الحديث عن كاتب عظيم ، كلاسيكي من الطراز العالمي ، واحد من أكثر الذين استولوا بأفكارهم علي العقول والمشاعر ، باعتباره عاشقاً ، زوجاً ورجلاً صاحب »أحوال جنسية غريبة» أمر بالغ الصعوبة . من غير المعقول أن يمس المرء ما يتمتع به هذا الكاتب من احترام عميق . ثانياً ، أن تناول هذا الجانب من حياته ، أمر محفوف بالمخاطر ، وخاصة عندما يضطر الباحث لتسمية الأشياء بمسمياتها . هنا تصبح الكلمات ثقيلة وفظة ، ناهيك عن صعوبة أخري هي الحفاظ علي اللياقة ، إذا ما كان الحديث يدور عن شخصية عبقرية ومريضة في آن واحد مثل فيودور دستويڤسكي . تزال كثير من السمات الشخصية لهذا الكاتب والأحداث التي وقعت له في حياته تحيطها الألغاز ويعجز الباحثون عن تفسيرها . أما الحقيقة الناصعة فلم يكن يعرفها سوي قلة قليلة من أصدقائه . في رواياته وقصصه كان يتحدث بتأثر بالغ عن أسرار و إخفاقات ونزوات الرجال والنساء . يقدم لنا بدأب عظيم شخصيات الشهوانيين والمفسدين والماجنين والفُجاَّر ، كما يرسم بعمق صوراً للنساء الخاطئات »الجهنميات» ، اللائي حكمت عليهن الأقدار بالعذاب والضياع ، ومن ثم يكون من الطبيعي تماماً أن يُطرح أمامنا سؤال : من أين له بهذه المعرفة الإستثنائية لهذه الشهوانية المحضة البشعة في بعض الأحيان والمستعرة دون حدود عند أبطاله وبطلاته ؟ وهل أبدع هذا العالم من الشهوات والجرائم والإنتقام والأجساد الممسوسة من مجرد ملاحظاته وخيالاته ، أم من خبرته الشخصية ؟ من أَحب وعلي أي نحو ؟ من هو دستويڤسكي الزوج و العاشق ؟ لعل القارئ يظن أن ما يتضمنه هذا المقال أمر بعيد عن الواقع ، مستحيل التصديق. لكن دستويڤسكي في واقع الأمر كان أكثر تعقيداً من أبطاله. هذا العبقري المصاب بالصرع ، الذي اجتاز محناً رهيبة تمثلت في مواجهة الموت والعيش لسنوات في المعتقل ، ثم معاناة الفاقة والوحدة ، هذا العاشق المريض ، الباحث المتردد عن القداسة ، قد عاش حياة خيالية لا تتكرر . نشأ دستويڤسكي في أسرة يسيطر عليها دون حدود أب مستبد، عبوس، سريع الغضب، شكَّاك إلي حد الهوس. مبالغ في إيذائه وأوهامه. هذا الأب ميخائيل أندرييڤيتش، وصل به الأمر إلي حد إتهامه زوجته بالخيانة وهي في شهرها السابع من الحمل، ليذهب بعدها ليتعذب علي نحو قاسٍ بشكوكه. كان من الممكن أن نلاحظ في الدكتور دستويڤسكي الأب جميع علامات الإزدواجية والعُصاب، التي ظهرت فيما بعد عند ابنه، ولعلها أصبحت سبباً في ظهور مرض الصرع البشع لديه. توفيت الأم، عندما كان فيودور قد بلغ السادسة عشر من العمر. وفي العام نفسه يسافر بصحبة أخيه ليلتحقا بمدرسة الهندسة العسكرية بطرسبورج. كان المراهق دستويڤسكي إنطوائياً هيَّاباً، لم يكن يمتلك »خبرات» خاصة ولا نفوذاً ولا اسماً يدل علي شهرة أو إنتماء لعائلة عريقة. وإذا كان أترابه يتفاخرون بمعارفهم بخفايا الحب، التي اكتسبوها في أحضان الفتيات من الأقنان ومن عاهرات بطرسبورج، فإن فيودور دستويڤسكي لم يكن أمامه سوي الالتزام بالصمت. سرعان ما استقال دستويڤسكي بعد أن أنهي بصعوبة دراسته العسكرية، ليتجه إلي الكتابة، التي رأي فيها سبيله الوحيد للعيش. في الثامنة عشر من عمره كان قد أصبح يتيم الأب والأم مع كومة من الأخوة والأخوات. وفي الرابعة والعشرين انفتحت أمامه صالونات بطرسبورج بعد النجاح المدوي لروايته »الفقراء». وفي هذا الوقت سوف يتعرف علي زوجة الأديب إيڤان بانايڤ، أفدويتا ياكوڤليڤنا، لدي زيارته له في بيته، ليقع في هوي الزوجة علي الفور. بعد مرور ثلاثة أشهر علي هذه الزيارة يكتب لأخية قائلاً : »أنا مُتيَّمُ بحق ببانايڤا... أعصابي مريضة وأخشي الوقوع في الحمي أوالهذيان». كان أول حب يصادفه مُعذِّباً وانتهي علي نحو مخز. فالحسناء ذات الشعر الأسود والإثني وعشرين ربيعاً لم تول هذا الشاب الأشقر العصبي، صاحب الوجه الشاحب، أي إهتمام، بل أصبحت عشيقة للشاعر نيكولاي نكراسوف، الأكثر وسامة وثروة، والأكثر شهرة. أمر يمكن فهمه... ومع ذلك لايستحق الأمر التفكير في أن هذا العاشق البائس كان ما يزال غراً، بناء علي اعترافه هو نفسه. لم يرفض فيودور دستويڤسكي المشاركة في الولائم، التي كان يقيمها رفاقه وحضور الأمسيات الصاخبة، التي كانت تنتهي عادة بالمرور علي بيوت الدعارة. عندما بلغ دستويڤسكي من العمر أربعة وعشرين عاماً كتب يقول : »لقد أصبحت فاجراً، إلي حد أنني لم أعد أستطيع أن أحيا بصورة طبيعية، إنني أخاف أن أصاب بالتيفود أو الحمي وأعصابي مريضة»، كتب كذلك »فتيات من أمثال مينوشكا وكلاروشكا ومارينا وغيرهن يزددن جمالاً إلي حد لا يُصدَّق، لكنهن يكلفنني كثيراً من المال. منذ عدة أيام مضت راح كل من تورجينيف وبيلينسكي يوجهان لي السِباب هباءً بسبب حياتي المختلة». سرعان ما تحول النجاح الأدبي إلي فشل. فالرواية التالية »المِثْل»، لم تلق إعجاب الجمهور أو النقاد. لقد »ذهب دستويڤسكي إلي الحضيض». يقول نيكولاي ستراخوف، كاتب سيرة دستويڤسكي وصديقه المقرب، إن وصف شباب بطل »مذكرات من قبوي» هو بمثابة سيرة ذاتية له : »كنت أبلغ من العمر آنذاك أربعة وعشرين عاما. كانت حياتي عبوسة، تجنح إلي الفوضي، تخيم عليها الوحدة والوحشة... وفي بيتي كنت أعكف علي القراءة معظم الوقت، ولكنني من حين لآخر أشعر بالملل الشديد... كنت أرغب في الحركة، وإذا بي أجدني فجأة أُغرق نفسي لا في مجون بشع، وإنما في بعض من الفجور الصغير... كانت نوبات من الهيستيريا مصحوبة بالدموع والاضطراب تعصف بي... كنت أمارس الفجور وحيداً، ليلاً، سراً، بإحساس بالجبن والعار، كنت أخشي أن يراني أحد ما، أو يتعرف عليّ... كنت أتردد علي أكثر الأماكن الغامضة المشبوهة». عندما بلغ دستويڤسكي ثمانية وعشرين عاماً أُولع بالاشتراكية الطوباوية لينضم إلي حلقة بتراشيڤسكي، ومن هنا، وبعد عذاب مسرحية الإعدام المزعومة المرعبة، يذهب إلي المعتقل، حيث يلتقي بعد ذلك في منفاه بزوجته الأولي. الآن يلتقي دستويڤسكي وقد أصبح رجلاً ناضجاً في الثالثة والثلاثين من العمر بماريا ديمترييڤنا في مدينة سيميبالاتينسك، إمرأة متزوجة من إيسايف، مدرس الثانوي السكير البائس. كانت تتشكي لدستويڤسكي وتتدلل لضيفها الغريب، لتنفس له عن همومها. هام بها عشقاً. جعله التعاطف والحنان يأخذ الأمر باعتباره شعوراً متبادلاً. راح يخفف عنها بكل ما أوحت له به رغباته المكتومة وخيالاته الإيروتيكية والرومانسية، التي تراكمت لديه علي مدي سنوات الحبس الإجباري. كانت حساسيته المفرطة تجاه آلام الآخرين تثير رغباتها. وسرعان ما تنامت علاقتهما لتصبح ارتباطاً قوياً، وليساعدهما الحظ فيموت الزوج السكير هنا كان عليهما أن يتزوجا. لكن ماريا ديمترييڤنا شديدة الحماس كانت تعاني مشاعر الشك. كانت تكتب لدستويڤسكي خطابات تارة مليئة بالكراهية علي نحو هيستيري، وتارة تكتب له خطابات غرامية تفيض ولعاً وشوقاً إليه. هذا اللعب قتله، إذ كان يحبها بكل قوته ولهفة الحب الذي جاء متأخراً. وإذا بها بعد فترة من الزمن تبوح له بسرها لقد أصبح لديها خطيب، عاشق شاب فقير يبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما يدعي ڤيرجونوف. كان دستويڤسكي علي شفا الجنون. راح يتعذب، وراحت تتعذب وتُعذب في الوقت نفسه عشيقها القديم وعشيقها الجديد، وكأنما وجدوا جميعهم في ذلك متعة من نوع خاص. في عام 1856 كتب دستويڤسكي يقول : »ما تزال كما في السابق هي كل حياتي، أحبها بجنون، قد يدفع بي فراقها إلي الإنتحار... أنا مجنون بائس. الحب علي هذه الصورة داء عضال». ولكنه وبعد أن تحسنت أحواله المادية تزوج من ماريا ديمترييڤنا في كنيسة هادئة في مدينة كوزنتسك الصغيرة. تحولت الليلة الأولي للزوجين الشابين إلي كابوس، إذ داهمته نوبة صرع فظيعة. وقد تبين أن الشابة أيضاً ذات طبيعة هيستيرية مع ميل واضح إلي جنون الاضطهاد والسوداوية وأعراض البارانويا. تغضب علي نحو خاطف، وفي سورة غضبها تصيح وتنتحب حتي تنهار من الإعياء، وبعد أن تهدأ تطلب العفو باستسلام يكاد قلب دستويڤسكي ينفطر من أثره. كان يجثو علي ركبتيه ويُقبلِّ يديها. بدلاً من شهر العسل كان قدرهما أن يسقطا في الإحباط والفشل في الوصول إلي أي قدر من الانسجام. هنا تحولت نبرة دستويڤسكي في خطاباته تماماً : »نعيش علي نحو ما». حتي يدرك القارئ علي نحو أفضل شخصية زوجة دستويڤسكي الأولي، عليه أن يعود ليري صورة مستنسخة منها في شخصية ناستاسيا فيليبوڤنا من رواية »الأبله». علي نحو تدريجي عاد دستويڤسكي إلي الكتابة. في عام 1859. تمت الإستجابة إلي طلبه في العودة إلي الجزء الأوربي من روسيا. انتقلت الأسرة إلي مدينة تڤير. وهناك أدلة علي أن عربة ڤيرجونوف ظلت تتبعهما منذ أن غادرا سيبيريا، وكانت ماريا ديمترييڤنا تهرع إلي ڤيرجونوف في الخفاء ليلاً، حيث يسكن في نُزُل مجاور. لا توجد أدلة رسمية علي هذه الحكاية، لكن زواجهما انتهي في تڤير إلي فشل ذريع : لقد اعترفت ماريا ديمترييڤنا أنها لم تحب سوي السجين الآخر. الحقيقة، أن الزوجين لم يستطيعا الفراق. يقول دستويڤسكي في خطاب لأخية : »علي الرغم من أننا كنا تعساء بشكل مطلق، فإننا لم نستطع التوقف عن حب كل منا بالآخر : حتي أننا كلما ازدادت تعاستنا، كلما ازددنا تعلقاً كل منا بالآخر». في عام 1860 يسافران إلي بطرسبورج، لكن ماريا ديمترييڤنا لم تتحمل المناخ البارد والطقس الردئ للعاصمة فاضطرا للعودة مرة ثانية إلي تڤير. منذ هذه اللحظة أصبح زواجهما حبراً علي ورق. سافر فيودور دوستويڤسكي إلي الخارج خلف عشيقته الشابة الجميلة، وبعدما عاد من الخارج، وجد ماريا ديمترييڤنا في حالة سيئة. كانت جثة حية، تعاني من نوبات هيستيرية. وقد ماتت من جَّراء السل الرئوي. بعد موتها كتب دوستويڤسكي قائلاً : »الكائن الذي أحبني، والذي أحببته بلا حدود، زوجتي، توفيت في موسكو، لقد أحبتني بلا حدود، وقد أحببتها كذلك بلا حدود، لكننا لم نكن سعداء معاً». إن كانا حقاً أحبا كل منهما الآخر، فياله من حب عجيب... كان دوستويڤسكي وهو ما يزال واقفاً عند طرف سرير ماريا ديمترييڤنا وهي تحتضر يفكر في المرأة الأخري بكل ما أوتي من ولع ورغبة وغيرة. لقد بدأ الأمر بينهما قبل تلك اللحظة بكثير، فذات يوم، وبعد واحدة من المحاضرت العامة، التي كان يلقيها، اقتربت منه فتاة ممشوقة القوام، حسناء ذات شعر أحمر وسلَّمت الكاتب خطاباً. كان اعترافاً غرامياً متأججاً بالشوق، كتبته بنفسها هذه الفتاة أبولليناريا سوسلوڤا. لقد أصبح دوستويڤسكي، بين يوم وليلة، الرجل الأول في حياتها. واستناداً إلي يوميات أبولليناريا فقد »انتظرتْ الحب» حتي بلغت الثالثة والعشرين من عمرها، ثم »أعطت له نفسها دون سؤال، دون حسابات». وفي الحقيقة فإنها لم تبحث فيه لا عن الجمال ولا عن الجاذبية الجسدية، لم تر فيه سوي الكاتب والشهرة، التي كانت تتزايد يوماً بعد الآخر. كانت تعلق نفسها بالأماني وأن رجلاً أربعيني ذائع الصيت واقع في هواها. لقد ذهبت أبولليناريا إلي دوستويڤسكي بمحض إختيارها العقلي، أما في مجال العلاقة الحميمية فقد كان الإحباط بانتظارها. فيما بعد كتبت له تقول : »لقد إفتقدت علاقتنا الجسدية كل ما هو رومانسي. لقد كانت بالنسبة لك علاقات مهذبة، لقد كنت تتصرف كرجل جاد، رجل مشغول، يؤدي واجباته علي طريقته، لكنه لاينسي نصيبه من المتعة، بل علي العكس، كان يري أن من الضروري، بناء علي ذلك،كما أكد له طبيب كبير، أن يسْكر مرة كل شهر». المنهجية، الإتزان، الدقة المتناهية في مواعيد فعل »الخطيئة» كان أكثر ما أثار دهشة سوسلوڤا وأشعرها بالمهانة. محافظاً علي زوجته المريضة من الشائعات بكل وسيلة، لم يفصح دوستويڤسكي بأي شيء من أجل صديقته »بالينسكا». لم يكن بمقدورها أن توافق علي عدم المساوة في وضعها مع زوجته، معتبرة أنها أعطت في سبيل هذا الحب كل شيء، وأنه لم يُعط شيئاً. كان أمراً قبيحاً وسيئاً أن يلتقيا في الغرف المؤجرة. وضعْ الخيانة في وجود زوجة أنهكها المرض، كل هذه »العلاقة غير الشرعية» مع تلك التفاصيل الظاهرية، التي تتحول في اليوم التالي إلي إحساس بالألم والخجل. بعد ستة أشهر بدأت أبولليناريا سوسلوفا في الإصرار علي السفر إلي الخارج، حتي يتمكنا من العيش معاً في حرية من دون أن يلجئا للتخفي. لكن دوستويڤسكي أضطر للبقاء ريثما يُدبر شئون مجلته. وعندئذ سافرت وحدها. لم يستطع دوستويڤسكي أن يلحق »بمعبودته بولينكا» في باريس إلا بعد ثلاثة أشهر، علي أنه بعدما وصل كانت بانتظارة ضربة قاصمة. لقد أحبت »بالينا» شخصاً آخر ! وقد اتضح أن منافسه السعيد هو طالب إسباني يدعي سالڤادور، نجح بعد فترة في أن يفقد اهتمامة بهذة »الروسية المجنونة»، بعد أن قضي وطره منها وراح يتهرب منها في أنحاء باريس كلها. وقع علي رأس دوستويڤسكي سيل من الشتائم لتأخره (لو أنه جاء في موعده، ربما إستطاعا أن يكونا سعداء) ناهيك عن نوبات الهيستيريا التي انتابتها علي أثر هذه الكارثة الغرامية. مرة أخري المرأة التي أحبها تخونه ومع ذلك يُضطر هو نفسه لمواستها وتقديم النصائح لها. ومن ثم يدخل حبه دائرة جهنمية جديدة : تتحول معاناته إلي لذة. عموماً »كما لدي الناس جميعاً». ومع هذا فقد قررا أن يواصلا رحلتهما المقررة، ولكن في هذه المرة، ليس باعتبارهما عاشقان، وإنما... صديقان. هذا ما صرحت به أبولليناريا. كانت أوضاع دستويڤسكي بالغة الصعوبة، ظل طوال الوقت يقامر، لينفقا ما لديهما من مال. لم تكن أبولليناريا لتلقي بالاً إلي هذا الأمر، كانت مشغولة بمعاناتها. كانت تقدم باستمرار الأصدقائهاب مشاهد تعبر عن الروح الروسية الغامضة. فيما يلي مقطع من يوميات سوسلوڤا »بالأمس عاد ف.م (فيودور ميخايلوڤيتش) يُلحِّ عليّ. كان يريد أن يعرف سبب عنادي. كانت لديه فكرة مفادها أن رفضي هو مجرد نزوة، رغبة في تعذيبه. قال لي : هل تعلمين أنه لا ينبغي تعذيب الرجل لمدة طويلة، لأنه، في النهاية، سيكف عن المحاولة. لم أستطع إلا أن أضحك. قال ف.م وهو يغادر غرفتي أنه أمر مخز أن أهجره علي هذا النحو (كانت الساعة الواحدة ليلاً، وكنت أرقد في فراشي عارية). الروس لا يستسلمون أبدأ». كان تجوالهما أشبه بالسير علي الأشواك، أكثر من كونه رحلة عاطفية. في شتاء عام 1863 عاد دوستويڤسكي إلي روسيا، إلي زوجته التي كانت تحتضر، بينما بقت أبولليناريا في برلين، محاولة أن تعمل »بالأدب» وأن تضاجع هذا وذاك بلا تمييز. في هذا الوقت كتبت عن دوستويڤسكي تقول : »إنني أكرهه. لقد دفعني كثيراً للمعاناة، عندما كان من الممكن أن نعالج الأمر دونما ألم علي الإطلاق» عندما وجد دوستويڤسكي نفسه عاجزاً عن الخلاص من وساوسه حول أبولليناريا، راح يبحث هو نفسه عن حلول خيالية للخروج من هذا الوضع. قرر أن يتزوج من أي فتاة طيبة طاهرة. وقد عرَّفته الصدفة علي فتاة جميلة موهوبة تبلغ من العمر عشرين ربيعاً، من عائلة نبيلة رائعة، هي أنَّا كورڤين كروكوڤسكايا، الأخت الشقيقة لصوفيا كوڤاليڤسكايا (التي كانت، بالمناسبة، مغرمة بدوستويڤسكي). عندما نما ذلك إلي علم سوسلوڤا راحت تكتب له خطابات تعبر فيها له عن ندمها. بسذاجة عجيبة انطلق مسافراً إلي الخارج، ضارباً عرض الحائط بكل مشروعاته للزواج. كان متعطشاً للحب والقمار. فالقمار ينبغي أن يجلب له المال، بينما يجلب له الحب والسعادة. هيهات. لم يتحقق له لا هذا ولا ذاك. ومن جديد يعود فيودور ميخايلوڤيتش خالي الوفاض، لتعطيه أبولليناريا ما يمكن اعتباره إحساناً بلا رغبة. عرض عليها دستويڤسكي الزواج فرفضته ساخرة. وبعد ثلاث سنوات من الحب والخيانة والخصام والصلح أعلنت أبولليناريا أنه قد حان وقت الفراق. كان دستويڤسكي قد أضناه التعب، لقد مزقته أيما تمزيق، حتي بات ينشد السكينة، لكنه راح فيما تبقي له من العمر يصفها »بالصديق دوماً»، تنتفض خلجاته لدي سماعه اسمها، ومن جديد راحا يتراسلان مخفياً ذلك عن زوجته الثانية، واصفاً إياها في أعماله. بالينا في »المقامر» هي صورة لأبولليناريا سوسلوڤا دون نقصان. تُعد قضية إغواء القاصرات، أو إن شئنا الدقة، مشاهد اغتصاب فتيات في عدد من روايات دستويڤسكي، أمر مثير لإهتمام القارئ. في »الشياطين» يحكي ستاڤروجين، الشخصية العظيمة والغامضة، الذي كان يُلقَّب »بالأمير هاري»، كيف أنه ذات يوم اغتصب فتاه عمرها إثنتي عشر عاماً، ثم دفعها بعد ذلك إلي الإنتحار. وقد رفض رئيس تحرير مجلة »البشير الروسي»، حيث كانت الرواية تظهر علي صفحاتها، أن ينشر هذا الفصل بسبب »واقعيته التي لا تُحتمل»، وكان دستويڤسكي قد قرأه قبل ذلك علي صديقيه الناقد ستراخوف والشاعر مايكوف وغيرهم، طالباً منهم أن يمدوه بآرائهم. في خطابه إلي ليڤاتولستوي أعاد ستراخوف هذه الحكاية وكأن دستويڤسكي يفاخر بعلاقة جنسية أقامها مع فتاة في أحد الحمامات أرسلتها إليه مربية أطفال. لكن أرملة الكاتب، أنَّا جريجوريڤنا، كتبت في »مذكراتها» تقول لقد ألصق ستراخوف هنا الفعل المشين، الذي قام به ستاڤروجين، بفيودور ميخايلوڤيتش نفسه »ناسياً أن القيام بهذا الفعل الدنئ يتطلب نفقات باهظة لا تتوفر إلاَّ لدي الأثرياء». علي أية حال، لم تكن أنَّا راضية تماماً عن هذه الحجة الساذجة فراحت تتحدث بعد ذلك عن الخصال الأخلاقية الرفيعة لزوجها (أنظر ترجمتنا لمذكرات زوجة دستويڤسكي من ص 496 وحتي ص 509 من إصدار المركز القومي للترجمة). الحقيقة أن شائعات شبيهة عن دستويڤسكي قد ترددت في الأوساط الأدبية في بطرسبورج في الستينيات من القرن التاسع عشر أيضاً، وقبل أن يكتب »الشياطين» بست سنوات. وقد تحدث عن ذلك رفيق شباب دستويڤسكي الكاتب جريجوري يتش. ففي أثناء إحدي المحاكمات بشأن اغتصاب فتاة عمرها عشر سنوات، علي حد قوله، أثار ذلك رغبة دستويسكي نحوها، فتتبعها بعد المحاكمة ونال منها. أما الأديب فاريسوف فقد نقل عن نازاري، إحدي المعارف القريبات من دستويسكي كلاماً يشي بأن دستويسكي قد قصّ عليها بنفسه كيف أقنع إحدي مربيات الأطفال واتفق معها ومع فتاة قاصر. بسبب الوحدة والحاجة إلي شخص قريب أصبح زواج دستويڤسكي صاحب الخمسة وأربعين عاماً فكرة مُلحة. وفضلاً عن ذلك، فقد بدأ الدائنون في ملاحقته والتضييق عليه. وحتي يتمكن بأقصي سرعة من الانتهاء من كتابة روايتيه »الجريمة والعقاب» و »المقامر»، استعان بالمختزلة أناَّ جريجوريڤنا سنيتكينا البالغة من العمر تسعة عشر عاماً، العاشقة لروايات الكاتب الشهير، وقد وافقت علي العمل معه ولو بدون مقابل. لم تدهشها طباع دستويڤسكي الغريبة ولم تخيفها إحباطاته، وقد أذهله المشاركة المخلصة لهذا الكائن الرقيق الطيب في مشكلاته. ظل دستويڤسكي يتعذب طويلاً بسبب عوزه والفارق الهائل بينهما في السن، ومع ذلك فقد عرض عليها الزواج. وقد فوجئ بموافقتها عن طيب خاطر وسرور. كان كلاهما في حالة لا حدود لها من الفرح. هي المرة الأولي التي يشعر فيها دستويڤسكي بكل هذه السعادة والهدوء. كان علي أنَّا جريجوريڤنا الشابة أن تتحمل الكثير من المعاناة : الغيرة الجنونية لدي زوجها، ميلاد الأطفال ووفاة بعضهم، نوبات الصرع الرهيبة، الولع القاتل بالقمار، لكنها نجحت في علاجه منه. لقد أحبته بحرارة كرجل و إنسان، كزوجة وعشيقته، كأم وإبنة. وقد أحبها هو حباً أبوياً، وكفتاة وشابة بريئة. هذا المزيج من كل هذه العناصر شكَّل حماية له من الوقوع في براثن الإثم، ربما هذا تحديداً لم ينظر دستويڤسكي إلي أي امرأة أخري ولم يخن أنَّا جريجوريڤنا »حتي في أفكاره». هذه »القطة الرمادية» التي لا تمتلك أي مواهب خاصة، استطاعت أن تحافظ علي زواجها عند أعلي درجة من التوتر الجنسي علي مدي حياتهما العائلية. عندما بلغ دستويڤسكي من العمر ثمانية وخمسين عاماً كتب إليها يقول : »أحلم بك كل ليلة... أُقبِّلك بكاملك، يديك، أحتضن قدميك... حافظي علي نفسك، حافظي من أجلي، هل تسمعين، أنكا ، من أجلي فقط... أُقبلك في كل دقيقة في كل أحلامي، آنيتشكا، عزيزتي، لا أستطيع مطلقاً تحت أي ظرف من الظروف أن أفترق عنك. عن مُدلَلَتي الفاتنة، أُقبِّل ساقيك، ثم شفتيك، ثم من جديد...» لقد حذفت أنَّا جريجورريڤنا بنفسها علي أية حال الكلمات التي رأت أنها صريحة للغاية. من المهم أن نذكر هنا أن دستويڤسكي في رواياته لم يرسم لنا شخصية نسائية واحدة »مستنسخة» من أنَّا جريجوريڤنا. يري النقاد أنه بقدر ما ذابت هذه المرأة في زوجها العظيم، فقد كان يتصورها لا كإمرأة وإنما كجزء منه. كانت النتيجة المادية لهذا التوتر الجنسي لديه أربعة أطفال (برغم الظروف السيئة، برغم الصرع، وبرغم زواجه في العقد الخامس من عمره ) أما النتيجة الروحية فقد تمثلت في إبداع هذا العجوز (بمقاييس ذلك الزمان) الذي بلغ من العمر ستين عاماً »للإخوة كارامازوف» هذه الأغنية الشهوانية للحب الشهواني.