي موسكو لتغطية أحداث هناك، لم أكن أرغب في السفر وقتها ولا أن ألد ابني في موسكو، لكنني قبلت حتي استمر في مسيرتي المهنية، وبالفعل وضعت طفلي في موسكو. مهما كانت التحديات كنت دوما مستعدة للقيام بها، عندما عينت كمديرة لمكتب أمريكا الجنوبية لم أكن أعرف الأسبانية، ورغم ذلك قبلت المنصب، وتعلمت خلال تلك الفترة اللغة البرتغالية وخبرة جديدة. المشكلة أن النساء في غرف الأخبار لا يقتنعن بأن تكون رئيستهن امرأة ويقولون: لقد حصلت علي المنصب لأنها جميلة!! التحدي الكبير أمام صناعة الإعلام يتطلب إعادة صياغة للأهداف بكل صراحة، والحفاظ علي الحد الأدني من المهنية بتطوير الذات لامتلاك أكثر من مهارة تتيح فرص أكبر في سوق العمل، كذلك إعادة النظر في أنواع ملكية الإعلام في البلاد العربية بأن يشارك المحررون بأسهم في ملكية الصحف التي يعملون بها وهي الفكرة القديمة التي جاءت في وصية الكاتب الصحفي مصطفي أمين بتمليك أخبار اليوم للعاملين بها، والتي لم تتحقق حتي اليوم. تحدثت جمانة غنيمات وزيرة الإعلام الأردنية عن أهمية تحسين البيئة التشريعية في مجال تمكين المرأة الإعلامية وتحسين تلك البيئة فيما يخص العمل الإعلامي بصفة عامة باستصدار قانون الحق في الحصول علي المعلومة. الجميل في الأمر إن الوزيرة المستنيرة كانت أول صحفية أردنية ترأس تحرير جريدة إخبارية يومية هي جريدة الغد، لذلك فهي قادمة من قلب المهنة، مدركة تماما لهمومها وتحدياتها. التخصص في المنتجات الإعلامية جاءت كتوصية مهمة، أي أن تبحث الجرائد أو المنصات الإخبارية المتخصصة عن مجال بعينه، المطلوب أيضا هو التركيز علي الصحف المحلية، أي التي تغطي محافظة أو حي أو منطقة معينة لها خصوصيتها. مي زيادة في معرض الكتاب الأربعاء: لا أدري ما الذي يدفعني إليها دفعاً في الوقت الذي أتخيل فيه أنها خرجت مني، وحررتني من ذلك الالتزام الإنساني والأخلاقي الذي أحسه تجاهها؟! كأن قدراً غامضاً يتربص بي، يأبي أن أفك هذا الخيط الخفي الذي يربطني بها، يرفض أن أنسي قصتها، أو أن أضعها في خانة الذكريات كأحد أهم الإنجازات الأدبية التي أعتز بها في مشروعي الأدبي. أتحدث عن »مي زيادة» الأديبة المصرية اللبنانية الفلسطينية الفريدة. »درة الزمان» كما أطلق عليها مفكرو عصرها، والشخصية المحورية لمؤلفي »مي زيادة. أسطورة الحب والنبوغ» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2000، والحائز علي جائزة أفضل كتاب في معرض القاهرة الدولي للكتاب في 2001. صدر في ثلاث طبعات متتالية حتي الآن. وها هي الطبعة الرابعة الآن بين يدي قارئي العزيز.. تعرضها دار العين للنشر في جناحها بمعرض القاهرة الدولي للكتاب. ثماني عشرة سنة مضت منذ صدور الطبعة الأولي من كتاب »مي زيادة.. أسطورة الحب والنبوغ» جرت في أنهارها الكثير من المياه. فتلك الأسطورة التي أتحدث عنها حاضرة لاتزال، رغم رحيلها عن دنيانا عام 1941! إنها الشخصية المثيرة للجدل، المغرية للبحث، المحفزة للاكتشاف، القابضة علي الشغف في قلوب الأدباء، المولدة لشحنة الخيال والإلهام لدي الفنانين والمبدعين. هذه هي »مي». سبعة وسبعون عاما علي رحيلها ولاتزال الصحف والدوريات تنشر أخبارا عنها، ويثار في الآونة الأخيرة جدل حول أحقية لبنان برفات مي حيث إنها في الأصل لبنانية لأب لبناني هو إلياس زيادة، لكن مصر تتمسك باحتضان قبر مي في ترابها، لأن مي نفسها تنتمي إلي مصر أكثر من أي بلد آخر. صحيح أنها كانت تصف نفسها ب »اللامنتمية» حيث ولدت في لبنان، وأمها من الناصرة بفلسطين، وعاشت سنوات مجدها الأدبي كله بالقاهرة. لكنها كانت تعتبر نفسها مصرية بالقلب والفكر والروح، وعندما احتجزت بمستشفي العصفورية بلبنان كانت الممرضات يطلقن عليها »المجنونة المصرية» كذلك فإنها وخلال فترة تواجدها الأخيرة في لبنان كانت تتوسل إلي ابن عمها، السبب في نكبتها ومأساتها، أن يعيدها إلي مصر، وظلت تكرر »أريد أن أعود إلي بيتي» أي أن البيت أو الوطن في أعماقها كان مصر، التي أوصت أن تدفن في ترابها. إذن »مي» لاتزال شديدة الحضور رغم رحيلها عن دنيانا، وهذا شأن الشخصيات الملهمة، الفريدة في تاريخ الإنسانية، ليس هذا فحسب ولكن ربما لأن »مي» وقصة حياتها تجسد تراجيديا إغريقية من طراز رفيع. طفولة موحشة باردة، لكنها غنية بالثقافة والانفتاح علي الآداب العالمية بلغاتها الأصلية. شباب يشهد انطلاق شهب النجم الساطع، وتربع »مي» علي عرش المثقفة العصرية السابقة لزمانها ومكانها. ثم مرحلة الانطفاء التام في ظلام المؤامرة الدنيئة التي دبرت لها من أقرب الناس إليها واتهامها زورا وبهتانا بالجنون، والزج بها في دهاليز مستشفي العصفورية ببيروت. كل ما تلا ذلك الفصل المأساوي في حياة مي لم يكن إلا هوامش باهتة، بائسة علي صفحة حياتها الحافلة بالمجد، الإعجاب، الحب، الوله، الانبهار، الألم، الصدمة، العذاب الأسطوري الذي عاشته في أخريات أيامها. أغرت القصة الغنية، والدراما الواقعية الكاتب السيناريست عاطف بشاي لتحويل كتابي عن مي إلي مسلسل تليفزيوني، وكتبه بالفعل، لكن الأحداث السياسية من ثورات وتغيير في بلادنا العربية خلال السنوات الأخيرة، أخرت المشروع، فلم يظهر حتي الآن إلي النور. فقد كانت وستظل الأسطورة التي تتجدد باستمرار، وتجد من يتابعها، ويقرأ لها وعنها باهتمام وشغف.