الكنيسة الأسقفية تؤيد اتفاق شرم الشيخ وتثمن جهود القيادة المصرية من أجل السلام    حملات تفتيش على المنشآت السياحية بالأقصر للتحقق من تطبيق قانون العمل الجديد    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الثلاثاء 14 أكتوبر 2025    أسعار اللحوم اليوم الثلاثاء 14 أكتوبر 2025    أسعار الحديد والأسمنت في مصر اليوم الثلاثاء 14 أكتوبر 2025    التضامن تطلق حزمة أنشطة تنموية لطلاب الابتدائية بمشروعات السكن البديل    الأسهم الآسيوية تتباين وسط تصاعد التوترات التجارية بين واشنطن وبكين    بايدن يعلق على قمة شرم الشيخ للسلام: عملت على إعادة الرهائن وتقديم الإغاثة للفلسطينيين    قمة شرم الشيخ.. وسائل إعلام أمريكية تبرز كلمة الرئيس السيسى وإشادة ترامب    جورجيا ميلونى عبر x: ناقشت مع الرئيس السيسي مراحل تنفيذ خطة السلام    مصر تدعم التنمية الزراعية في موريتانيا بإنشاء فرع مركز بحوث بنواكشوط    الأمم المتحدة تخصص 11 مليون دولار إضافية لدعم العمليات الإنسانية في غزة    حماس توضح أسباب تسليم عدد أقل من جثامين الرهائن وتؤكد: «القيود الميدانية خارجة عن الإرادة»    «حل مشكلتك» عماد النحاس يحرج نجم الأهلي برسالة صريحة    إبراهيم حسن: هناك من يكره وجودنا في منتخب مصر    المصرى يثمن جهود الرئيس عبد الفتاح السيسى لإنهاء معاناة الشعب الفلسطينى    المكسب هو الحل.. ماذا يحتاج المنتخب السعودي والعراقي من أجل حسم التأهل إلى كأس العالم؟    تصفيات المونديال في 3 قارات.. مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء    اليوم.. طقس مائل للحرارة نهارا على أغلب الأنحاء والعظمى بالقاهرة 30 درجة    اليوم.. الحكم على 4 متهمين ب"خلية الحدائق"    مصرع شاب إثر سقوطه من الطابق الرابع في الغردقة    الأمن يفحص فيديو لشاب يستعرض بدراجة نارية بطريقة خطرة في أحد الطرق العامة    ذات يوم 14 أكتوبر 1994.. محاولة فاشلة لاغتيال نجيب محفوظ تنفيذا لفتوى ضالة من مفتى الإرهاب عمر عبدالرحمن بسبب رواية «أولاد حارتنا» ومرتكب الجريمة يعترف بأنه لم يقرأها    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 14-10-2025 في محافظة الأقصر    موعد الإجازة الرسمية المقبلة في مصر للقطاع العام والخاص (5 أيام بأكتوبر عطلة أسبوعية)    بحضور وزير الزراعة السوري.. «سويلم» يفتتح الاجتماع ال38 للشبكة الإسلامية لتنمية وإدارة مصادر المياه    تصفيات كأس العالم - رأسية فولتماده تمنح ألمانيا الفوز على إيرلندا الشمالية وصدارة المجموعة    وزير الاتصالات: الذكاء الاصطناعي التوليدي يعيد تشكيل العملية التعليمية    بريطانيا توجه رسالة شكر إلى مصر بعد قمة شرم الشيخ للسلام    جولة داخل متحف الأقصر.. الأكثر إعجابًا بين متاحف الشرق الأوسط    وفاة شقيق عبد المنعم إبراهيم .. تعرف على موعد ومكان العزاء    شادي محمد: حسام غالي خالف مبادئ الأهلي وأصول النادي تمنعني من الحديث    «التعليم» توضح موعد بداية ونهاية إجازة نصف العام 2025-2026 لجميع المراحل التعليمية    شاهد سقوط مفاجئ لشجرة ضخمة على سيارة بمنطقة الكيت كات    توفير أكثر من 16 ألف يومية عمل ضمن اتفاقية تحسين مستوى المعيشة بالإسكندرية    «شرم الشيخ» تتصدر مواقع التواصل ب«2 مليار و800 ألف» مشاهدة عبر 18 ألف منشور    بسبب اللقاء المرتقب بين ترامب وشي جين بينج.. أسعار النفط تغلق على ارتفاع    توتر داخلي وعدم رضا.. حظ برج الدلو اليوم 14 أكتوبر    ارتياح بعد فترة من التوتر.. حظ برج القوس اليوم 14 أكتوبر    إسعاد يونس: خايفة من الذكاء الاصطناعي.. والعنصر البشري لا غنى عنه    بعد استبعاد أسماء جلال، هنا الزاهد مفاجأة "شمس الزناتي 2"    أحمد التايب للتليفزيون المصرى: مصر تحشد العالم لدعم القضية الفلسطينية    هبة أبوجامع أول محللة أداء تتحدث ل «المصري اليوم»: حبي لكرة القدم جعلني أتحدى كل الصعاب.. وحلم التدريب يراودني    دولة التلاوة.. تاريخ ينطق بالقرآن    التفاح والقرنبيط.. أطعمة فعالة في دعم صحة الكلى    4 طرق لتعزيز قوة العقل والوقاية من الزهايمر    تجنب الوجبات الثقيلة ليلًا.. 7 نصائح تخلصك من الأرق نهائيًا    علماء يحذرون: عمر الأب يحدد صحة الجنين وهذا ما يحدث للطفرات الجينية في سن 75 عاما    قرار جديد للشيخ سمير مصطفى وتجديد حبس صفاء الكوربيجي.. ونيجيريا تُخفي علي ونيس للشهر الثاني    ضبط 10 آلاف قطعة باتيه بتاريخ صلاحية مزيف داخل مخزن ببني سويف    اعرف مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 14-10-2025 في بني سويف    أردوغان لميلوني في قمة شرم الشيخ: تبدين رائعة (فيديو)    قلادة النيل لترامب.. تكريم رئاسي يعكس متانة العلاقات المصرية الأمريكية    محافظ قنا يشهد احتفالية قصور الثقافة بذكرى انتصارات أكتوبر    ما هي نصوص اتفاق وقف الحرب في غزة؟    قرار من النيابة ضد رجل أعمال نصب على راغبي السفر بشركات سياحة وهمية    هتافات وتكبير فى تشييع جنازة الصحفى الفلسطيني صالح الجعفراوى.. فيديو    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 13-10-2025 في محافظة قنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن نفق المشهد الثقافيّ المظلم الطّويل
نشر في أخبار السيارات يوم 27 - 10 - 2018

يبدو مشهد ترجمة الأدب العربيّ إلي اللّغات الأخري، متأزّمًا بذات الدّرجة، أو لنقل: يشكّل انعكاسًا مباشرًا للأزمة، التي يعانيها المشهد الثقافيّ العربيّ، وتحوّلاته، ومستجدّاته. علي القمّة من هذه الأزمات المستجدّة، تأتي "الجوائز" ذات الطابع الكرنفاليّ، والمبالغ الضّخمة، و"النجوميّة" التي تترتّب علي بعضها؛ وهي جوائز غير معنيّة بنوعيّة الكتابة، أو إدخال إضافةٍ نوعيّة عربيّة علي الحوار الأدبيّ العالميّ، بقدر ما هي معنيّة بالمباهاة، والفشخرة، تتعلّق بمن يملك الجائزة الأكبر والأهمّ، ويتمّ التّعامل معها باعتبارها زينة إضافيّة تعلّق علي الجدران لزوم الوجاهة، وطريقة جديدة لادماج الكتابة والثقافة والإبداع ضمن حدود هيمنة السّلطة. وسيلة إضافيّة للتّدجين والاحتواء.
الجوائز والسّوق: رقابات جديدة تُحدّد ما الذي سيُترجم
حصلنا إذًا علي أداةٍ رقابيّةٍ جديدةٍتُضاف إلي الرّقابات المعروفة تقليديًّا، ذراعًا طويلةً جديدةً للسّلطة، بظاهرٍ "طوعيّ" و"محايد" هذه المرّة، لفرض رؤاها بشكل غير مباشر، وتأكيد وضعيّة الكاتب/المثقّف "المتسوّلة"، اللاهثة خلف الأعطيات التي تأخذ اليوم شكلًا عصريًّا و"إيجابيًّا". بينما يحظي "السّوق"، المتمثّل ب"صناعة نشر" متخلّفة (حتي في اشتقاق أدوات تسويقيّة فعّالة)، بحصّة كبيرة إذ يدفع بسلعته الأساسيّة: الرّواية، الأكثر انتشارًا ومبيعًا بسبب سهولة تلقّيها (الأحداث والشخصيّات تبني علي رويّة ومهل، بكل التفاصيل، إذ تنفرد باسترخاء علي علي عدد كبير من الصّفحات، وتعطي نفسها دون كثير غلبة، بعكس القصّة والشعر اللذين يحتاجان إلي جهد من القارئ)، وإثارتها وتسلويّتها (يظلّ القارئ معلَّقًا ليعرف: ماذا بعد؟ ماذا بعد؟)، إلي "الصفّ الأوّل" أدبيًّا، باعتبارها الجنس الأدبي "الأهمّ" الذي يجب أن يُحتفي به (ولا يُقال: البيّاع، الذي يضمن المبيعات، وبالتالي: الأرباح).
خارج إطار الجوائز الرنّانة، ذات الخيارات المتواضعة حينًا، والرديئة حينًا، والجيّدة حينًا (الجائزة العالميّة للرّواية العربيّة، أو البوكر العربيّة؛ وجائزة "كتارا")، واللّتان تُقدّمان حصريًّا للرّواية، وتتعهّدان بترجمة الأعمال الفائزة، لا نجد مساحات أُخري للتّرجمة سوي في جائزة نجيب محفوظ التي تقدّمها الجامعة الأمريكية في القاهرة، وتُعطي (أيضًا وأيضًا) للرّواية، حتي يضمن النّاشر (وهو في هذه الحالة: دار نشر الجامعة الأمريكية في القاهرة) أن يُسوّق الكتاب؛ وجائزة "الملتقي"، الجديدة، التي تُقدّم لمجموعة قصصيّة واحدة تتعهّد بترجمتها إلي الإنجليزيّة، هذه الجائزة ما تزال في دورتها الثالثة، ولا يمكن تقييمها بشكل دقيق.وفي ذات الوقت الذي تنحصر فيه خيارات التّرجمة بمُخرجات هذه الجوائز، لا توجد في العالم العربيّ مؤسّسات للتبادل الثقافي، أو الترجمة من العربيّة إلي اللّغات الأخري، أو منح تُشجّع حركة التّرجمة في ذلك الاتّجاه، مثل العديد من الدّول الأخري التي تتعامل مع الأدب والفنّ بشكل جديّ.
هناك جائزة واحدة فقط مفتوحة لجميع الأجناس الأدبيّة، من قصة وشعر ورواية وسيرة ذاتيّة ومسرح، ومن خارج العالم العربيّ، هي جائزة جامعة آركنسو للأدب العربيّ وترجمته، يُقدّمها مركز الملك فهد للدراسات الشرق أوسطية في جامعة آركنسو في الولايات المتحدة، وتتعهّد بنشر ترجمة الكتاب الفائز بالتعاون مع منشورات جامعة سيراكيوز، ضمن سلسلتها للأدب الشرق أوسطيّ المُترجم، وهي الجائزة الوحيدة ذات الخيارات الجريئة والنوعيّة، لكنّها توقّفت -بكل أسف- منذ العام 2015، بعد اثنين وعشرين عامًا من النشاط، أصدرت خلالها 21 عنوانًا في القصّة والشّعر والرواية والسّيرة.
طريق الترجمة غير السّالك: استمراريّة الرّداءة، والخيارات الاستشراقيّة
هكذا صارت خيارات التّرجمة تنحصر بأمرين اثنين،الأوّل: ما يحوز علي رضا الجوائز التي تتكفّل هي أيضًا بالترجمة، وهذه كلّها جوائز أغلبها السّاحق (كما عاينّا)متعلّق بالرّواية؛ والثاني: ما يحوز علي رضا الناشر
الغربيّ من روايات »بيّاعة»‬ (سلفًا، بلغتها الأم)، و/أو تلك التي تتحقّق فيها »‬إكزوتيكيّة» ما، أو منظورات تتوسّل الفهم الغربيّ السطحيّ، أو تطرح مواضيع راهنة، تجعلها قابلة للاستهلاك الاستشراقيّ العموميّ في سوقٍ، ولدي قارئٍ، ما يزال يتلصّص علي »‬الشّرق» وعوالمه من خلال ثقب باب »‬ألف ليلة وليلة»، وينظر إليها باعتبارها مداخل »‬للفهم» والقراءة السوسيولجيّة والسّياسيّة، وتُقيّم للنشر علي هذا الأساس، لا باعتبارها أعمالًا فنيّة ذات سويّة إبداعيّة متميّزة.
كل هذا يؤدّي إلي استمراريّة الرّداءة، وإهمال الكتابات الطليعية والفنيّة التي غالبًا ما لا تحظي برضا الجوائز، أو هي –عادةً- من الأجناس غير المحتفي بها جوائزيًّا، فالكتابة الطليعيّة العربيّة لا توجد -عمومًا- في الرواية، بل في القصّة، والشّعر، والأجناس الهجينة أو التخوميّة. هكذا يظلّ المنظور العالميّ عن الأدب العربيّ أنه أدب متواضع، أو رديء، ويظلّ مُنمّطًا-بالمعني الاستشراقيّ-، لأن ما يصل من ترجمة يعزّز هذه النظرة.
كيف يتعامل العالم »‬الآخر» مع أدبه، وكيف يُترجمه
في العالم »‬الغربيّ»، هناك العديد من الآليّات التي تفتح سياقات الترجمة،منها: التعامل مع الأدب بجديّة أكبر، والفصل الكامل بين الأدب التجاريّ، الأكثر مبيعًا، وبين الأدب الفنيّ،ومنها: المؤسّسات الخاصة المعنيّة بالتّرجمة، والتي تموّل وتدعم التّرجمة من لغتها إلي اللّغات الأخري، ومنها: الناشر نفسه، الذي يختار الكتاب بشكل مدروس بحسّب توجّهاته، أو توجّهات محرّريه، أو محرّري السلاسل المختلفة التي يُصدرها، ويتعامل مع المؤلّف باحترام، فيشتري الحقوق من المؤلّف أو من صاحب تلك الحقوق (إن كان صاحب الحقوق ناشرًا آخر)، ويطبع الكتاب علي نفقته، ويدفع نسبة من سعر الغلاف للمؤلف، فيتشكل عند الناشر (بناءً علي كلّ ذلك) الدّافع اللّازم لترويج الكتاب والكاتب، فيوزّع الكتاب بأفضل ما يستطيع حسب قدراته (دور النّشر الكبيرة تمتلك وصولًا ونفاذًا أكبر، وتطبع عدد نسخ أكبر، وخياراتها أكثر محافظةً، وكتبها أقلّ ثمنًا؛ مقابل جرأة أكبر لدي دور النشر المتوسّطة والصغيرة لنشر كتابات أكثر طليعيّة، وتطبع عدد نسخ أقلّ، وكتبها أعلي ثمنًا)؛ ويقترح الناشر الغربيّ كتبه علي قوائم القراءة، ويقترحه علي المُراجعين والنقّاد، ويسعي لبيع حقوق ترجمته للّغات أخري من خلال معارض الكتب، والعلاقات التي ينسجها مع ناشرين محترفين آخرين، كل هذا بعكس الناشر العربيّ الذي ينحصر دوره بطباعة الكتاب، بعد أن يتقاضي أجور الطّباعة من المؤلّف في أغلب الأحيان، وينتهي الأمر عند ذلك: فالأرباح تحقّقت حتي قبل أن يظهر الكتاب إلي الوجود، ونوعيّة الكتابة غير مهمّة ما دام ثمنها مدفوعًا سلفًا. أي دافع يتبقّي عند النّاشر لترويج كتبه واحترام مؤلّفيه؟
ومن الآليّات التي تفتح آفاق التّرجمة أيضًا »‬الوكيل الأدبيّ»، المعنيّ ليس فقط ببيع حقوق الكتاب إلي ناشري لغته الأمّ، بل ببيع حقوق ترجمة الكتاب، واقتراح مشاركة الكاتب في الملتقيات والمهرجانات الأدبيّة المختلفة، التي يتواجد فيها عمومًا »‬كشّافون»، أو مهتمّون، من دور النّشر، أو المهرجانات الأدبيّة الأخري. ومنها أيضًا المجلّات الأدبيّة التي تزدهر وتنتشر بشكل واسع في الولايات المتّحدة وبريطانيا، علي العكس من احتضارها عربيًّا، وهذه تشكّل مكانًا يتعرّف فيه الناشرون، والوكلاء الأدبيّون، والمترجمون، ومنظّمو المهرجانات والفعاليّات الأدبيّة، علي الكُتّاب.
الاحتراف والجديّة هناك، مقابل الشلليّة والفساد هنا
هناك إذًا حلقة كاملة مفقودة من الجديّة والاحتراف، لا علاقة لها بما نعرفه في العالم العربيّ من شلليّة ورداءة. فالمؤتمرات والملتقيات عندنا هي مناسبات شلليّة لتبادل الدّعوات والزّيارات والمجاملات والخدمات والمصالح, أما الجوائز فهي منضبطة بخيارات »‬النسق العامّ»، ونفوذ بعض الشخصيّات الثقافيّة، ونفوذ السّلطة، ونفوذ السّوق وتسليع الأدب، والرّشوات (مثل أن يتقاسم الكاتب الجائزة الماليّة الكبيرة مع عضو مؤثر في لجان التحكيم)؛ أمّا دور النّشر فتنشر لمن يدفع، لا حقوق، ولا تكاليف، ولا انتقائيّة، ولا شغف، ولا يحزنون.
لهذا يُصدم كثير من الكتّاب العرب من الانتقائيّة العالية التي تنتشر في عالم النشر الغربيّ، خصوصًا في شقّها غير التجاريّ المتمثّل بالمجلّات الأدبيّة. أغلب المجلات الأدبيّة في الولايات المتحدة تتبع مؤسّسات جامعيّة، وهي مفتوحة ليتقدّم لها الكتّاب بمساهماتهم، بغضّ النظر عن المسافة التي قطعوها بمشوارهم الأدبّي، وكثير منها مفتوح أمام النّصوص المُترجمة، بل إن بعضها يقدّم الجوائز للنّصوص المترجمة إلي الانجليزيّة، ضمن مستويً عالٍ من الانتقائيّة فما يتعلّق بالسويّة الأدبيّة، فالنسبة العامّة المعروفة لما يُقبل للنّشر في هذه المجلّات هو 1% من مجموع النّصوص المُتقدّمة، وهي نسبة ضئيلة جدًّا جدًّا، تضمن نوعيّة عالية للنّصوص المنشورة. وغالبًا ما يُقدّم محرّر المجلّة ملاحظات تحريريّة للمؤلّف، ويخوضان نقاشًا أدبيًّا حول المقاصد والدّلالات والتراكيب اللغويّة، وهو ما يرفع أيضًا من قُدُرات الكاتب، ويطوّر إمكانيّاته التكثيفيّة والتحريريّة.
الجهود الفرديّة تتفوّق بأشواط علي الجهود المؤسسيّة: تجربة شخصيّة
بدأت تجربتي الخاصة مع ترجمة أعمالي إلي الإنجليزيّة عام 2011، عندما قمت بنفسي بترجمة قصّتين لي، وقدّمتهما للنشر في عدّة مجلّات أدبيّة في الولايات المتحدة. بعد عام كامل، وصلتني موافقة علي نشر إحداهما من مجلة أدبيّة أمريكيّة هي »‬ذي سانت آنز ريفيو»، مرفقٌ بها عدد كبير جدًّا من الملاحظات التّحريرية علي التّرجمة. عرضتُ النصّ الأصليّ، والنصّ المترجم المرفق بالملاحظات، علي المترجمة الأدبيّة ثريّا الريّس، وكانت تلك بداية لعلاقة أدبيّة تطوّرت كثيرًا بعدها لنحصد من خلالها عدّة جوائز، وتُحقّق كتاباتي من خلال ترجماتها، ولاحقًا من خلال ترجمات المترجمة الأدبيّة مايا ثابت، حضورًا واسعًا في المجلّات الأدبيّة في الولايات المتّحدة وبريطانيا وكندا وأيرلندا، العالم النّاطق باللغة الإنجليزيّة.
ملاحظات ثريّا علي ما عرضته عليها كان يتلخّص في ثلاث كلمات: »‬هذه التّرجمة [ترجمتي] هُراء!» فهمت حينها أن إجادتي للّغة الإنجليزيّة شيء، وأن التّرجمة الأدبيّة إلي اللّغة الإنجليزيّة شيء آخر تمامًا: علي المترجم ألّا يكون ثنائيّ اللّغة فحسب، بل عليه أن يكون ثنائيّ الثّقافة، مع تفضيل أن تكون لغته الأمّ هي اللُّغة المُترجم إليها، مع تمكّنه من اللّغة المُترجم عنها.
تحمل الكلمات والعبارات (خصوصًا في الأدب) سياقات وإشارات وعناصر ثقافية، مُعلنةً احيانًا، لكنّها كثيرًا ما تكون مضمرة، أو مستبطنة؛ وقد يكون المعني المعجميّ المباشر لكلمة ما مختلفًا تمامًا عن استخدامه في سياق آخر يوميّ، مثلًا: كلمّة »‬خَسّة» (التي تشير إلي نوع معيّن، معروف، من الخضار) يصبح معناها »‬فتاة جميلة» إن جاءت في سياق آخر ضمن حوار بين شخصيّات عَمَّانيّة في قصّة أو رواية. ثمّة مترادفات كثيرة تؤدّي نفس المعني بالإنجليزيّة، قد لا أشعر أنا بالاختلافات الطّفيفة بينها، بينما يتمكّن مَن تُعتبر الإنجليزيّة لغته الأم، مِن الإحساس بها، ومعرفة الفروقات النفسيّة والانطباعيّة التي يخلّفها كلّ مترادف علي قارئ النص، وبالتالي سيتمكّن من اختيار الكلمة المناسبة. والمترجم الأدبيّ أيضًا كاتب أدبيّ بلغته الأولي، لديه إمكانيّات نقل الشّكل، أو اشتقاق شكل للنصّ المترجم يعبّر عن الشّكل في الأصل.
أعادت ثريّا ترجمة النص قبل نشره، ثم ترجمت نصًّا آخر لي اختير ضمن ملفّ خاصّ عن القصّة القصيرة جدًّا في العالم، ضم عشرة نماذج مختارة قدّمته مجلة »‬وورلد ليتريتشر توداي» (World Literature Today)، وهكذا توالي قبول نصوصي المترجمة للنشر في المجلّات الأدبّية، والتي يبلغ عددها اليوم 30مجلّة وكتاب أنطولوجيّ، منها منشورات بالغة الانتقائيّة، ويسبغ النّشر فيها مكانة رمزيّة علي الكاتب، مثل »‬ذي كينيون ريفيو» (The Kenyon کeview)، أو »‬مودرن بويتري إن ترانسلاشن» (Modern Poetry in Translation) أو »‬ذ بووِتري ريفيو» (The Poetry کeview) أو »‬ذي لوس آنجليس ريفو أوف بوكس» (The Los Angeles کeview of Books)، أو أنطولوجيا »‬أفضل القصص القصيرة الآسيويّة»؛ وحاز كتابي »‬أري المعني» (بنسخته العربيّة، إلي جوار النسخة الإنجليزيّة الذي ترجمته ثريّا) علي جائزة جامعة آركنسو للأدب العربي وترجمته لعام 2014. كتابي هذا لم يكن ليُنشر مُترجمًا دون هذه الجائزة الطليعيّة، لأنّه (وببساطة)خارج سياق الاهتمامات »‬المتعارف عليها» لجهة أنّه كتاب تجريبيّ، يشتغل علي التّخوم التي تجمع السّرد القصير جدًّا بالشعر، إذ تضمّنت الجائزة عقدًا لنشر الكتاب ضمن سلسلة الأدب الشرق أوسطي في منشورات جامعة سيراكيوز، ونشر عام 2015 بعنوان »‬The Perception of Meaning»، ليحوز علي تقدير آخر من جائزة آلدو وجيان سكاجليوني لأفضل عمل أدبيّ مترجم، التي تقدّمها جمعية اللّغات الحديثة في الولايات المتّحدة.
لكن المستوي الشخصيّ لم يكن المستوي النهائيّ بالنّسبة لي، ولا يجب أن يكون، إذ وجدتُ أن عليّ واجب المساهمة في دفع الأصوات العربيّة الجادّة إلي هذا الحيّز الصعب، والمساهمة في تغيير الصّورة (التي صارت نمطيّة) عن أدبٍ يُظنّ أنّ إمكانيّاته متواضعة، لهيمنة الرّداءة والجوائز والسّوق والسّلطة عليه، وعلي خيارات ترجمته.
عام 2012، كتبت جينفر آكر، رئيسة تحرير مجلة »‬ذي كومون» (The »‬ommon)، المجلّة الأدبيّة لجامعة آمهيرست العريقة في الولايات المتحّدة، مقالة عن الأردن، اقتبستْ فيها مقاطع من قصّتي المترجمة المنشورة في مجلّة »‬ذي سانت آنز ريفيو» التي تحدّثت عنها. لفتت المقالة انتباهي، وحفّزتني علي التواصل مع جينفر، وهو تواصل أدّي لنشر إحدي قصصي المترجمة في المجلّة عام 2013، وانتهي الأمر (عبر سلسلة من المقترحات المُتبادلة) إلي مشروع كبير تحقّق عام 2016، حين حَلَلْتُ علي المجلّة كرئيس تحرير ضيف إلي جوار جينفر، لنُصدر عددًا كاملًا من هذه الفصليّة (عدد 11، ربيع 2016) مخصّصًا بالكامل للأدب العربي المترجم إلي الإنجليزيّة، جمعتُ فيه قصصًا مختارة بعناية، ل 26 كاتبًا عربيًّا، ترجمها 18 مترجمًا، وزيّن العدد لوحات وصور ل4 فنّانين من العالم العربيّ، في جهد هو الأوّل من نوعه علي هذا المستوي الواسع بالنسبة لمجلّة أدبيّة في الولايات المتّحدة، ذلك البلد الذي لا يمثّل مايُنشر مُترجمًا من جميع اللغات الأخري أكثر من 3%من إجمالي الكتب كلّ عام، أما حصّة الأدب العربي فهو يقارب الواحد بالمئة داخل الثلاثة بالمئة تلك، أي 0.0013%، نسبة تقارب الصّفر.
لم يتوقّف الأمر هنا، فبحلولي محرّرًا للأدب العربيّ في المجلّة اعتبارًا من منتصف العام الماضي 2017، بدأت مجلّة »‬ذي كومون» بنشرملفّ سنويّ في عددها الصّادر في الرّبيع، يُخصّص للأدب العربيّ المترجم إلي الإنجليزيّة، يختصّ كلّ ملفّ بكُتّاب مختارين من بلدٍ عربيّ بعينه، أو بثيمة محدّدة تجمع كتّابًا من دول عربيّة مختلفة، وبدأ نشر الملفّات بملفّ عن الأردن في عدد ربيع هذا العام (ونشر أصله العربيّ بالتزامن في ملحق خاص صدر مع أخبار الأدب ضمن تعاون مشترك عابر للأطلسيّ، سيستمرّ مستقبلًا).
يعتبر هذا الأمر إنجازًا للأدب العربيّ الجادّ، خصوصًا وأن معايير النّشر في المجلّات الأدبيّة تختلف اختلافًا بيّنًا عن مثيلاتها لدي دور النشر، حيث لا توجد أيّة اعتبارات تجاريّة أو تسويقيّة عندها علي الإطلاق، إذ هي– بمجملها- لا تبغي الرّبح، وتتشكّل موازناتها بالدعم الماليّ الذي تقدّمه الجامعة التي تُصدرها (إذ تُعتبر مثل هذه المجلات فخرًا للجامعة، وتدلّ علي مكانتها وأهميّتها)، ومن المنح الماليّة الأدبيّة التي تحصل عليها من المؤسسات المختلفة ذات العلاقة بالأدب ودعمه.
هذه مبادرات فرديّة لشخص واحد مهتمّ، استطاعت أن تفتح آفاقا أوسع قليلًاللأدب العربيّ، لم تفعله مؤسّسات بحالها، ووزارات ثقافة تستشري فيها أمراض الفساد، والشلليّة، والتوزيع الوضيع للأعطيات، وسلطة تهتمّ بآليّات إخضاع الكاتب وتوظيفه؛وهذه الخطوات المتتابعة، المتراكمة، التي تنبني إحداها فوق الأخري لتصل إلي نتيجة فعّالة، لم –ولن- تحصل معي في بلدي، الأردن، ولا في العالم العربيّ، وهو أمرٌ مؤلم بلا شكّ، لكنّه حقيقيّ، فمعايير »‬التّعاون» و»‬فتح الآفاق» و »‬الاختيار» مختلفة، تَستبعد الكفاءة والإبداع سلفًا، لأنها تفضح بؤس وعقم ما هو قائم. وبينما تحظي مبادرات (مثل تلك التي أوضحتها) بالتّرحيب، والتّنفيذ، عالميًّا، نجدها تحظي بالتّجاهل، والإهمال، محليًّا، إلي الدرجة التي توقّفتُ فيها تمامًا عن اقتراح أي شيء علي أيّ مؤسسة في الأردن، أو العالم العربيّ؛ فالكاتب هنا هو إمّا متسوّل يستجدي المعروض، ويقبل بالمقسوم والدّور المحدّد، أو أنّه يُلفظ تمامًا –بل ويُحارب- إن كان مُستقلًّا، ونقديًّا، وصاحب مشاريع.
مبادراتٌ فرديّة فعّالة أخري، وطريق النّفق المظلم الطويل
هناك مبادرات فرديّة أخري،جديرة بالاحترام، ويقوم عليها أفرادٌ (أيضًا!)، تضيء بعض شموع في نفق مظلم لا تظهر له نهاية، مثل: المجلّة الالكترونيّة المتميّزةArabLit: Arabic Literature and Translation (الأدب العربيّ وترجمته)، التي ترأس تحريرها، وتحرّر أغلب موادّها، مُتطوّعةً، مارشا لينكس كوايلي، وهي مجلّة تُعرّف قرّاء الإنجليزيّة بكُتّاب العربيّة، والتّرجمات التي تصدر لأعمالهم، وأنشطتهم في بقاع العالم المُختلفة، وتنشر تقارير خاصّة بشكل شبه يوميّ، في مسعي لا تقوم به مؤسّسات بحالها، بالإضافة إلي جائزة أطلقتها مؤخّرًا للقصّة العربيّة المترجمة. وهناك مجلة »‬الجديد» (Al-Jadid) الفصليّة الورقيّة التي يصدرها إيلي شلالا بالإنجليزيّة في الولايات المتحدّة، وتضطلع بتعريف الأمريكيّين بالأدب والثقافة العربيّين من خلال المقالات ومراجعات الكتب والملفّات المتخصّصة، وتنشر ترجمات من الأدب العربيّ سردًا وشعرًا؛ وهناك أيضًا مدوّنة »‬الشَّرْطَة العربيّة» Arab Hyphen التي تحرّرها تسنيم قطيط، وتهتمّ بكل ما يتّصل بالأدب والفنّ في العالم العربيّ.
هذه المبادرات تسدّ -بقدر ما تستطيع- فراغًا هائلًا، لكنّها -بحجمها الصغير- لا تستطيع أن تواجه طغيان المال الكاسح، ونفوذ السّلطة العارم، والإعلام الذي يدعم ويمجّد ما تريده الجوائز، والنّقاد الذين يدورون في الأفلاك الجاذبة هذه، لعلّ أحدًا يختارهم للجان تحكيمها ومكافآتها وسفراتها. إصلاح حال التّرجمة، والتعامل الجديّ معها، يبدأ حتمًا من تغيير أعمق في بنية المشهد الثقافيّ العربي، أو بشكل أدق: بالعناصر المتحكّمة فيه، وفي هذا حديث آخر، أعمق.
هشام البستاني : كاتب من الأردن، صدر له: عن الحب والموت (2008)، الفوضي الرتيبة للوجود (2010)، أري المعني (2012)، مقدّمات لا بدّ منها لفناءٍ مؤجل (2014)، شهيقٌ طويلٌ قبل أن ينتهي كلّ شيء (2018). وصِف بأنه »‬في طليعة جيل غضب عربي جديد، رابطًا بين حداثة أدبيّة لا تحدّها حدود، وبين رؤية تغييرية جذريّة». تُرجمت قصصه ونصوصه الشعريّة إلي لغات عدّة كالإسبانيّة والتركيّة والألمانيّة والصينيّة والفيتناميّة، ونُشرت الإنجليزيّة منها في دوريّات بارزة في الولايات المتّحدة، وبريطانيا، وكندا، وأيرلندا. اختارته مجلة ذي كلتشر ترِب الثقافية البريطانية واحداً من أبرز ستّة كتّاب معاصرين من الأردن عام 2013. حاز كتابه »‬أري المعني» علي جائزة جامعة آركنسو (الولايات المتحدة) للأدب العربيّ وترجمته للعام 2014، وصدر بنسخته الإنجليزيّة عام 2015 عن دار نشر جامعة سيراكيوز – نيويورك. أدرجت إحدي قصصه في الكتاب الأنطولوجيّ الأوّل ل أفضل القصص القصيرة الآسيويّة(سنغافورة، 2017). بالإضافة إلي كتابة القصّة والشعر، يقدّم هشام عروضًا »‬اشتباكيّة» تدمج نصوصه مع عدّة فنون علي المسرح، مثل الموسيقي والتشكيل والرّقص المعاصر، كما يكتب مقالات لعدّة صحف ومجلّات عربيّة وعالميّة. وهو محرّر الأدب العربيّ لمجلّة ذي كومون، المجلّة الأدبيّة لجامعة آمهيرست العريقة في الولايات المتّحدة. حاز عام 2017 علي جائزة الإقامة الأدبيّة في مركز بيلّاجيو (إيطاليا) التّابع لمؤسسة روكفلر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.