وصول جثمان السباح يوسف محمد لمسجد الكريم ببورسعيد لأداء صلاة الجنازة.. فيديو    استشهاد 5 فلسطينيين في غارات الاحتلال على خيام النازحين في خان يونس    حظر النشر في مقتل القاضى "سمير بدر" يفتح باب الشكوك: لماذا تُفرض السرية إذا كانت واقعة "انتحار" عادية؟    وزير الثقافة يُكرّم المخرج القدير خالد جلال في احتفالية كبرى بالمسرح القومي تقديرًا لإسهاماته في إثراء الحركة المسرحية المصرية    الصحف المصرية.. حضور كثيف لناخبى الدوائر الملغاة من المرحلة الأولى فى 7 محافظات    أحدهما دخن الشيشة في المحاضرة.. فصل طالبين بالمعهد الفني الصناعي بالإسكندرية    بعد هجوم رفح، أول تعليق من ترامب بشأن تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق غزة    اللقاء المرتقب يجمع مبعوث ترامب وكوشنر بوسيط أوكرانيا    اليوم، آخر موعد لاستقبال الطعون بالمرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب    "المجلس الأيرلندي للحريات المدنية" يتهم "مايكروسوفت" بمساعدة إسرائيل في إخفاء أدلة تتبع الفلسطينيين    كأس إيطاليا – إنتر ونابولي وأتالانتا إلى ربع النهائي    خبر في الجول - انتهاء مهلة عبد الحميد معالي ل الزمالك في "فيفا" ويحق له فسخ التعاقد    وليد صلاح الدين: لم يصلنا عروض رسمية للاعبي الأهلي.. وهذا سبب اعتراضي على بسيوني    ظهور تماسيح في رشاح قرية الزوامل بالشرقية.. وتحرك عاجل من الجهات المختصة    تواصل عمليات البحث عن 3 صغار بعد العثور على جثامين الأب وشقيقتهم في ترعة الإبراهيمية بالمنيا    محافظة الجيزة يتفقد أعمال إصلاح الكسر المفاجئ لخط المياه الرئيسي بشارع ربيع الجيزي    القانون يحدد عقوبة صيد المراكب الأجنبية في المياه الإقليمية.. تعرف عليها    حلمي عبد الباقي يكشف تدهور حالة ناصر صقر الصحية    مشاجرة بين طالبات وزميلتهم تتحول إلى اعتداء بالضرب عليها ووالدتها    «يوميات ممثل مهزوم» يمثل مصر في المهرجان الثقافي الدولي لمسرح الصحراء بالجزائر    محمد رجاء: أراجع كتاباتي مع خبراء نفسيين.. والورد والشيكولاتة ليست نقاط ضعف النساء فقط    علاج ألم المعدة بالأعشاب والخلطات الطبيعية، راحة سريعة بطرق آمنة    وزير الأوقاف ناعيًا الحاجة سبيلة عجيزة: رمز للعطاء والوطنية الصادقة    النيابة الإدارية يعلن فتح باب التعيين بوظيفة معاون نيابة إدارية لخريجي دفعة 2024    الإسكان تحدد مواعيد تقنين الأراضى بمدينة العبور الجديدة الإثنين المقبل    هل يجوز لذوي الإعاقة الجمع بين أكثر من معاش؟ القانون يجيب    احذر.. عدم الالتزام بتشغيل نسبة ال5% من قانون ذوي الإعاقة يعرضك للحبس والغرامة    الحكومة: تخصيص 2.8 مليار جنيه لتأمين احتياجات الدواء    رويترز: طائرة قادمة من الولايات المتحدة تقل مهاجرين فنزويليين تصل إلى فنزويلا    بيراميدز يتلقى إخطارًا جديدًا بشأن موعد انضمام ماييلي لمنتخب الكونغو    قناة الوثائقية تستعد لعرض سلسلة ملوك أفريقيا    هجوم روسي على كييف: أصوات انفجارات ورئيس الإدارة العسكرية يحذر السكان    أهلي بنغازي يتهم 3 مسؤولين في فوضى تأجيل نهائي كأس ليبيا باستاد القاهرة    الطب البيطري: ماتشتريش لحمة غير من مصدر موثوق وتكون مختومة    ضياء رشوان: موقف مصر لم يتغير مللي متر واحد منذ بداية حرب الإبادة    محافظ سوهاج يشيد بما حققه الأشخاص ذوي الهمم في يومهم العالمي    استئناف المتهمة في واقعة دهس «طفل الجت سكي» بالساحل الشمالي.. اليوم    بالأسماء.. إصابة 8 أشخاص في حادث تصادم ب بني سويف    أزمة مياه بالجيزة.. سيارات شرب لإنقاذ الأهالي    استشاري يحذر: الشيبسي والكولا يسببان الإدمان    العناية الإلهية تنقذ أسرة من حريق سيارة ملاكى أمام نادى أسوان الرياضى    الشباب والرياضة: نتعامل مع واقعة وفاة السباح يوسف بمنتهى الحزم والشفافية    ألمانيا والنقابات العمالية تبدأ مفاوضات شاقة حول أجور القطاع العام    آثار القاهرة تنظم ندوة علمية حول النسيج في مصر القديمة واتجاهات دراسته وصيانته    مصر تستورد من الصين ب 14.7 مليار دولار في 10 أشهر من 2025    تصادم موتوسيكلات ينهى حياة شاب ويصيب آخرين في أسوان    هيئة قضايا الدولة تُنظم محاضرات للتوعية بمناهضة العنف ضد المرأة    أسامة كمال عن حريق سوق الخواجات في المنصورة: مانبتعلمش من الماضي.. ولا يوجد إجراءات سلامة أو أمن صناعي    قرارات جديدة تعزز جودة الرعاية الصحية.. اعتماد 19 منشأة صحية وفق معايير GAHAR المعتمدة دوليًا    هل يجوز التصدق من أرباح البنوك؟| أمين الفتوى يجيب    لأول مرّة| حماية إرادة الناخبين بضمان رئاسى    هل يعتبر مريض غازات البطن من أصحاب الأعذار ؟| أمين الفتوى يجيب    في يومهم العالمي.. 5 رسائل من الأزهر لكل أسرة ترعى طفلا من ذوي الإعاقة    وكيل لجنة مراجعة المصحف ورئيس منطقة الغربية يتفقدان مسابقة الأزهر السنوية لحفظ القرآن الكريم    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 3ديسمبر 2025 فى المنيا.. اعرف مواقيت صلاتك    انعقاد الاجتماع الرابع للجنة الفنية المصرية – التونسية للتعاون الاستثماري    الصحة تعلن ضوابط حمل الأدوية أثناء السفر| قواعد إلزامية لتجنب أي مشكلات قانونية    أطعمة تعالج الأنيميا للنساء، بسرعة وفي وقت قياسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن نفق المشهد الثقافيّ المظلم الطّويل
نشر في أخبار الأدب يوم 27 - 10 - 2018

يبدو مشهد ترجمة الأدب العربيّ إلي اللّغات الأخري، متأزّمًا بذات الدّرجة، أو لنقل: يشكّل انعكاسًا مباشرًا للأزمة، التي يعانيها المشهد الثقافيّ العربيّ، وتحوّلاته، ومستجدّاته. علي القمّة من هذه الأزمات المستجدّة، تأتي "الجوائز" ذات الطابع الكرنفاليّ، والمبالغ الضّخمة، و"النجوميّة" التي تترتّب علي بعضها؛ وهي جوائز غير معنيّة بنوعيّة الكتابة، أو إدخال إضافةٍ نوعيّة عربيّة علي الحوار الأدبيّ العالميّ، بقدر ما هي معنيّة بالمباهاة، والفشخرة، تتعلّق بمن يملك الجائزة الأكبر والأهمّ، ويتمّ التّعامل معها باعتبارها زينة إضافيّة تعلّق علي الجدران لزوم الوجاهة، وطريقة جديدة لادماج الكتابة والثقافة والإبداع ضمن حدود هيمنة السّلطة. وسيلة إضافيّة للتّدجين والاحتواء.
الجوائز والسّوق: رقابات جديدة تُحدّد ما الذي سيُترجم
حصلنا إذًا علي أداةٍ رقابيّةٍ جديدةٍتُضاف إلي الرّقابات المعروفة تقليديًّا، ذراعًا طويلةً جديدةً للسّلطة، بظاهرٍ "طوعيّ" و"محايد" هذه المرّة، لفرض رؤاها بشكل غير مباشر، وتأكيد وضعيّة الكاتب/المثقّف "المتسوّلة"، اللاهثة خلف الأعطيات التي تأخذ اليوم شكلًا عصريًّا و"إيجابيًّا". بينما يحظي "السّوق"، المتمثّل ب"صناعة نشر" متخلّفة (حتي في اشتقاق أدوات تسويقيّة فعّالة)، بحصّة كبيرة إذ يدفع بسلعته الأساسيّة: الرّواية، الأكثر انتشارًا ومبيعًا بسبب سهولة تلقّيها (الأحداث والشخصيّات تبني علي رويّة ومهل، بكل التفاصيل، إذ تنفرد باسترخاء علي علي عدد كبير من الصّفحات، وتعطي نفسها دون كثير غلبة، بعكس القصّة والشعر اللذين يحتاجان إلي جهد من القارئ)، وإثارتها وتسلويّتها (يظلّ القارئ معلَّقًا ليعرف: ماذا بعد؟ ماذا بعد؟)، إلي "الصفّ الأوّل" أدبيًّا، باعتبارها الجنس الأدبي "الأهمّ" الذي يجب أن يُحتفي به (ولا يُقال: البيّاع، الذي يضمن المبيعات، وبالتالي: الأرباح).
خارج إطار الجوائز الرنّانة، ذات الخيارات المتواضعة حينًا، والرديئة حينًا، والجيّدة حينًا (الجائزة العالميّة للرّواية العربيّة، أو البوكر العربيّة؛ وجائزة "كتارا")، واللّتان تُقدّمان حصريًّا للرّواية، وتتعهّدان بترجمة الأعمال الفائزة، لا نجد مساحات أُخري للتّرجمة سوي في جائزة نجيب محفوظ التي تقدّمها الجامعة الأمريكية في القاهرة، وتُعطي (أيضًا وأيضًا) للرّواية، حتي يضمن النّاشر (وهو في هذه الحالة: دار نشر الجامعة الأمريكية في القاهرة) أن يُسوّق الكتاب؛ وجائزة "الملتقي"، الجديدة، التي تُقدّم لمجموعة قصصيّة واحدة تتعهّد بترجمتها إلي الإنجليزيّة، هذه الجائزة ما تزال في دورتها الثالثة، ولا يمكن تقييمها بشكل دقيق.وفي ذات الوقت الذي تنحصر فيه خيارات التّرجمة بمُخرجات هذه الجوائز، لا توجد في العالم العربيّ مؤسّسات للتبادل الثقافي، أو الترجمة من العربيّة إلي اللّغات الأخري، أو منح تُشجّع حركة التّرجمة في ذلك الاتّجاه، مثل العديد من الدّول الأخري التي تتعامل مع الأدب والفنّ بشكل جديّ.
هناك جائزة واحدة فقط مفتوحة لجميع الأجناس الأدبيّة، من قصة وشعر ورواية وسيرة ذاتيّة ومسرح، ومن خارج العالم العربيّ، هي جائزة جامعة آركنسو للأدب العربيّ وترجمته، يُقدّمها مركز الملك فهد للدراسات الشرق أوسطية في جامعة آركنسو في الولايات المتحدة، وتتعهّد بنشر ترجمة الكتاب الفائز بالتعاون مع منشورات جامعة سيراكيوز، ضمن سلسلتها للأدب الشرق أوسطيّ المُترجم، وهي الجائزة الوحيدة ذات الخيارات الجريئة والنوعيّة، لكنّها توقّفت -بكل أسف- منذ العام 2015، بعد اثنين وعشرين عامًا من النشاط، أصدرت خلالها 21 عنوانًا في القصّة والشّعر والرواية والسّيرة.
طريق الترجمة غير السّالك: استمراريّة الرّداءة، والخيارات الاستشراقيّة
هكذا صارت خيارات التّرجمة تنحصر بأمرين اثنين،الأوّل: ما يحوز علي رضا الجوائز التي تتكفّل هي أيضًا بالترجمة، وهذه كلّها جوائز أغلبها السّاحق (كما عاينّا)متعلّق بالرّواية؛ والثاني: ما يحوز علي رضا الناشر
الغربيّ من روايات »بيّاعة»‬ (سلفًا، بلغتها الأم)، و/أو تلك التي تتحقّق فيها »‬إكزوتيكيّة» ما، أو منظورات تتوسّل الفهم الغربيّ السطحيّ، أو تطرح مواضيع راهنة، تجعلها قابلة للاستهلاك الاستشراقيّ العموميّ في سوقٍ، ولدي قارئٍ، ما يزال يتلصّص علي »‬الشّرق» وعوالمه من خلال ثقب باب »‬ألف ليلة وليلة»، وينظر إليها باعتبارها مداخل »‬للفهم» والقراءة السوسيولجيّة والسّياسيّة، وتُقيّم للنشر علي هذا الأساس، لا باعتبارها أعمالًا فنيّة ذات سويّة إبداعيّة متميّزة.
كل هذا يؤدّي إلي استمراريّة الرّداءة، وإهمال الكتابات الطليعية والفنيّة التي غالبًا ما لا تحظي برضا الجوائز، أو هي –عادةً- من الأجناس غير المحتفي بها جوائزيًّا، فالكتابة الطليعيّة العربيّة لا توجد -عمومًا- في الرواية، بل في القصّة، والشّعر، والأجناس الهجينة أو التخوميّة. هكذا يظلّ المنظور العالميّ عن الأدب العربيّ أنه أدب متواضع، أو رديء، ويظلّ مُنمّطًا-بالمعني الاستشراقيّ-، لأن ما يصل من ترجمة يعزّز هذه النظرة.
كيف يتعامل العالم »‬الآخر» مع أدبه، وكيف يُترجمه
في العالم »‬الغربيّ»، هناك العديد من الآليّات التي تفتح سياقات الترجمة،منها: التعامل مع الأدب بجديّة أكبر، والفصل الكامل بين الأدب التجاريّ، الأكثر مبيعًا، وبين الأدب الفنيّ،ومنها: المؤسّسات الخاصة المعنيّة بالتّرجمة، والتي تموّل وتدعم التّرجمة من لغتها إلي اللّغات الأخري، ومنها: الناشر نفسه، الذي يختار الكتاب بشكل مدروس بحسّب توجّهاته، أو توجّهات محرّريه، أو محرّري السلاسل المختلفة التي يُصدرها، ويتعامل مع المؤلّف باحترام، فيشتري الحقوق من المؤلّف أو من صاحب تلك الحقوق (إن كان صاحب الحقوق ناشرًا آخر)، ويطبع الكتاب علي نفقته، ويدفع نسبة من سعر الغلاف للمؤلف، فيتشكل عند الناشر (بناءً علي كلّ ذلك) الدّافع اللّازم لترويج الكتاب والكاتب، فيوزّع الكتاب بأفضل ما يستطيع حسب قدراته (دور النّشر الكبيرة تمتلك وصولًا ونفاذًا أكبر، وتطبع عدد نسخ أكبر، وخياراتها أكثر محافظةً، وكتبها أقلّ ثمنًا؛ مقابل جرأة أكبر لدي دور النشر المتوسّطة والصغيرة لنشر كتابات أكثر طليعيّة، وتطبع عدد نسخ أقلّ، وكتبها أعلي ثمنًا)؛ ويقترح الناشر الغربيّ كتبه علي قوائم القراءة، ويقترحه علي المُراجعين والنقّاد، ويسعي لبيع حقوق ترجمته للّغات أخري من خلال معارض الكتب، والعلاقات التي ينسجها مع ناشرين محترفين آخرين، كل هذا بعكس الناشر العربيّ الذي ينحصر دوره بطباعة الكتاب، بعد أن يتقاضي أجور الطّباعة من المؤلّف في أغلب الأحيان، وينتهي الأمر عند ذلك: فالأرباح تحقّقت حتي قبل أن يظهر الكتاب إلي الوجود، ونوعيّة الكتابة غير مهمّة ما دام ثمنها مدفوعًا سلفًا. أي دافع يتبقّي عند النّاشر لترويج كتبه واحترام مؤلّفيه؟
ومن الآليّات التي تفتح آفاق التّرجمة أيضًا »‬الوكيل الأدبيّ»، المعنيّ ليس فقط ببيع حقوق الكتاب إلي ناشري لغته الأمّ، بل ببيع حقوق ترجمة الكتاب، واقتراح مشاركة الكاتب في الملتقيات والمهرجانات الأدبيّة المختلفة، التي يتواجد فيها عمومًا »‬كشّافون»، أو مهتمّون، من دور النّشر، أو المهرجانات الأدبيّة الأخري. ومنها أيضًا المجلّات الأدبيّة التي تزدهر وتنتشر بشكل واسع في الولايات المتّحدة وبريطانيا، علي العكس من احتضارها عربيًّا، وهذه تشكّل مكانًا يتعرّف فيه الناشرون، والوكلاء الأدبيّون، والمترجمون، ومنظّمو المهرجانات والفعاليّات الأدبيّة، علي الكُتّاب.
الاحتراف والجديّة هناك، مقابل الشلليّة والفساد هنا
هناك إذًا حلقة كاملة مفقودة من الجديّة والاحتراف، لا علاقة لها بما نعرفه في العالم العربيّ من شلليّة ورداءة. فالمؤتمرات والملتقيات عندنا هي مناسبات شلليّة لتبادل الدّعوات والزّيارات والمجاملات والخدمات والمصالح, أما الجوائز فهي منضبطة بخيارات »‬النسق العامّ»، ونفوذ بعض الشخصيّات الثقافيّة، ونفوذ السّلطة، ونفوذ السّوق وتسليع الأدب، والرّشوات (مثل أن يتقاسم الكاتب الجائزة الماليّة الكبيرة مع عضو مؤثر في لجان التحكيم)؛ أمّا دور النّشر فتنشر لمن يدفع، لا حقوق، ولا تكاليف، ولا انتقائيّة، ولا شغف، ولا يحزنون.
لهذا يُصدم كثير من الكتّاب العرب من الانتقائيّة العالية التي تنتشر في عالم النشر الغربيّ، خصوصًا في شقّها غير التجاريّ المتمثّل بالمجلّات الأدبيّة. أغلب المجلات الأدبيّة في الولايات المتحدة تتبع مؤسّسات جامعيّة، وهي مفتوحة ليتقدّم لها الكتّاب بمساهماتهم، بغضّ النظر عن المسافة التي قطعوها بمشوارهم الأدبّي، وكثير منها مفتوح أمام النّصوص المُترجمة، بل إن بعضها يقدّم الجوائز للنّصوص المترجمة إلي الانجليزيّة، ضمن مستويً عالٍ من الانتقائيّة فما يتعلّق بالسويّة الأدبيّة، فالنسبة العامّة المعروفة لما يُقبل للنّشر في هذه المجلّات هو 1% من مجموع النّصوص المُتقدّمة، وهي نسبة ضئيلة جدًّا جدًّا، تضمن نوعيّة عالية للنّصوص المنشورة. وغالبًا ما يُقدّم محرّر المجلّة ملاحظات تحريريّة للمؤلّف، ويخوضان نقاشًا أدبيًّا حول المقاصد والدّلالات والتراكيب اللغويّة، وهو ما يرفع أيضًا من قُدُرات الكاتب، ويطوّر إمكانيّاته التكثيفيّة والتحريريّة.
الجهود الفرديّة تتفوّق بأشواط علي الجهود المؤسسيّة: تجربة شخصيّة
بدأت تجربتي الخاصة مع ترجمة أعمالي إلي الإنجليزيّة عام 2011، عندما قمت بنفسي بترجمة قصّتين لي، وقدّمتهما للنشر في عدّة مجلّات أدبيّة في الولايات المتحدة. بعد عام كامل، وصلتني موافقة علي نشر إحداهما من مجلة أدبيّة أمريكيّة هي »‬ذي سانت آنز ريفيو»، مرفقٌ بها عدد كبير جدًّا من الملاحظات التّحريرية علي التّرجمة. عرضتُ النصّ الأصليّ، والنصّ المترجم المرفق بالملاحظات، علي المترجمة الأدبيّة ثريّا الريّس، وكانت تلك بداية لعلاقة أدبيّة تطوّرت كثيرًا بعدها لنحصد من خلالها عدّة جوائز، وتُحقّق كتاباتي من خلال ترجماتها، ولاحقًا من خلال ترجمات المترجمة الأدبيّة مايا ثابت، حضورًا واسعًا في المجلّات الأدبيّة في الولايات المتّحدة وبريطانيا وكندا وأيرلندا، العالم النّاطق باللغة الإنجليزيّة.
ملاحظات ثريّا علي ما عرضته عليها كان يتلخّص في ثلاث كلمات: »‬هذه التّرجمة [ترجمتي] هُراء!» فهمت حينها أن إجادتي للّغة الإنجليزيّة شيء، وأن التّرجمة الأدبيّة إلي اللّغة الإنجليزيّة شيء آخر تمامًا: علي المترجم ألّا يكون ثنائيّ اللّغة فحسب، بل عليه أن يكون ثنائيّ الثّقافة، مع تفضيل أن تكون لغته الأمّ هي اللُّغة المُترجم إليها، مع تمكّنه من اللّغة المُترجم عنها.
تحمل الكلمات والعبارات (خصوصًا في الأدب) سياقات وإشارات وعناصر ثقافية، مُعلنةً احيانًا، لكنّها كثيرًا ما تكون مضمرة، أو مستبطنة؛ وقد يكون المعني المعجميّ المباشر لكلمة ما مختلفًا تمامًا عن استخدامه في سياق آخر يوميّ، مثلًا: كلمّة »‬خَسّة» (التي تشير إلي نوع معيّن، معروف، من الخضار) يصبح معناها »‬فتاة جميلة» إن جاءت في سياق آخر ضمن حوار بين شخصيّات عَمَّانيّة في قصّة أو رواية. ثمّة مترادفات كثيرة تؤدّي نفس المعني بالإنجليزيّة، قد لا أشعر أنا بالاختلافات الطّفيفة بينها، بينما يتمكّن مَن تُعتبر الإنجليزيّة لغته الأم، مِن الإحساس بها، ومعرفة الفروقات النفسيّة والانطباعيّة التي يخلّفها كلّ مترادف علي قارئ النص، وبالتالي سيتمكّن من اختيار الكلمة المناسبة. والمترجم الأدبيّ أيضًا كاتب أدبيّ بلغته الأولي، لديه إمكانيّات نقل الشّكل، أو اشتقاق شكل للنصّ المترجم يعبّر عن الشّكل في الأصل.
أعادت ثريّا ترجمة النص قبل نشره، ثم ترجمت نصًّا آخر لي اختير ضمن ملفّ خاصّ عن القصّة القصيرة جدًّا في العالم، ضم عشرة نماذج مختارة قدّمته مجلة »‬وورلد ليتريتشر توداي» (World Literature Today)، وهكذا توالي قبول نصوصي المترجمة للنشر في المجلّات الأدبّية، والتي يبلغ عددها اليوم 30مجلّة وكتاب أنطولوجيّ، منها منشورات بالغة الانتقائيّة، ويسبغ النّشر فيها مكانة رمزيّة علي الكاتب، مثل »‬ذي كينيون ريفيو» (The Kenyon کeview)، أو »‬مودرن بويتري إن ترانسلاشن» (Modern Poetry in Translation) أو »‬ذ بووِتري ريفيو» (The Poetry کeview) أو »‬ذي لوس آنجليس ريفو أوف بوكس» (The Los Angeles کeview of Books)، أو أنطولوجيا »‬أفضل القصص القصيرة الآسيويّة»؛ وحاز كتابي »‬أري المعني» (بنسخته العربيّة، إلي جوار النسخة الإنجليزيّة الذي ترجمته ثريّا) علي جائزة جامعة آركنسو للأدب العربي وترجمته لعام 2014. كتابي هذا لم يكن ليُنشر مُترجمًا دون هذه الجائزة الطليعيّة، لأنّه (وببساطة)خارج سياق الاهتمامات »‬المتعارف عليها» لجهة أنّه كتاب تجريبيّ، يشتغل علي التّخوم التي تجمع السّرد القصير جدًّا بالشعر، إذ تضمّنت الجائزة عقدًا لنشر الكتاب ضمن سلسلة الأدب الشرق أوسطي في منشورات جامعة سيراكيوز، ونشر عام 2015 بعنوان »‬The Perception of Meaning»، ليحوز علي تقدير آخر من جائزة آلدو وجيان سكاجليوني لأفضل عمل أدبيّ مترجم، التي تقدّمها جمعية اللّغات الحديثة في الولايات المتّحدة.
لكن المستوي الشخصيّ لم يكن المستوي النهائيّ بالنّسبة لي، ولا يجب أن يكون، إذ وجدتُ أن عليّ واجب المساهمة في دفع الأصوات العربيّة الجادّة إلي هذا الحيّز الصعب، والمساهمة في تغيير الصّورة (التي صارت نمطيّة) عن أدبٍ يُظنّ أنّ إمكانيّاته متواضعة، لهيمنة الرّداءة والجوائز والسّوق والسّلطة عليه، وعلي خيارات ترجمته.
عام 2012، كتبت جينفر آكر، رئيسة تحرير مجلة »‬ذي كومون» (The »‬ommon)، المجلّة الأدبيّة لجامعة آمهيرست العريقة في الولايات المتحّدة، مقالة عن الأردن، اقتبستْ فيها مقاطع من قصّتي المترجمة المنشورة في مجلّة »‬ذي سانت آنز ريفيو» التي تحدّثت عنها. لفتت المقالة انتباهي، وحفّزتني علي التواصل مع جينفر، وهو تواصل أدّي لنشر إحدي قصصي المترجمة في المجلّة عام 2013، وانتهي الأمر (عبر سلسلة من المقترحات المُتبادلة) إلي مشروع كبير تحقّق عام 2016، حين حَلَلْتُ علي المجلّة كرئيس تحرير ضيف إلي جوار جينفر، لنُصدر عددًا كاملًا من هذه الفصليّة (عدد 11، ربيع 2016) مخصّصًا بالكامل للأدب العربي المترجم إلي الإنجليزيّة، جمعتُ فيه قصصًا مختارة بعناية، ل 26 كاتبًا عربيًّا، ترجمها 18 مترجمًا، وزيّن العدد لوحات وصور ل4 فنّانين من العالم العربيّ، في جهد هو الأوّل من نوعه علي هذا المستوي الواسع بالنسبة لمجلّة أدبيّة في الولايات المتّحدة، ذلك البلد الذي لا يمثّل مايُنشر مُترجمًا من جميع اللغات الأخري أكثر من 3%من إجمالي الكتب كلّ عام، أما حصّة الأدب العربي فهو يقارب الواحد بالمئة داخل الثلاثة بالمئة تلك، أي 0.0013%، نسبة تقارب الصّفر.
لم يتوقّف الأمر هنا، فبحلولي محرّرًا للأدب العربيّ في المجلّة اعتبارًا من منتصف العام الماضي 2017، بدأت مجلّة »‬ذي كومون» بنشرملفّ سنويّ في عددها الصّادر في الرّبيع، يُخصّص للأدب العربيّ المترجم إلي الإنجليزيّة، يختصّ كلّ ملفّ بكُتّاب مختارين من بلدٍ عربيّ بعينه، أو بثيمة محدّدة تجمع كتّابًا من دول عربيّة مختلفة، وبدأ نشر الملفّات بملفّ عن الأردن في عدد ربيع هذا العام (ونشر أصله العربيّ بالتزامن في ملحق خاص صدر مع أخبار الأدب ضمن تعاون مشترك عابر للأطلسيّ، سيستمرّ مستقبلًا).
يعتبر هذا الأمر إنجازًا للأدب العربيّ الجادّ، خصوصًا وأن معايير النّشر في المجلّات الأدبيّة تختلف اختلافًا بيّنًا عن مثيلاتها لدي دور النشر، حيث لا توجد أيّة اعتبارات تجاريّة أو تسويقيّة عندها علي الإطلاق، إذ هي– بمجملها- لا تبغي الرّبح، وتتشكّل موازناتها بالدعم الماليّ الذي تقدّمه الجامعة التي تُصدرها (إذ تُعتبر مثل هذه المجلات فخرًا للجامعة، وتدلّ علي مكانتها وأهميّتها)، ومن المنح الماليّة الأدبيّة التي تحصل عليها من المؤسسات المختلفة ذات العلاقة بالأدب ودعمه.
هذه مبادرات فرديّة لشخص واحد مهتمّ، استطاعت أن تفتح آفاقا أوسع قليلًاللأدب العربيّ، لم تفعله مؤسّسات بحالها، ووزارات ثقافة تستشري فيها أمراض الفساد، والشلليّة، والتوزيع الوضيع للأعطيات، وسلطة تهتمّ بآليّات إخضاع الكاتب وتوظيفه؛وهذه الخطوات المتتابعة، المتراكمة، التي تنبني إحداها فوق الأخري لتصل إلي نتيجة فعّالة، لم –ولن- تحصل معي في بلدي، الأردن، ولا في العالم العربيّ، وهو أمرٌ مؤلم بلا شكّ، لكنّه حقيقيّ، فمعايير »‬التّعاون» و»‬فتح الآفاق» و »‬الاختيار» مختلفة، تَستبعد الكفاءة والإبداع سلفًا، لأنها تفضح بؤس وعقم ما هو قائم. وبينما تحظي مبادرات (مثل تلك التي أوضحتها) بالتّرحيب، والتّنفيذ، عالميًّا، نجدها تحظي بالتّجاهل، والإهمال، محليًّا، إلي الدرجة التي توقّفتُ فيها تمامًا عن اقتراح أي شيء علي أيّ مؤسسة في الأردن، أو العالم العربيّ؛ فالكاتب هنا هو إمّا متسوّل يستجدي المعروض، ويقبل بالمقسوم والدّور المحدّد، أو أنّه يُلفظ تمامًا –بل ويُحارب- إن كان مُستقلًّا، ونقديًّا، وصاحب مشاريع.
مبادراتٌ فرديّة فعّالة أخري، وطريق النّفق المظلم الطويل
هناك مبادرات فرديّة أخري،جديرة بالاحترام، ويقوم عليها أفرادٌ (أيضًا!)، تضيء بعض شموع في نفق مظلم لا تظهر له نهاية، مثل: المجلّة الالكترونيّة المتميّزةArabLit: Arabic Literature and Translation (الأدب العربيّ وترجمته)، التي ترأس تحريرها، وتحرّر أغلب موادّها، مُتطوّعةً، مارشا لينكس كوايلي، وهي مجلّة تُعرّف قرّاء الإنجليزيّة بكُتّاب العربيّة، والتّرجمات التي تصدر لأعمالهم، وأنشطتهم في بقاع العالم المُختلفة، وتنشر تقارير خاصّة بشكل شبه يوميّ، في مسعي لا تقوم به مؤسّسات بحالها، بالإضافة إلي جائزة أطلقتها مؤخّرًا للقصّة العربيّة المترجمة. وهناك مجلة »‬الجديد» (Al-Jadid) الفصليّة الورقيّة التي يصدرها إيلي شلالا بالإنجليزيّة في الولايات المتحدّة، وتضطلع بتعريف الأمريكيّين بالأدب والثقافة العربيّين من خلال المقالات ومراجعات الكتب والملفّات المتخصّصة، وتنشر ترجمات من الأدب العربيّ سردًا وشعرًا؛ وهناك أيضًا مدوّنة »‬الشَّرْطَة العربيّة» Arab Hyphen التي تحرّرها تسنيم قطيط، وتهتمّ بكل ما يتّصل بالأدب والفنّ في العالم العربيّ.
هذه المبادرات تسدّ -بقدر ما تستطيع- فراغًا هائلًا، لكنّها -بحجمها الصغير- لا تستطيع أن تواجه طغيان المال الكاسح، ونفوذ السّلطة العارم، والإعلام الذي يدعم ويمجّد ما تريده الجوائز، والنّقاد الذين يدورون في الأفلاك الجاذبة هذه، لعلّ أحدًا يختارهم للجان تحكيمها ومكافآتها وسفراتها. إصلاح حال التّرجمة، والتعامل الجديّ معها، يبدأ حتمًا من تغيير أعمق في بنية المشهد الثقافيّ العربي، أو بشكل أدق: بالعناصر المتحكّمة فيه، وفي هذا حديث آخر، أعمق.
هشام البستاني : كاتب من الأردن، صدر له: عن الحب والموت (2008)، الفوضي الرتيبة للوجود (2010)، أري المعني (2012)، مقدّمات لا بدّ منها لفناءٍ مؤجل (2014)، شهيقٌ طويلٌ قبل أن ينتهي كلّ شيء (2018). وصِف بأنه »‬في طليعة جيل غضب عربي جديد، رابطًا بين حداثة أدبيّة لا تحدّها حدود، وبين رؤية تغييرية جذريّة». تُرجمت قصصه ونصوصه الشعريّة إلي لغات عدّة كالإسبانيّة والتركيّة والألمانيّة والصينيّة والفيتناميّة، ونُشرت الإنجليزيّة منها في دوريّات بارزة في الولايات المتّحدة، وبريطانيا، وكندا، وأيرلندا. اختارته مجلة ذي كلتشر ترِب الثقافية البريطانية واحداً من أبرز ستّة كتّاب معاصرين من الأردن عام 2013. حاز كتابه »‬أري المعني» علي جائزة جامعة آركنسو (الولايات المتحدة) للأدب العربيّ وترجمته للعام 2014، وصدر بنسخته الإنجليزيّة عام 2015 عن دار نشر جامعة سيراكيوز – نيويورك. أدرجت إحدي قصصه في الكتاب الأنطولوجيّ الأوّل ل أفضل القصص القصيرة الآسيويّة(سنغافورة، 2017). بالإضافة إلي كتابة القصّة والشعر، يقدّم هشام عروضًا »‬اشتباكيّة» تدمج نصوصه مع عدّة فنون علي المسرح، مثل الموسيقي والتشكيل والرّقص المعاصر، كما يكتب مقالات لعدّة صحف ومجلّات عربيّة وعالميّة. وهو محرّر الأدب العربيّ لمجلّة ذي كومون، المجلّة الأدبيّة لجامعة آمهيرست العريقة في الولايات المتّحدة. حاز عام 2017 علي جائزة الإقامة الأدبيّة في مركز بيلّاجيو (إيطاليا) التّابع لمؤسسة روكفلر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.