سقوط الأمطار على عدة مناطق.. الأرصاد توضح حالة الطقس اليوم الثلاثاء 7 مايو 2024    أسعار الذهب اليوم الثلاثاء 7 مايو 2024 في مصر    بدء تلقي طلبات التصالح في مخالفات البناء الجديد بالمراكز التكنولوجية بكفر الشيخ    أسعار الخضار والفاكهة اليوم الثلاثاء 7-5-2024 داخل سوق العبور    التصديري للصناعات الغذائية: 53% نموًا بصادرات القطاع لفلسطين خلال الربع الأول    بنمو 77%.. أرباح «الإسكندرية للأدوية» تقارب 192 مليون جنيه في 9 أشهر    تنظيم 90 قافلة طبية وعلاج 71 ألف حالة ضمن مبادرة حياة كريمة بالجامعات    برلماني يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لمنع كارثة إنسانية جديدة في رفح    غارات الاحتلال دمرت المنازل.. ليلة دامية على الفلسطينيين في رفح    زعيم المعارضة الإسرائيلي: على نتنياهو إنجاز صفقة التبادل.. وسأضمن له منع انهيار حكومته    حرب غزة.. آخر تطورات جهود مصر للتوصل إلى هدنة ووقف إطلاق النار وتبادل الأسرى    رويترز: جيش الإحتلال الإسرائيلي يسيطر على معبر رفح الفلسطيني    الأهلي يلتقي الاتحاد السكندري الليلة فى الدوري    بث مباشر مباراة الأهلي والاتحاد السكندري بالدوري    عبد الجليل: استمرارية الانتصارات مهمة للزمالك في الموسم الحالي    مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء في الدوري المصري والبطولات العالمية    قبل انطلاقها، الخريطة الزمنية لامتحانات نهاية العام 2024 بالجيزة    زوج الأم كلمة السر.. دماء بمنطقة حساسة تكشف انتهاك جسد صغير بولاق الدكرور    بالصور.. حريق هائل يلتهم مخزن قطن و4 منازل بقيسارية سوهاج    تي شيرتات عليها صورة جانيت السودانية أمام محكمة التجمع    زحام مروري بشوارع القاهرة والجيزة ( فيديو)    مصرع سيدة أربعينية أسفل عجلات قطار المنيا    كواليس كوميدية تجمع أبطال مسلسل لعبة حب    إصابة الملك تشارلز بالسرطان تخيم على الذكرى الأولى لتوليه عرش بريطانيا| صور    الجيش الإسرائيلي: تم إجلاء الغالبية العظمى من السكان في منطقة العمليات العسكرية شرقي رفح    ميدو: الزمالك رفض التعاقد مع علي معلول    أسعار الأسمنت اليوم الثلاثاء 7 - 5 - 2024 في الأسواق    الزراعة: 35 ألف زائر توافدوا على حدائق الحيوان والأسماك في شم النسيم    اليوم.. مجلس النواب يناقش حساب ختامي موازنة 2022/2023    Bad Bunny وSTRAY KIDS، أفضل 10 إطلالات للنجوم بحفل الميت جالا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 7-5-2024    هل يجوز أداء سنة الظهر القبلية أربع ركعات متصلة.. مجدي عاشور يوضح    صدق أو لاتصدق.. الكبد يستعد للطعام عندما تراه العين أو يشمه الأنف    ياسمين عبد العزيز:" عملت عملية علشان أقدر أحمل من العوضي"    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الثلاثاء 7 مايو 2024    صدقي صخر: تعرضت لصدمات في حياتي خلتني أروح لدكتور نفسي    شبانة: هناك أزمة قادمة بعد استفسار المصري بشأن شروط المشاركة في بطولات افريقيا    رامي صبري يحيي واحدة من أقوى حفلاته في العبور بمناسبة شم النسيم (صور)    كريم شحاتة: كثرة النجوم وراء عدم التوفيق في البنك الأهلي    أمين البحوث الإسلامية: أهل الإيمان محصنون ضد أى دعوة    صدقي صخر يكشف مواصفات فتاة أحلامه: نفسي يبقى عندي عيلة    صليت استخارة.. ياسمين عبد العزيز تكشف عن نيتها في الرجوع للعوضي |شاهد    اللواء سيد الجابري: مصر مستمرة في تقديم كل أوجه الدعم الممكنة للفلسطينيين    الدوري الإنجليزي، مانشستر يونايتد يحقق أكبر عدد هزائم في موسم واحد لأول مرة في تاريخه    فرح حبايبك وأصحابك: أروع رسائل التهنئة بمناسبة قدوم عيد الأضحى المبارك 2024    إبراهيم عيسى: لو 30 يونيو اتكرر 30 مرة الشعب هيختار نفس القرار    الأوقاف تعلن افتتاح 21 مسجدا الجمعة القادمة    ب800 جنيه بعد الزيادة.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي الجديدة وكيفية تجديدها من البيت    "يا ليلة العيد آنستينا وجددتي الأمل فينا".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 وأجمل عبارات التهنئة بالعيد    يوسف الحسيني: إبراهيم العرجاني له دور وطني لا ينسى    ياسمين عبد العزيز تكشف ل«صاحبة السعادة» سبب طلاقها من أحمد العوضي    هل يحصل الصغار على ثواب العبادة قبل البلوغ؟ دار الإفتاء ترد    رغم إنشاء مدينة السيسي والاحتفالات باتحاد القبائل… تجديد حبس أهالي سيناء المطالبين بحق العودة    بعد الفسيخ والرنجة.. 7 مشروبات لتنظيف جسمك من السموم    للحفاظ عليها، نصائح هامة قبل تخزين الملابس الشتوية    كيفية صنع الأرز باللبن.. طريقة سهلة    أستاذ قانون جنائي: ما حدث مع الدكتور حسام موافي مشين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مكان وسط الزحام
نشر في أخبار السيارات يوم 21 - 07 - 2018

ذات صباح بارد من شهر أكتوبر 1973 أدخلت نفسي المدرسة، ليخرجني أبي منها بعد خمس سنوات، فيعيدني أحد المدرسين إليها، برغبة مني، ولو أن عزيمته تراخت في إرجاعي، أو استسلمت أنا لضغط أبي، وكان ذا جبروت علينا، لتغير مسار حياتي تمامًا، فلم أزد عن أن أكون أجيرًا ينكسر ظهره في حقول الفلاحين تحت الشمس المستعرة، أو عامل تراحيل يجلس علي قارعة الطريق في مدينة متوحشة في انتظار من يشير إليه بطرف إصبعه، فيهب مسرعًا إليه، ليجد ما يضعه في قعر جيبه، ويملأ به بطنه، بينما ابتسامة خجلي تجرح شفتيه المقددتين من طول الانتظار والأسي، ولو حسن حالي لصرت تاجر حبوب يجول علي الزراعات بحمار يئن تحت ثقل المحاصيل التي يجمعها، ويذهب بها إلي السوق، متطلعًا في لهفة ورجاء إلي الداخلين.
لكن أبي لم يلبث أن أدرك بعد سنين أن التعليم هو الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام أمثالنا كي نترقي في المعاش، فعول عليَّ، وقال لي في لحظة فاض فيها حنانه المخبوء علي جدران قلبه فامتلأت عيناه بدموع حارة:
أنت عكازي.
إنها اللحظة الأشد تأثيرًا في طفولتي، والتي لا يمكنني أن آتي علي ذكر أيامي الأولي في قريتي العزلاء المنسية دونها. كانت لحظة انتشالي من بؤسي وضعفي وضيقي إلي براح ستمنحه المدرسة لي في أيامي اللاحقة، حيث راحت مداركي تتسع، ويلوح لي ولو من بعيد هدف يمد إليَّ يده مبتسمًا ويدعوني للسير نحوه بخطي ثابتة، وأنا ألبي طائعًا فَرِحًا خلال زمن كنا نؤمن فيه إيمانًا عميقًا بأن صعود درجات سلم الحياة الطويل هي السبيل الطبيعي والصحي الذي علينا أن نسلكه صابرين، وأن التعليم، بالنسبة للفقراء من بني أحوالنا، هو الوسيلة المثلي للتحرك إلي الأمام وأعلي، وأن بذل الجهد يفتح أمامنا الأبوب الموصدة، وأن لكل مجتهد نصيب حتي لو انتظر حصاد ما زرع سنين عددا.
نعم أدخلت نفسي المدرسة، وكأنني كنت مجذوبًا إلي نداء من وراء الحجب، ملك روحي وعقلي، وكنت ملهوفًا علي الخطوة الأولي التي ستغير حياتي، وتقلبها رأسًا علي عقب. وأدركت بعد أن مضت بي الحياة أن الخطوة الأولي نحو بناية جديدة بيضاء تبدو من بعيد وسط الزرع الأخضر حمامة عملاقة لا تطير، لم تذهب سدي، أو تروح بلا جدوي.
فذات يوم استيقظت لأجد القرية في ضجة كأن عرسًا قد حل في كل بيت، خصوصًا بيوت بعض الأطفال الذين ألعب معهم فوق تراب الشوارع وعلي الجسر الذي يحاذي ترعة يسبح فيها العيال الذين يكبروننا سنا ومعهم البط والأوز، ويطل علي بساط الزرع الأخضر الممتد إلي نهاية البصر. رأيتهم يلبسون ملابس نظيفة، ويسيرون فرحين معلقين أيديهم في أيدي آبائهم، ثم يخرجون من باب القرية إلي الجسر، وينعطفون يسارًا. جريت نحوهم، وسألت أحدهم:
إلي أين أنت ذاهب؟
رد بوجه مشرق:
إلي المدرسة.
ذهبت معهم، رغم أنني في هذا الصباح كنت حافي القدمين، كعادتنا في تلك الأيام حين كنا نتخفف من أحذيتنا الرخيصة أو أي شيء ننتعله، إن وجد أصلًا. لم يشغلني وقتها، أن أري نعال الكاوتشوك الواهن تطوق أقدامهم، بعد أن اشتراها آباؤهم من البندر خصيصًا لهذه المناسبة السعيدة، كي تحافظ علي الأقدام الصغيرة كمخالب القطط من تراب الجسر وأشواكه، بينما تغوص قدماي في التراب الغزير. وصلت معهم إلي المدرسة، وكانت أول مدرسة تفتح أبوابها في قريتنا، فقبلها كان من يلحقه أهله بالتعليم يذهب إلي واحدة من قريتين أبعد قليلا هي »زُهرة»‬ أو أقرب قليلًا هي »‬عزبة بُشري».
أوقفنا المدرسون في صفوف بعد أن أخذ العمال الصغار من أيدي أهليهم، وتركوهم يقفون علي الجسر يتابعون في امتنان ما يجري لنا. ولأني أتيت بلا أهل، فقد انزويت بعيدًا متحينًا فرصة للدخول.
أدخلونا إلي الفصل، وكان واحدًا من ثلاثة، هي كل المدرسة، وكان به يؤمئذ ثلاثة وخمسين تلميذًا، وآخر زائد هو أنا. راح مدرس الحصة الأولي يعد رؤوسنا فوجدها أربعة وخمسين. وقف محتارًا ثم أعاد العد، وأدرك أن هناك زيادة. أخرج ورقة من حقيبته الجلدية، وقال:
من يسمع اسمه يأتي عند السبورة.
وخرج التلاميذ متتابعين، وتزاحموا حول المدرس بجسده الفارع، بينما أخذ هو يشير إليهم كي ينتظموا حتي يستوعبهم المكان الضيق. فلما انتهي وجدني جالسًا هناك وحيدًا في مقعد خلفي. أشار إليَّ فجريت إليه، وسألني:
ما اسمك؟
قلت له وقلبي يرتجف:
عمار علي حسن.
عاد ينظر في الورقة، ويحط سبابته عليها حتي انتهي منها وقال لي:
كيف أتيت إلي هنا؟
نظرت في وجوه أقراني، وأجبته:
جئت مع العيال.
نظر إلي قدميَّ الحافيتين، وأمسك كفي اليمني، وتقدم بي نحو باب الفصل، وهو يقول:
اسمك ليس موجودًا، عد إلي البيت.
لكنني رميت جسدي علي عتبة الفصل، ورحت أصرخ في حرقة، ودموعي تسح علي خديََّ ساخنة. فلمَّا وجدني متشبثاً بالبقاء، أوقفني، وربت كتفيَّ، ورأيت في عينيه شفقة عميقة، وقال لي:
تعال معي.
وأخذني إلي مكتب الناظر، الذي أتي بأحد السعاة، وكان من أهل قريتنا، وطلب منه أن يعيدني إلي أهلي:
وبينما كان الساعي خارجًا بي نحو الجسر، وأنا أتمرغ في التراب، دون أن أتوقف عن العويل والبكاء، رأيت أبي قادمًا علي مرمي البصر، فأوقفني من يسحبني حتي أتي أبي، وسلمني له.
كان قد سأل عني حين لاحظ اختفائي من القرية، وخشي أن أكون قد غرقت في الترعة كما يقع أحيانًا للصغار، فقال له جارنا أنه رآني أمشي وراء العيال الذاهبين إلي المدرسة.
قلت لأبي بصوت مفعم بالمرارة:
عاوز أرجع المدرسة.
لكنه لم يجبني رغم أنني كررت طلبي في إلحاح شديد.
لم أدر يومها لماذا أنا وحدي الذي تم طرده من الفصل هكذا، رغم أن من ألعب معهم أبقوهم علي المقاعد ينظرون إلي أول رقم في الحساب، وأول حرف في التهجي؟ وظل السؤال يراودني طيلة الأيام اللاحقة التي مكث فيها جميع التلاميذ في بيوتهم، إذ اندلعت الحرب في نهاية أول يوم دراسي، أو بمعني أدق لزملائي المسجلين بشكل رسمي في أوراق وزارة التربية والتعليم. وطاف سعاة المدرسة علي بيوت القرية، يطلبون من أولياء الأمور عدم الذهاب بأبنائهم في الغد، فالدراسة توقفت إلي أجل غير مسمي.
كففت عن البكاء حين وجدت شيئًا آخر جذب انتباهي. كانت طائرات حربية تمرق في السماء، مقلعة من مطار »‬المنيا» وعائدة إليه، بينما ينطلق صوت المذياع كالريح، ليملأ أسماع الناس، الذين تزاحموا في الشارع الرئيسي، الذي يشق بطن قريتنا، ليعلن عن عبور جيشنا قناة السويس، وتحطيم خط بارليف.
أتذكر أن الناس قد أخذوا يكبرون ويهللون دون أن يتخلوا عن حذرهم حيال ما يسمعون. وعرفت حين كبرت سر حذرهم، فقد سبقوا أن سمعوا صراخًا أجوف عن نصر مزعوم قبل ست سنوات انتهي بهزيمة قاسية.
وحين عادت المدرسة إلي فتح بابها، بعد توقف الحرب، تسللت مع الذاهبين، ودخلت الفصل، ليعود المدرس إلي طردي، فأعود إلي الصراخ والنحيب، وكنت هذه المرة مفطورًا أكثر من سابقتها، حتي أنني قضيت اليوم كله علي هذه الحال، فتقطع نياط قلب أمي، وقالت لأبي:
عليك أن تتصرف.
وتصرف أبي علي أفضل وجه أيامها، إذ ذهب إلي عضو »‬الإتحاد الاشتراكي العربي» في بلدة مجاورة وطلب مساعدته، فوعده خيرًا، وكان ممن يقدرون أن أهلي كانوا ميسوري الحال لفترة من الزمن، لم تلبث أن انقضت، حين بددت جدتي وجدي لأبي ما معهما، رافضين أن يستجيبا لنصائح الذين أشاروا عليهما بشراء أرض أو بيوت، فلما ولدت كان العوز قد زحف علينا حتي تمكن منا، وإن كنت قد شاهدت آثار يسر الحال في مشجب من حديد كانت تعلق عليه الذبائح في غرفة داخلية ببيتنا، وسرداب كان مكانًا لبنادق، وجلابيب من أفخم أنواع الأصواف يحتفظ بها أبي، وقبل كل هذا حكايات أهل القرية عن جدي وجدتي، التي ظلت تطاردنا، لاسيما من الرجل الذي نصحهما، وظل يقول لأبي كلما لاقاه:
آه لو سمع أبوك وأمك الكلام.
وعم »‬عشم الله متي» الذي تيسرت حاله بعد أن قضي سبع سنوات لا يأكل إلا الخبز والملح وجبن قليل، وعاش حتي التحقت بالجامعة، كان يقول لي دومًا:
بيتان في قريتنا لم يخدما في دوار العمدة، بيت جدك وبيت أبي.
ربما لهذا استجاب عضو الإتحاد الاشتراكي »‬أبو طه محمد إسماعيل» لأبي، وأخذه وأنا في يوم إلي ناظر المدرسة. فلما رآه أبي قال له:
علي فكرة، أنا كنت زميلك في المدرسة.
فأبي قضي فيها سنة واحدة، ثم هجرها بلا عودة، وكان قادرًا علي كتابة اسمه، أما موهبته في الرسم فكانت لاذعة، وهو ما لم أرثه منه، إذ كان بوسعه أن يرسم الوجوه وأشكال الحيوانات والأشجار والنخيل والبيوت ببراعة جلية، حتي أنني كنت أتعجب منه، وأقول لنفسي:
لو وجد من يرعي موهبته، ويدفعه إلي إكمال تعليمه، فربما صار رسامًا شهيرًا.
كانت جلسة دافئة، رغم أن الناظر لم يتذكر فيها أبي علي الإطلاق، لكنه قال له:
ليحضر ابنك إلي المدرسة استثناء، فسنه أصغر من السن القانونية المطلوبة بثلاثة أشهر، فإن استطعت قيده بعد انقضائها سأفعل، وإن لم يكن، فليلتحق بالمدرسة في العام القادم.
وهكذا دخلت الفصل، وجلست في الصف الأخير.
كان المدرسون يقرأون أسماء التلاميذ في الحصة الأولي لتسجيل الحضور والغياب، وظللت أنا الحاضر الغائب، لا أسمع اسمي، ولم يكن متاحًا لي أن أبدد حيرتي بالسؤال عن السبب، حتي جاء يوم الثاني والعشرين من ديسمبر من عام 1973، فسمعت اسمي للمرة الأولي، وطلبني الناظر في نهاية اليوم، وقال لي:
قل لأبيك أنني ألحقتك بالمدرسة، وسلم لي عليه.
لم يكن مشهد المدرسة هذا هو الأول الذي يحط في ذاكرتي، لكنه الأهم، وإن كان لابد من إزاحته جانبًا هنا، ولو قليلًا، لأستعيد مشهد البداية بالفعل، فكل إنسان يحاول أن يحفر في ذاكرته ليصطاد أول صورة، وأول حركة، وأول كلمة، وفي ذهنه، ربما دون أن يعي، رغبة جامحة في أن يكسر قواعد علم نفس النمو التي تنبئنا بأن كل ما جري لنا في السنوات الخمس الأولي يُمحي، كأنه لم يكن، ولا يعرف الفرد منا عن نفسه إلا ابتداء مما جري له بعد الخامسة من عمره. ربما يكون هناك استثناء، فالبعض يزعم أنه يتذكر واقعة جرت له في الرابعة أو الثالثة من عمره، أو حتي قبل هذا، لكن أتصور أن مرد هذا الزعم هو ما يتخيله هذا وهو ينصت إلي حكايات أهله عن طفولته المبكرة، فلما يتقادم الزمن بهذا الحديث، يستدعيه هو في لحظة ما وهو يظن أنه يأتي بالواقعة الأصلية، وليست بتلك التي رسمها خياله من حصيلة ما سمعه من الأهل والجيران.
وقد وقعت أنا في هذا من خلال حكاية قصتها أمي علي مسامعي عن أنني خرجت ذات ضحي من بيتنا هائمًا علي وجهي في الشارع، لكنني عدت أصرخ واضعًا يدي علي رأسي، وكنت أيامها لم أتكلم بعد، فهدهدتني أمي، وتركتني أعود إلي الشارع ماشيًا، فإذا بي أهرع إليها صارخًا من جديد، فعادت إلي ما فعلته سابقًا حين غادرني البكاء، وأطلقتني وهي تراقبني، فإذا بطفل يكبرني سنًا، كان قريبًا لجيراننا، يخرج من بيتهم وفي يده قطعة خشب يضرب بها رأسي، ويهرب إلي الداخل.
تخيلت ما جري لي هنا، رغم رحيله عن الذاكرة، لتبقي أول واقعة أتذكرها فعلًا، غير معروف لي زمنها علي وجه الدقة، لكنها تسبق دخولي المدرسة، فأري طفلًا صغيرًا، يرفع كفيه أمام عينيه ليخبئ الشمس عن ناظريه، فيتمكن من أن يري ثمار النبق اليانعة، التي تبدو ككرات صغيرة من ذهب أحمر، تلمع أكثر في الشعاع الصافي الدافق الذي يغمر الفروع والأغصان. وإلي جانبي خالتي الصغري، وابن خالتها، التي هي أخت جدتي لأمي بالطبع، وفي يده أحجار صغيرة، يقذف بها المناطق الحبلي بالثمر، فينهمر فوق رؤوسنا، وأجري لألتقطه وألقيه في جيب جلبابي، حتي امتلأ.
أعتقد أن هذا الشخص نفسه، الذي لا تزال ملامحه محفورة في رأسي رغم أنه هاجر من مصر قبل ثلاثين عاما، شريك في المشهد الثاني الذي يحط في ذاكرتي من طفولتي المبكرة، إذ أري نفسي محمولًا علي كتفيه، وهو يمشي علي طريق مسفلت يعلو النيل، ويحده الجبل، وشريط ضيق من الزرع، في إتجاه مولد العذراء بقرية جبل الطير، وإلي جانبينا تمشي اثنتان من خالاتي، تتبادل الكبري منهما معه حملي لمسافة حتي تتعب، فيأخذني هو، ثم يضعاني علي الطريق لأمشي بعض الوقت حتي أتعب فيعودان إلي حملي بالتناوب.
أتذكر بالطبع هذين المشهدين كأنني أري غيمة بعيدة تدفعها الريح بقوة، وتتشظي ملامحها ثم تعاود التلاقي والتماسك، لكنها لا تلبث أن تبحر في زرقة السماء الممتدة، فأعيد تشكيلها في رأسي من جديد، لأراها مرة أخري في عود لا ينقطع عني، ولا يمكن أن أتركه يفلت، لأنه ببساطة هو مبتدأ الحياة بالنسبة لي، وليس ذلك التاريخ السابق الذي دونوه في الأوراق الرسمية ليقول إنني ولدت قبل هذا بسنوات.
وإن عدت إلي ما جري في المدرسة، فقد كنت طفلاً تائهاً شاردًا طيلة الوقت، ولم أظهر أي نجابة في التعليم، حتي الصف الرابع، حيث جري ما لم أعرفه وقتها، إذ وجدت نفسي أتفوق بلا حدود، وأنتقل من المستوي المتوسط، أو ما هو أقل منه، إلي المركز الأول علي الصف. ويعود الفضل في هذا إلي أستاذ جديد، كان يُدرِّس لنا مادتي الحساب واللغة العربية، اسمه الأستاذ »‬نبيل أنس خليل»، انتقل إلي مدرستنا عام 1977، وآمن بقدراتي فشجعني تشجيعًا قويًا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.