المَلَل الإسفلت مثخنٌ بمطبّاتٍ كفخاخٍ صنعها سَحَرةٌ قدامي. مضيت كالمضطر. الرجل دلَّ علي الطريق ولم يصفها. لا أحد يدلّ ويصف معاً. أتهيّب نكوص سيارتي القديمة. لو عدتُ بالجائزة سأتخلّص منها. شككتُ أنها القرية المقصودة. حدث ذلك مع القريتين السابقتين. تشكّكي، كالعادة، خطوة ليقين لايجيء. يظهر الرجل عند المفارق. يؤكد ما لا أجادل فيه. الرجل نفسه. لو تكرر الأمر، سأصرّ علي أن يشاطرني الطريق. كان سعيداً بالمشاطرة، ومندهشاً: (سيارة كهذه لمشوار كهذا!) خبط علي صاج الباب ثم انكفأ يقبّل التابلوه. لما هدأ تساءل عن جدوي المجازفة. كنت قررت ألا أنطق إلا بكلمة شكر عند الوصول. سؤاله أحالني لأعيد تقييم الجائزة. ولأني خفت من موضوع المجازفة، أحكمت قبضتي علي المقود. ظل الأسفلت ممدوداً، رغم ذهاب القرية بعد القرية، وصعود الرجل بعد نزوله. وكان مللٌ تسلّل بيننا. مللٌ وثيق الصلة بالتشكُّك الجاثم واليقين النافر والجائزة البعيدة. وحده ألهمني لأعتقد أني لم أكن مضطراً. وحده أراني كل القري بغيضة، وكل الطرق لا تؤدي لوصول. ركلت الرجل خارج السيارة. واستدرت عائداً، بسرعةٍ لا تعبأ بمطبات السَحَرة. الثَغْرَة كان زماناً غير ليلي ونهاري. وكان مكاناً غير أرضي التي لم أفارقها. رأيتهم يسرعون، ضاحكين، مصفِّقين، لائذين بالفضاء الهائل المضيء. مثل انفلات المحكوم بالإعدام في اللحظة الموقوتة. يتقافزون بحركات رياضية لطيفة، أقرب إلي رقصة من اختراعهم. كأنما طرحوا الأعباء للأبد، دفعة واحدة. لا فرق بين طفل وامرأة وشيخ. تساوت أعمارهم، بمعجزة غامضة مفاجئة. صاروا في عمر السعادة! مخالفاً كعادتي، انطويت بخوفي القديم، أفتّش في الوجوه عن صاحب أحزانٍ، أرافقه. انتبه أحدهم، فقفز في مواجهتي. راح يزغزغني في بطني، يغصبني لأضحك. لايتخيّلون متهوّراً يخالف أوّل إجماعٍ لهم. بثّ الرجل الخبر، بثقة لا يلجلجها شكّ: مات الذي كنا نحسبه لا يموت! انفتحت عيني مع هجسةٍ لم تكتمل، وحسرةٍ مستعادة. قمتُ، خاشعاً، مغلوباً، أسدّ الثغرة. الخوارق المؤتمِرون في القاعة القريبة يخططون للعيش فتراتٍ أطول. أُحايل النوم منذ ثلاثة أيام. أقراص المنوِّم لم تعد تتفاعل. انتهت صلاحيتها أَم صلاحيتي؟ دُعيت، بالخطأ، إلي مؤتمر في الطب النفسيّ. أنا كاتب حسابات المستشفي! لم أعد مطالَبا بتحليل أسباب الخطأ وعواقبه. إنه اليوم الأخير. ثم إن الأخطاء تحصل كل ساعة، حتي ممّن نؤمن أنهم معصومون. عنوان المؤتمر: (خوارق الملكات النفسية لدي الإنسان). وكنت كلما عبرت بهو الفندق، دون طموحٍ علميّ كالآخرين، تلمستْ عيني اللافتة الضوئية الضخمة، وقلت إن النوم أهمّ الخوارق! كأن مراجعة علاقتي بالنوم مبرر وجودي بين هؤلاء الدكاترة. أُلازمهم ككلب مطيع، كي لا تفوتني وجبة الغداء التي يتغير مكانها. يتجادلون بحماسٍ وقلق، ويشيرون إلي الباب، كأن كارثة ستدخل. أنتظر أن يأتي أحدهم علي ذكر النوم، يعلن أنه آن أوان التوفيق بين الإنسان والنوم، حتي لو كان كاتب حسابات. أقرب نظرياتهم كانت عن النائم، المرحلة التي مُنِعتُ عنها. أخبرني موظف الفندق أن اسمي خرج اليوم من قائمة الغداء. استيقظتُ، مشتَّتاً بين فرحتي بمغافلة الموظف المشئوم، وغيظي الكابوسيِّ من توهُّم اليقظة، لحدِّ دعوتي إلي مؤتمرٍ عالميّ عن الخوارق، بسبب تطابق اسمي مع اسم طبيبٍ شتمني بالأمس، لأني تباطأتُ في تسليمه مفردات راتبه.